حقّ المؤمنين كافّة
بالعودة إلى «الكتاب المقدّس نجد أنّ الكرامة السامية تُنسب إلى كلّ مؤمن في الكنيسة، وأنّ المسؤوليّة العظمى ملقاة على عاتقه، وهما كرامة ومسؤوليّة فريدتان... المؤمن المسيحيّ كاهن بجسده وكامل وجوده... ونحن نلمس سلطة الإنسان الملوكيّة والكهنوتيّة على سائر مخلوقات اللَّه وشعوره بالمسؤوليّة العظمى نحوها...»(١). ونعلم أيضًا أنّ القوانين الكنسيّة الوضعيّة شدّدت عبر التاريخ على مركز العلمانيّين في الكنيسة والدور الإيجابيّ الذي عليهم أن يقوموا به. مع التأكيد حقّ شعب اللَّه وحده أن يمارس مسؤوليّته في حياة الكنيسة الإداريّة مميّزين بينهم وبين الغوغاء. وحسبي في هذا المجال أن أقرأ القانونين الأنطاكيّين الأخيرين، قانون 1955 و1973 لألاحظ الدور الذي أُعطي للمؤمنين في تنظيم حياة الكنيسة والمسؤوليّات الكبيرة الملقاة على عاتقهم بالتعاون الكلّيّ مع الإكليريكيّين (علمًا بأنّ الأنظمة المقرّرة لم تُطبَّق في الأبرشيّات لا نصًّا ولا روحًا). وتجدر الإشارة إلى أنّ قانون 1955 فصل بين الزمنيّات والروحيّات، بينما شدّد قانون 1973 على الوحدة بينهما وبين الإكليريكيّين والعلمانيّين من حيث الكرامة والمسؤوليّة.
من حقّ كلّ مؤمن أن يسأل ويسائل، ومن واجب الآباء الرعاة أن يفرحوا بهذا التفاعل لأنّ المؤمنين «كهنوت ملوكيّ وأمّة مقدّسة» (1بطرس 2: 9). من هذا المنطلق أورد الخواطر التالية حول المجمع الأنطاكيّ المقدّس الذي انعقد في المقر البطريركيّ في البلمند بين الخامس والثامن من شهر تشرين الأوّل 2021.
وتجسيدًا لوحدة شعب اللَّه تمّ توجيه نداء إلى السادة آباء المجمع المجتمعين في البلمند بإمامة غبطة البطريرك يوحنّا العاشر السامي الاحترام. وحمل هذا النّداء تطلّعات المؤمنين وهواجسهم اليوم في الأوضاع الكنسيّة والوطنيّة الراهنة.
يقول هذا النداء: يلملمكم الروح القدس من الرياح الأربع لتبحثوا في أمور أنطاكية وشؤونها. القفر فسيح شاسع، ولظاه لهيب حارق، يحتاج إلى نسيم لطيف يهبّ من مجمعكم، يرطّب الأجواء ويبدّد الهجير وينثر الأزاهر فيعمّ الفرح ويقوى الوجد وتزهر البوادي وتغدو فراديس غنّاء، وتتحوّل نيرانها نيّرات مشعّة.
أمّا وطن الأرض فمجروح منهوب، تسرح فيه الذئاب والثعالب. تصول وتجول وتثير الخوف والقلق والجوع والوهن والدمار والموت. وساكنو الأرض يلوذون بمجمعكم منتظرين منكم انتصارًا للحقّ المهجور ودفاعًا عن الإيمان واستقامته، وقد لطّخه تجّار المصالح بألف تشويه وتشويه، إذ ما زالوا يسجدون لصنم حقوق الطوائف، ويتمترسون خلف الأديان والمذاهب ليحموا أناهم المتورّمة وجيوبهم المنتفخة وتسلّطهم الواهي. من أجل كلّ ذلك ننتظر منكم توبيخًا صريحًا يفصّل دجل الساسة ويكشف عورات نفوسهم المريضة. بتنا في هذه الأجواء الحالكة محتاجين إلى أمثال يوحنّا فم الذهب رئيس أساقفة القسطنطينيّة وأمبروسيوس أسقف ميلان، وقد وبّخ الأوّل الملكة فأقصته ظلمًا من رعيّته وكذلك فعل الثاني فوبّخ الأمبراطور، وقد قتل العديد، وأمره بالسجود على باب الكنيسة حتّى يقدّم توبة عمليّة وعلنيّة. أليست حاجتنا اليوم إلى يوحنا وأمبروسيوس؟
المجمع والجماعة
انعقد المجمع على هذا الرجاء. و«المجمع المقدّس مكان اللقاءات لخبراتنا جميعًا، وإغناء التأمّل للتأمّل. الأرثوذكسيّة تناغميّةُ الأسقفِ والأسقفِ لأنّها شهادة الله لنفسه إذ سكن في هذا وذاك، ولكون كلّ أسقف يحمل إيمان رعيّته. فإنّنا إذا عانقنا الإيمان الواحد وتأصّلنا ورسخنا في المحبّة أمكننا أن ندرك مع جميع القدّيسين ما هو العرض والطول والعلوّ والعمق» (أفسس3: 18) .
ومن تمنّيات المتروبوليت جورج خضر إلى البطريرك إلياس الرابع في 27 أيلول سنة 1970: «ما أرجوه هو أن تتحقّق الأماني التي أعرب السيّد البطريرك نفسه عنها في خطاب حفلة التنصيب والدورة الأولى للمجمع المقدّس، وهو تحقيق النظام المجمعيّ تحقيقًا صادقًا بحيث تكون الأسقفيّة واحدة كما يقول القدّيس قبريانوس القرطاجيّ، وبحيث يعمل المتقدّم في ما بيننا وسائر الأخوة متعاونين ومتكاملة مواهبهم. وهذه الروح تستتبع الجدّ في العمل بحيث تأتي أعمال المجمع نتيجة أبحاث تقوم بها لجانه. ومفروض في هذه اللجان أن تعبّر عن آراء عدد كبير من الكهنة والعلمانيّين المطّلعين»(2).
المجمع الأخير
عدا الانتخابات الأسقفيّة الجديدة واختيار متروبوليت لأبرشيّة حلب والإسكندرون المغيّب مطرانها، وعدا القرار القاضي بانتخاب المطران نيفن صيقلي «متروبوليت شهبا شرفًا متروبوليتًا أصيلًا وعضو مجمع مقدّس»، لم يتّخذ المجمع بعد أربعة أيّام من الانعقاد أيّ قرار آخر.
واكتفى بالترحيب والمناشدة والملاحظة ورفع الصلوات والدرس وما إلى هنالك من الأماني والتطلّعات. هنا أرى أنّ ثمّة استمرارًا في ما انتهت إليه دراسةٌ، قمْتُ بها السنة 2006 واستعرضَتْ أعمال المجمع الأنطاكيّ منذ 11/10/2002 حتّى 4/10/2006، إلى ما يلي: «...بعد استعراض هذه الجلسات والوقوف على الموضوعات التي طرحها المجمع المقدّس، وأقول طرحها لأنّه قد لا يكون بحثها في العمق وانتهى فيها إلى تقرير خطّة أو رؤية حلّ. ويتبيّن لنا أيضًا بشكل واضح أنّ أمورًا كثيرة ومهمّة غابت عن مباحث المجمع المقدّس. وفي القليل من الأمور اتُخِذَت قرارات وظلّت هذه القرارات، على ندرتها، حبرًا على ورق وذلك لغياب الأدارة التنفيذيّة»(٣). وتعليقًا على القرار المتعلّق بسيادة المطران نيفن، وبعيدًا عن الشخص ونشاطاته وخدماته الجليلة، أقول: لا أجد تفسيرًا له لا في القوانين السارية ولا في تراث الكنيسة ولا في قوانين الآباء والمجامع. إنّه قرار فريد غريب. ربّما تفسير يشرح هذا البند ويفسّره بات ضروريًّا أن يصدر عن المجمع المقدّس، والكلّ فيه مسؤول، أو غبطة البطريرك.
رغم التجارب السابقة والخيبات المتكرّرة والصمت المستشري، ما زال المؤمنون ينتظرون من آبائهم تعليمًا وشروحًا ليزدادوا فهمًا وينموا في النعمة والحقّ. أليس من حقّ كلّ مؤمن أن يسأل ويسائل؟