أمام المحنة التي نعيشها اليوم في بلادنا، من الحرب الضروس التي زعزت سورية والعراق، إلى الأزمة الحادّة التي تعصف بلبنان منذ سنتين، مرورًا بنكبة فلسطين، لا يسعنا إلاّ أن نتفكّر بقول الربّ، «لا تخف أيّها القطيع الصغير» (لوقا 12: 32)، ونستلهم منه ما يحثّنا على الاستمرار في الشهادة، وأن نستنبط من عمق هذه الدعوة والإيمان الذي ترتكز عليه، معنى أن نكون رعيّة ورعاة وأبعاده.
أوّل ما يتبادر إلى ذهني في هذا الخصوص، أنّ كنيسة المسيح ليست لتوجد، فقط، في أزمنة الرخاء والطمأنينة وراحة البال. فالربّ، حين دعا مَن صاروا له تلاميذ، لم يوهمهم بالرفاهية، بل صارحهم بقوله، «إن كانوا اضطهدوني فسيضطهدونكم» (يوحنّا 15: 20). ولعلّ قول الربّ هذا يبيّن طبيعة كنيسته في عمق وجودها، والأساس الذي تستند إليه. هذه حقيقة، ليست فقط على مستوى الواقع، ولكن أيضًا على مستوى الدعوة.
وإذا كان الاضطهاد، أي أن تكون مطارَدًا لأجل إيمانك وقناعاتك، ومهدّدًا في حياتك كشاهد للمسيح، هو التحدّي الذي وضعه الربّ يسوع أمام عينيك، حين قبلت الدعوة، فكم بالحريّ حين يكون عليك، كمسيحيّ أيضًا، أن تتشارك وأهل وطنك أو منطقتك، إلى أيّ دين انتموا، تحدّيات الحياة، لا سيّما في الأوضاع التي أشرنا إليها أعلاه. فأنت، أكنت تعيش محنة لبنان الاقتصاديّة والسياسيّة، أم ما يكابده أهل سورية والعراق من عواقب الحروب والنزاعات، أم كنت مرميًّا في مجهول الوجود، ولامبالاة الدول بك، كما في فلسطين، أنت تبقى أمينًا في مسيحيّتك، متشبّثًا بحقّ الوجود والحياة والشهادة، ونابذًا أشكال الضعف والخوف، ومتسلّحًا بالبرّ والخلاص والثقة باللَّه التي لا معنى لإيماننا المسيحيّ من دونها.
دعوة المسيح لك «ألّا تخاف»، لا تعني، فقط، أن ترضخ للواقع، بل أن تقوم بكلّ ما في وسعك، أرعيّة كنت أم راعيًا، لمواجهة أسباب الخوف، لعلّك، في سعيك، تأخذ نفسك والآخرين، إلى شيء من الاطمئنان، وإلى قبس من قول المرنّم، «الربّ يرعاني فلا شيء يعوزني... إلى مياه الراحة يوردني» (مزمور 23). ولذا، لا يمكن فهم الخطاب التشاؤميّ أمام الأزمات، مهما كان وزرها ثقيلًا، إن أتى من مسيحيّ ملتزم، فيما المطلوب أن يتعلّم المرء كيف ينتقل من الألم إلى الأمل، وكيف يحوّل الضيقات إلى نافذة للرجاء، والرجاء ركن من أركان الوجود والمسعى المسيحيّين.
وأشدّ ما يقلق، في هذا الشأن، أن يأتي الخطاب التشاؤميّ من الذين خاطبهم الربّ بقوله، «إن كنت تحبّني، إرعَ خرافي». ففي طبيعة الأشياء أنّ الراعي لا يهمل القطيع، إذا ما ألمّ به ضيق، ويمضي ليخلّص نفسه، بل «يبقى أمينًا إلى الموت»، إذ بهذا، فقط، إذا ما ثبت، ينال إكليل الحياة، كما يقول «صوت الربّ» لأسقف سميرنا، في رؤيا يوحنّا (رؤيا 2: 10). ولذلك، يؤلمك أن تسمع، هنا وثمّة، أنّ كاهنًا، مثلاً، يفكّر في الهجرة طلبًا لحياة فضلى. أفهم أنّه يحقّ لك أن تمضي إلى حيث تشاء، وأن يسعى المرء إلى تأمين ظروف حياة فضلى لذويه. هذه حال الدنيا. ولكن، لا أفهم بسهولة، رزوحَ بعض الرعاة أمام الأثقال والضيقات، فيما الحريّ بهم أن يثبتوا في «المحبّة والخدمة والإيمان والصبر». فالكنيسة ليست شركة تعمل فيها، وما هي بمنظومة من هذا العالم، بل دعوة لك وإليك بأن «تصبر إلى المنتهى»، متسلّحًا بالرجاء، راعيًا ومرعيًّا حيث شاءك الربّ أن تكون.
الضيقة الاقتصاديّة، ومحن الحياة، والحروب، والأمراض، والأوبئة، هي جزء من حقيقة هذا العالم الفاني الذي ننتمي إليه، والحقيقة أنّ الدعوة المسيحيّة أتت جوابًا عن هذا كلّه لتكون صراطًا في الرجاء والصبر، وفي الحثّ على أن يعمّ السلام الحقيقيّ، وينعم الناس بخيرات الأرض كلّهم معًا. غير أنّ المنطلق، للمسيحيّ، يبقى دومًا الضيقُ، ذلك بأنّ الضيق رحم يولّد الإيمانَ والثبات والرجاء، تمامًا كما أولد اللَّه الأرض الحسنة من الخراب، وأقام الحياة من القبور، وهذا عبّر عنه رسول الأمم حين كتب، «مبارك اللَّه... الذي يعزّينا في كلّ ضيقتنا، حتّى نستطيع أن نعزّي الذين هم في كلّ ضيقة بالتعزية التي نتعزّى بها نحن من اللَّه. لأنّه كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك تكثر أيضًا تعزيتنا» (2كورنثوس 1: 3- 5).
حين كتب بولس الرسول هذا الكلام في مطلع رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس ليثبّتهم في الإيمان الحقيقيّ أمام كلّ المحن، أرادَ ألّا يكون المؤمنون «حطامًا مجتمعيًّا» تتقاذفه أمواج الوجود العاتية، فيتفرّق الناس وينكسرون ويمضي كلّ في سبيله، بل شاءهم قطيعًا للربّ يرعى في «المراعي الخضر» و«يرد مياه الراحة»، إن هو ألقى همّه على ربّه، ورضيه له وكيلًا، وسمع قوله، «لا تخف أيّها القطيع الصغير»، وأَلِفَ صوته، وتعزّى به إلى المنتهى.