العدد الأوّل - سنة 2022

01 - الافتتاحيّة - المساءلة في الكنيسة - الأب ميخائيل الدبس - العدد 1 سنة 2022

المساءلة وقوانينها في المنظور الدنيويّ

«من أحببتُه أوبّخه وأؤدّبه». (رؤيا ٣: ١٩)

لا تنفصل المساءلة عن المسؤول والمسؤوليّة. كلّ من هو في موقع المسؤوليّة هو مساءل. في نظم هذه الدنيا غياب المساءلة يقود، حتمًا، إلى استبداد المسؤول وإمعانه في تأمين مصالحه وما يراه لخيره، عوضًا من مصالح الآخرين وخيرهم. هنا منبع الفساد. ولا حاجة إلى استفاضةٍ في الكلام على هذا الشأن لأنّ هذا ما نلحظه اليوم، بوضوح، في البلدان التي يعمّها الفساد. لذا يقاس تقدّم المجتمعات ورقيّها بمقياس وضوح أنظمة المساءلة والمحاسبة ودقّتها. لا يصحّ أن يُترك الناس في ممارسة مسؤوليّاتهم أمام ضمائرهم وربّهم وحسب، بل هم مسؤولؤن تجاه من أوكلوهم شؤون دنياهم. من اعتاد الخطأ وأسّس حياته عليه لن يردعه ضمير أو حساب أخرويّ. هذا ما علّمنا إيّاه التاريخ في سِيَر بشرٍ أساؤوا إلى وكالة شعبهم لهم في قيادة مسيرة حياتهم الدنيويّة.

سنّت المجتعات لهذه الغاية قوانين شملت عقوبات، حُدِّد مستواها على قياس مدى الأذى الذي يسبّبه المسؤول المسيء استخدامَ مسؤوليّته. كما شملت قوانين إداريّة تفصيليّة ذات طابع وقائيّ، تحكم ممارسة المسؤوليّة لتجنّبَ المسؤولَ الانزلاق، عبر ميوله النفعيّة الذاتيّة، إلى مرضاتها على حساب مرضاة الجماعة ونفعها. أهمّيّة هذه القوانين الوقائيّة تفوق بكثير أهمّيّة قوانين العقوبات، لكونها تردع المسؤول عن الاستسلام لميوله الفاسدة وتُعَسِّرِ سبلَها. كما أنّ طابع الأولى الإنسانيّ – التربويّ يفوق بكثير مثيلها الثاني. كلّ هذا لا يُؤتى نفعُه إن غابت المساءلة.

المساءلة وقوانينها في المنظور الكنسيّ

ما قلناه عن المساءلة ونظمها الدنيويّة ينطبق، في أغلب أوجهه، على نظم الكنيسة وقوانينها. لذا ارتضت الكنيسة لذاتها قوانين وسمّتها مقدّسة ومن هذا الرضى التزمت تطبيقها ومساءلة من هم في موقع المسؤوليّة فيها. غير أنّ المساءلة الكنسيّة لا تقتصر على القوانين بل تتعدّاها إلى العلاقة الرعائيّة وهذا ما يباينها عن مثيلتها الدنيويّة ولنا في هذا الشأن كلام لاحق.

في المنظور الكنسيّ الجميع مسؤول والكلّ مساءل، لأنّ اللَّه خصّ الجميع بمواهب ليفعّلها خدمةً للجماعة وعبرها يكلّف اللَّه، مباشرة، كلًّا منّا بمسؤوليّة معرّضة للمساءلة، أيًّا كانت هذه المسؤوليّة ومن دون استثناء أيٍّ منها تحت أيّ ذريعة تدبيريّة أو لاهوتيّة. لا أحد في الكنيسة خارج نطاق  قوانينها ونطاق المساءلة. لم توضع القوانين لمن يسمَّون «بالعلمانيّين» فقط بل وضعت «للشعب» بمجمله، وبأكثر إلحاح لمن هم في موقع المسؤوليّة الإداريّة والرعويّة أعلمانيّين كانوا أم إكليريكيّين. وحده رأس الكنيسة وفاديها، المسيح يسوع، هو فوق المساءلة هو وحده المعصوم عن الخطأ.

موضوع المساءلة

تطال المساءلة في الكنيسة، بالطبع، الموضوع العقائديّ التعليميّ إذ له، إن أهمِل، تداعيات مهلكة لحياة الجماعة وإدارتها وقوانينها. بيد أنّ رافض المساءلة، بتعليل لاهوتيّ، ربّما يتنازل ليحدّها فقط في بعدها العقائديّ، ويفوته أنّ العقيدة يمكن أن تُهتَك باللسان والصياغات اللغويّة وأيضًا في المسلك الحياتيّ الأخلاقيّ. من هنا أدانت القوانين الكنسيّة من يخالف التعاليم العقائديّة وصياغاتها عبر التعليم الخاطئ ومن يخالفها عبر حياته وأخلاقيّاته.

عواقب رفض المساءلة

من يرفض المساءلة في الكنيسة يضع ذاته فوق الجماعة إذ يعتبر نفسه إمّا معصومًا عن الخطأ وإمّا، إن أقرّ بعدم عصمته واعترف بخطئه، أنّ لديه ربًّا يحاسبه يوم الدينونة. قبول المساءلة نضج إيمانيّ في الروح القدس وإقرار بناموس المحبّة. رفضها هو رفض فعل هذا الروح في الجماعة المؤمنة المحِبّة.

لا يفوتنا أن نشير إلى أنّ المساءلة ليست، بحدّ ذاتها، إدانة أو حكمًا إذ لها وجه تفسيريّ وإيضاحيّ. من حقّ الشعب المؤمن أن يستفسر ويستوضح. ومن واجب المسؤولين ألّا يبخلوا على الشعب بهما.

فرادة  المساءلة في الكنيسة

للمساءلة في المنظور الكنسيّ فرادةٌ تُبايِنُها عن مثيلتها في المنظور الدنيويّ. فالمُسائِل في الكنيسة تشهد له الجماعة بالفضيلة والمعرفة الإيمانيّة. دونهما، كلّ المعارف الدنيويّة والمواقع الاجتماعيّة والسياسيّة والماليّة والعائليّة لا تؤهّل صاحبها لأن يُسائِل. وكلّ معرفة وفضيلة تفقد فعاليّتها إن لم تُقرن بالمحبّة. المساءلة الكنسيّة هي مساءلة محِبّة، فرادتها في أنّها لا تبغي الانتقام والتشفّي والتجريح والتشهير. عمادها المحبّة وخلاص الإنسان. غايتها انتزاع الإنسان من أنياب الخطيئة المهلكة وقطع الطريق المؤدّية إلى هلاكه. كلّ مساءلة في الكنيسة لا تحمل همًّا رعائيًّا علاجيًّا هي حقّ يراد به باطل، هي لباس نورانيّ لجسد ظلاميّ. كلّ من يرفض مساءلةً في المحبّة يحرم ذاته فرصة توبة علّمنا الكتاب عنها أنّها مدخلنا إلى الملكوت السماويّ. كلّنا يتشوّق إلى توبة وكلّنا مساءل أمام الجماعة، علّنا بمساءلة الجماعة نستر خطايانا أمام الديّان العادل وحده في يوم الدينونة الأخير حين تُكشف الخبايا وتُفضح النيّات. قبولنا المساءلة المحِبّة في هذا الدهر، إذا أقرِن بالاعتراف والتوبة، سيكون لنا حجابًا نورانيًّا لخطايانا يسربلنا به الربّ الديّان أمامه يوم الينونة الأخير.n

 

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search