العدد الرابع - سنة 2021

02 - أعياد - ميلاد الربّ... فرح الإيمان والخلاص - الأسقف (قيس) - العدد 4 سنة 2021

«فهاءنذا أبشّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب. إنّه قد ولد لكم اليوم مخلّصٌ وهو المسيح الربّ في مدينة داود» (لوقا 2: 10- 11)

 

تشكّل ولادة ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح في بيت لحم اليهوديّة، التي بشّرت بها الملائكة من السماء، فرحًا عظيمًا لخلاص البشر، لأنّ الذي يولد في مذود، في مغارة تحت الأرض، هو الذي به ولأجله خلقت السماء والأرض (كولوسي 1: 16)، الابن الأزليّ للآب السماويّ.

1- ولادة المخلّص - عتقٌ من الخطيئة والموت.

يقول القدّيس لوقا الإنجيليّ إنّ بشرى ولادة المسيح، التي حملها ملاك الربّ لرعاة بيت لحم، كانت مصحوبةً بمجد الربّ الذي شمل الرعاة وأحاطهم في الوقت الذي وقف بهم (لوقا 2: 9). وتاليًا، فإنّ بشرى ولادة المخلّص أعلنت بكلمة سماويّة، ومشاهدة سماويّة، بكلمات مردّدة، ومجد منظور، لأنّ اللَّه - الكلمة غير المنظور بالعيون الجسديّة، وغير المدرك عقليًّا، وغير المحدود مكانيًّا، وغير الملموس جسديًّا، يصير إنسانًا منظورًا بالعيون، ومسموعًا بالآذان، ومدركًا بالعقل، وملموسًا بالأيدي. لمـاذا؟ لكي يهبنا نحن البشر، المحدودين والموّاتين، مجده غير المحدود والأبديّة، لكي يرفعنا إلى قداسته نحن الساقطين في الخطيئة؛ ليهبنا الحياة الأبديّة الجديدة نحن الموّاتين؛ ليعلّمنا الطاعة المتواضعة والاعتراف بالجميل أمام اللَّه نحن غير المطيعين وناكري الجميل. سيّد العالم الكلّيّ القوّة والممجّد من الملائكة صار إنسانًا فقيرًا وخادمًا مطيعًا ليعتقنا من عبوديّة الطمع بالمادّيّات، ومن شموخ أنانيّتنا ومجدنا الباطل. المولود أزليًّا من اللَّه - الآب بدون أمّ يولد في زمن من أمّ بدون أب، ليكون في الوقت ذاته الابن الوحيد للآب السماوي، والابن الوحيد للعذراء. الابن الأزليّ للآب السماوي اتّخذ صورة طفل، مولودًا من أمّ أرضيّة، بدون أب أرضيّ، ليعلّمنا نحن الأرضيّين أن نبحث باستمرار عن الآب الأزليّ ونحبّه، صانع السماء والأرض. المسيح ينزل من السماوات إلى الأرض، لكي يرفعنا نحن الأرضيّين إلى السماوات. محبّته المتواضعة هي مجال حرّيّتنا وصعودنا بمحبّتنا للَّه والقريب. الربّ يسوع المسيح، صار حاملًا جسدًا أرضيًّا، لكي يجعلنا حملة الروح القدس السماويّ. صار إنسانًا لكي يؤلّهنا نحن البشر بالنعمة. الابن الممجّد للَّه صار ابنًا متواضعًا للإنسان لكي يرفعنا نحن البشر إلى كرامة ومجد أبناء اللَّه الروحيّين، حسبما يقول القدّيس يوحنّا الإنجيليّ بكلماته: «فأمّا كلّ الذين قبلوه فأعطى لهم سلطانًا أن يكونوا أبناء اللَّه الذين يؤمنون باسمه، الذين لا من دم ولا من مشيئة لحم، ولا من مشيئة رجل لكن من اللَّه ولدوا» (يوحنّا 1: 12- 13). نزل يسوع من السماوات وولد في مغارة، في داخل الأرض وعمقها، لكي يرفعنا نحن الأرضيّين إلى داخل ملكوت السماوات وعمقه.

هذا هو المعنى العميق لمجد الربّ الذي ظهر للرعاة في بيت لحم، عندما بشّرهم ملاك الربّ بولادة يسوع – المخلّص المتواضعة. لماذا بشّر به مخلّصًـا؟ لأنّ الخلاص يعني اتّحاد الإنسان الخاطىء الموّات مع اللَّه القدّوس الأبديّ الحيّ. يولد المسيح مخلّصًا ليشفي الإنسان من الخطيئة والموت، ويجعله مشاركًا في الحياة الأبديّة.

في ميلاد المسيح، اتّحدت السماء بالأرض، وأمّا الملائكة ففرحوا مع الرعاة، لكي يظهر لنا سرّ خلاص البشر في كنيسة المسيح، حيث الليتورجيا التي يقوم بها، على الأرض، الرعاة الروحيّون لقطيع الخراف الناطقة، مع الليتورجيا السماويّة التي يقوم بها، بلا انقطاع، الملائكة في السماء، حسبما تقول صلوات القدّاس الإلهيّ (صلاة ما قبل بدء القدّاس الإلهيّ، وصلاة ما قبل الدخول في القدّاس الإلهيّ عبر الأبواب الملوكيّة). بهذا المعنى، يقول لنا القدّيس الإنجيليّ لوقا الرسول، إنّه عند ولادة الربّ، ظهر مع الملاك مبشّر الرعاة «جمهور من الجند السماويّين يسبّحون اللَّه ويقولون: المجد للَّه في العلى وعلى الأرض السلام للناس الذين بهم المسرّة» (لوقا 2: 13-14). لمـــــــاذا بشرّ ملاك الربّ الرّعاة في بيت لحم بميلاد مخلّصنا يسوع المسيح ليلًا؟ لأنّ الرعاة كانوا في حالة سهر في هجعة الليل. بهذا المعنى، يقول لنا الإنجيل إنّ الرعاة «كانوا يسهرون على رعيّتهم في هجعات الليل» (لوقا 2: 8). لأنّ الرعاة معتادون على السهر ليلًا لحراسة مواشيهم، فهم ينظرون أكثر من غيرهم، مدى ارتفاع السماء واتّساعها، ويثمّنون سرّ النور الذي يبدّد الظلمة. لكون الرعاة في الحقل، غير مقيّدين باهتمامات العالم الدنيويّة كسكّان المدن، يدركون بصورة أكثر العلاقة ما بين السماء والأرض، وبين عطايا السماء وحياة الأرضيّين. لذلك، عندما ولد المسيح – نور العالم، «راعي وأسقف نفوسنا» (1بطرس 2: 25) قبل الرعاة أوّلًا بعيون ساهرة، وفكر وقلب يقظ، بشرى ميلاد مخلّص العالم. بعد مغادرة الملائكة، انطلق الرعاة من الحقول إلى بيت لحم فنظروا بأعينهم الطفل المولود في المذود (لوقا 2: 16)، هكذا مثلما أخبرهم ملاك الربّ (لوقا 2: 12)، فقد صاروا بدورهم مبشّرين لفرح ولادة المخلّص يسوع. يقول الإنجيل: «وجاؤوا مسرعين فوجدوا مريم ويوسف والطفل مضّجعًا في المذود. فلمّا رأوه أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن هذا الصبيّ. فكلّ من سمع تعجّب ممّا قال لهم الرعاة ... ورجع الرعاة وهم يمجّدون اللَّه ويسبّحونه على كلّ ما سمعوا وعاينوا كما قيل لهم» (لوقا 2: 16- 18: 20).

مثلما بشّرت الملائكة، ومعها الرعاة، في بيت لحم بميلاد ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح «بفرح عظيم» أعجوبة سماويّة لخلاص البشر، هكذا اليوم أيضًا، في الكنيسة الأرثوذكسيّة، حيث الأطفال والشباب متمثّلين بالملائكة، والكهنة رعاة الرعايا متمثّلين بالرعاة في بيت لحم، يبشّرون في يوم بارامون (تهيئة) عيد الميلاد بميلاد المخلّص، مرتّلين طروباريّة العيد، حاملين معهم أيقونات الميلاد، يزورون بيوت المؤمنين مظهرين لهم مجد ميلاد الربّ من بيت إلى بيت، ثمّ بعد ذلك يعود الجميع إلى بيت الربّ، الكنيسة، ليمجّدوا ويسبّحوا معًا، بفرح عظيم، سرّ ميلاد الربّ، وسرّ محبّته الرحيمة تجاه البشر.

2- ميلاد المخلّص- فرح الإيمان والخلاص.

بشّرت الملائكة بميلاد المخلّص فرحًا عظيمًا لكلّ الشعب، لأنّه فرح الخلاص أيضًا. ولأنّ بشرى الخلاص هذه قبلت بالإيمان، فقد أثمرت فرحًا عظيمًا في نفوس المؤمنين، وتثمر من عام إلى عام أكثر فأكثر. لهذا، فعيد ميلاد الربّ هو عيد الفرح الذي يهبه لنا اللَّه - الآب في ابنه، المسيح - المخلّص، بفعل الروح القدس، في كنيسته، وفي نفوس المؤمنين.

لكون المسيح الربّ هو ينبوع الفرح الكامل والدائم (يوحنّا 17: 13)، فالعلاقة الحيّة معه، بواسطة الإيمان القويّ، والصلاة الحارّة، والأعمال الصالحة، تجلب الفرح في حياة الكنيسة، وفي نفوس المؤمنين. فرح الإيمان بيسوع المسيح ومحبّته الثابتة قد أطلق عليها القدّيس بولس الرسول «الفرح بالربّ» (فيليبّي 4: 4). إنّه ثمر الروح القدس في نفس الإنسان المؤمن محبّ المسيح والآخرين (غلاطية 5: 22)، وعربون الفرح الأبديّ في ملكوت اللَّه (رومية 14: 17).

إنّ فرح حضور نعمة المسيح في نفس الإنسان الذي يحارب الخطيئة، رغم الصعوبات الحياتيّة، لا يتلاشى حتّى في وقت التجارب (2 كورنثوس 6: 10؛ 4: 7؛ 1 تسالونيكي 1: 6؛ 2: 19)، بل عكس ذلك، ينمو كلّما تعذّب المؤمن من أجل المسيح، ومن أجل الكنيسىة (كولوسي 1: 24؛ عبرانيّين 10: 34؛ 12:2؛ يعقوب 1: 2؛ 1 بطرس 4: 13). إنّ فرح الإيمان هذا يتعزّز ويتقوّى بالصلاة الحارّة، والتوبة، ومغفرة الخطايا، وبالتخلّص والانعتاق من الآلام، عبر كلمة حسنة وفعل خير، وحياة نقيّة طاهرة، ومحبّة مقدّسة. يكتمل هذا الفرح ويصير فرح المتقدّمين في القداسة. عندما تدعو كنيسة المسيح جميع البشر إلى الخلاص، فهي تدعوهم إلى هذا الفرح الكامل في المسيح - ينبوع الفرح الأبديّ. عندما جاء الربّ-يسوع المسيح إلى العالم، طفلاً مولودًا بتواضع عظيم، بشّرت الملائكة الرعاة بفرح عظيم. وعندما قام الربّ- يسوع المسيح المصلوب من الموت، هو نفسه التقى في الطريق النسوة حاملات الطيب وألقى عليهنّ السلام: «إفرحن!»؛ وعندما صعد الربّ-يسوع المسيح القائم من بين الأموات إلى السماء بمجد عظيم، هو نفسه أوصى بأنّه سيكون مع الذين يؤمنون به، في كلّ الأيّام، وحتّى نهاية الدهور (متّى 28: 20). أمّا التّلاميذ فكانوا يعيشون «بفرح عظيم» (لوقا 24: 52) حقيقة وعد المسيح وحضوره فيهم، بفعل الروح القدس، المعزّي (يوحنّا 15: 26؛ 16: 13- 14).

فرح الإيمان، أو فرح المؤمنين، بالمسيح-الربّ بشّر به القدّيس بطرس الرسول فرحًا للخلاص ممتلئًا نورًا ونعمةً «الذي تحبّونه (المسيح) وإن لم تروه ومع أنّكم لا ترونه الآن تؤمنون به، وبما أنّكم تؤمنون فسوف تبتهجون بفرح ممجّد لا يوصف» (1بطرس 1: 8- 9).

فرح الإيمان، مثله مثل فرح خلاص البشر وفرح الحياة الأبديّة في المسيح، سبق وبشّر به أنبياء العهد القديم، وبخاصّة النبيّ أشعياء (أشعياء 9: 2؛ 35: 1؛ 44:23؛ 49: 13؛ 16: 7، 10؛ 65: 14؛ 66: 10). إنّه معاشٌ فرحًا مقدّسًا في الحياة المسيحيّة التي عاشها الرسل القدّيسون والكنيسة المقدّسة عبر العصور، ويمنح بملئه للمخلّصين، والأبرار، والقدّيسين في ملكوت اللَّه، كما يقول لنا سفر الرؤيا (18: 20؛ 9: 7). فرح الإيمان، كفرح حضور المسيح في نفوس البشر المؤمنين به والذين يحبّونه، ينمو بقدر شدّة إيماننا وثباته، ورغبتنا في القداسة، وفعل الأعمال الصالحة التي نقوم بها. كان فرح الإيمان دائمًا مثمرًا في كرازة الرسل القدّيسين وعظتهم، في الصراع من أجل الحفاظ على الإيمان القويم الذي قاده آباء الكنيسة القدّيسون، وفي غيرة كهنة الرعايا وحماسهم الرعويّ، وفي صلاة الرهبان والراهبات الدائمة في الأديرة، في تنشئة الأطفال والشباب في الإيمان القويم، في الكنائس والكاتدرائيّات، في المؤسّسات الخيريّة المسيحيّة، في الفنون المسيحيّة، وبخاصّة في جمال الأعياد والتراتيل الكنسيّة. كلّ هذه مستنيرةٌ بفرح محبّة ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح المتواضعة، ومحبّة مجده الذي لا يغرب.

 كلّ الخدم الكنسيّة، كفعل للشهادة وتمجيد المسيح، وكجواب محبّتنا لمحبّته الرحيمة والخلاصيّة لنا، هي ينبوع الفرح. كذلك، فالصلوات اليوميّة التي نقوم بها بإيمان، وتواضع، في البيت أو في مكان العمل، هي مصدرٌ لهذا الفرح الخلاصيّ. كلّ الكلمات الحسنة التي نردّدها، والأعمال الصالحة التي نقوم بها بمحبّة وتواضع لمنفعة الآخرين في العائلة، والكنيسة، والمجتمع هي ينبوع هذا الفرح لأنّها علاماتٌ مضيئةٌ للإيمان الذي نؤمن به بالمسيح، ومحبّته المقدّسة العاملة فينا بنعمة الروح القدس.

في حياتنا اليوميّة، وبخاصّة في الأيّام المباركة لنقدّم لمن هم من حولنا عطايا ورموزًا للفرح. لنقدّم لهم الفرح في البيوت، والنفوس وبخاصّة أولئك الموجودين في العزلة والوحدة، والحزن، والألم، والمرض، والفقر، والعذاب. لنقدّم جوابًا حسنًا لمحبّتنا للمسيح العاملة بالرجاء، والإيمان العامل بالمحبّة (غلاطية 5: 6). علينا ألاّ ننسى في صلواتنا أقرباءنا وأحبّاءنا المهجّرين، والمشرّدين، والمخطوفين.

في منتصف ليلة 31 كانون الأوّل، وفي أوّل يوم من السنة الجديدة، لنرفع صلوات الشكر إلى اللَّه لما أغدق علينا من عطايا ونعم وبركات، ولكي يجعل من السنة الجديدة سنة خير، وبركة، علينا جميعًا.

لمناسبة عيد ميلاد ربّنا يسوع المسيح، والعام الجديد 2022 والظهور الإلهيّ نتوجّه إليكم بالتهنئة القلبيّة، الحارّة، متمنّين لكم السلام النفسيّ، والصحّة الروحيّة والجسديّة، والفرح الروحيّ، والمعونة من اللَّه في كلّ عمل صالح إلى سنين عديدة!

نعمة ربّنا يسوع المسيح، ومحبّة اللَّه الآب، وشركة الروح القدس لتكن معكم جميعًا!

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search