2024

15 – خاطرة: الإنسان مُخيّر أم مُسيَّر، رؤية مختلفة - كارولين طورانيان - العدد الرابع سنة 2024

الإنسان مُخيّر أم مُسيَّر

رؤية مختلفة

كارولين طورانيان

مجلة النور العدد الرابع – 2024

 

يولد الإنسان، كلّ إنسان في بيئة مُعيّنة ومُحدّدة المعالم. يُعطى اسمًا وينتسب إلى عائلة معيّنة لم يخترها. العائلة يمكن أن تندرج ضمن طبقات المجتمع الغنيّة أو الوُسطى أو الفقيرة أو المعدومة إذا صحّ التعبير. هذا لا يختاره الطفل عندما يولد. هو لا يختار إذا كان والداه متعلِّمَيْن مثقَّفَيْن أم أُمِّيَّيْن. لا أنكر وجود مثقّفين بين الأُمّيّين أيضًا، لأنّ الثقافة أساسها المحبّة والانفتاح على الآخر المختِلف. ولكن هذا ليس موضوعي. الطفل عندما يولد لا يختار إذا كان أهله من عائلة عريقة، وذات منصب مرموق في المجتمع، أم إذا كانوا من العمّال الكادحين من أجل لقمة العيش. هو لا يختار إذا كان أهله مسيحيّين أو مسلمين أو بوذيّين. كلّ الظروف التي يعيشها الطفل، هذا الإنسان الصغير، هو لم يختر شيئًا منها بنفسه. كما أنّه لا يختار إذا كان سيولد في بلد لديه احترام لحقوق الإنسان كحقوق المرأة، وذوي الحاجات الخاصّة، والأطفال وكبار السنّ إلخ... هو لا يختار إذا كان البَلَد الذي سيعيش فيه، سيخوض حربًا ضروسًا أم سيتمتَّع بالسلام والخير والانتعاش على كلّ صعيد اجتماعيّ وإنسانيّ وقانونيّ وسياسيّ. هذا ينطبق على جميع شعوب الأرض. لا ألغي بكلامي هذا إمكانيّة الانتقال من حال إلى حال أفضل. ولكنّ العكس صحيح أيضًا.

ما هي خبرة الإنسان الشرقيّ التقليديّ بعامّة؟

الإنسان الشرقيّ مسيحيًّا كان أم غير مسيحيّ يتربّى في ملّة، في عشيرة، ما تزال تشبه القبيلة في تنظيمِها وترابط أفرادها والقيَم الموجودة فيها، والحدود المرسومة تجاه عشائر أُخرى. ربّما فيها الكثير من المحبّة والترابط بين الأعضاء، ولكن هل هذا كافٍ مسيحيًّا؟ إذا كان الإنسان يحبّ فقط من يشبِهه، ومن يحبُّه فأيّ فضل له؟ أليس هذا ما يقوله الربّ على لسان رُسُلِه؟

كيف للذي تربَّى على الانتماء القَبَليّ والمِلّيّ أن يرى ويعترف بمن هو مُختلف عنه ويُحبّه؟ هو لا يُحِبُّه! هل يستطيع أن يُحِبَّه؟ أترك الجواب للقُرَّاء. هو يأتي إلى الكنيسة ويُشارك في الأسرار ويُصلّي ويُرتِّل ويَخرُج من القدّاس الإلهيّ ويلجأ تلقائيًّا إلى من يُحبّونَه ومن يُشبهونه في الخلفيّة القوميّة أو الوطنيّة أو الإثنيّة. فهو يشعُر معهم بالأمان والارتياح والمعيّة التلقائيّة والانتِماء البديهيّ والاكتِفاء الإنسانيّ والعاطفيّ والاجتماعيّ. هو يحْتَقِر، بنَظْرة أو بكلمة أو بحركة ظاهرة أو خفيَّة، مَن هو مُخْتَلِف عنه، مَن هو ليس مِن مِلَّتِه ومِن بيئَتِه ومِن وطَنِه، مَن لا يتحدّث بنَفْس لهجته وأسلوبه، ومن يَخْتلِف عنه في ما يُحِبّ ويهوى على الصعيد الإنسانيّ والعائليّ والشخصيّ.

لا يخرج الشَرقيّ من العقليّة القَبَليّة بسهولة إلّا من استنار بنور الربّ وعرف الحقّ والحُبّ وتَحرَّرَ. هل أنا مُتشائِمة؟ الوضع السائِد يدعو إلى التشاؤُم وقَطْع الأَمَل. ولكنّني لستُ مُتشائِمة. ولكن، كيف يُمكن للمُنتَمي إلى عشيرتِه التي تُعطِيه سبب وجوده وأساسه، وتُعطيه الهويَّة والارتِياح والانتعاش والانتماء والاطمئنان وكلّ ما يحتاجه الإنسان غريزيًّا لكي يستمِرّ ويحْيا حياة مُطمَئنّة ومريحة إلى حدّ ما؟ كيف له أن يرضى بالاعتراف بذاك الغريب المُزْدَرى الذي لا ينتمي إلى عشيرة والذي لا ينظُر إليه أحَد؟

لا أعرف تمامًا الجواب.

الحياة الجماعيّة والعلاقات المتينة والقريبة مهمّة جدًّا لكلّ إنسان، لأنّه على صورة الله، ولا يُمكن لأحد أن يعيش في عزلة تامّة عن الناس لفترة طويلة دون أن يُعاني مِن القلق المُزمِن، والوحدة العميقة التي تضرِبه في جذوره، والخوف والتشاؤم والاكتئاب والبؤس. عِلم النَفس أثبَت أنّ العلاقات المُقرَّبة والسليمة مهمّة جدًّا لسعادة الإنسان، لأنّها أيضًا تُحسِّن من صحّته النفسيّة والجسديّة، بحيث لا يكون عنده أمراض كثيرة عندما يشيخ، وهي تُطيل من عمره بحيث يكون فرحًا ومُطمئِنًّا أكثر من غيره ويَعيش طويلًا.

إذًا فوائد العلاقات المتينة والمُقرَّبة كثيرة سواء أعرف الإنسان كُلّ ذلك أم لم يعرف، فهو يشعر بفوائدها تِلقائيًّا. إذًا هذا غنًى كبير وواسع. إنّه ركيزة وجود واطمئنان واكتفاء جماعيّ كبير. كيف للإنسان، غير المُستنير وغير الواعي مُتطلبات الايمان المُستقيم، أن يتخطّاه إلى الخروج من ذاته واكتفائه، ومِن قوقعة المِلّة والمجموعة التي تُعطيه كلّ ما يحتاج إليه لكي يستمرّ ويورث جيناته وتقاليده لخلَفِه.

ولكن إن لم يخرج الإنسان من بيئته، ويُدرك أنّ هناك أُناسًا سواه من خَلفيّة مُختلفة، من الوُدعاء والمُبدعين والمحترمين والمُحبّين والأذكياء، ولكنّهم مختلفون كلّيًّا عنه، إذا لم يحترمهم ويُحبّهم كما هم، فهناك مُشكلة في تطبيق الكلمة وعيشها. يمكن للإنسان أن يخرج من بيئتِه بالسفر، ولكنّ السفر وحده لا يكفي. القراءة هي جزء مهمّ من خروج الإنسان من تقوقعه وتعلُّم أمور جديدة، ولكن حتّى القراءة وحدها لا تكفي إلّا إذا توسَّعت واقترنت بالسفر أو بالفضول وحُبّ المعرفة وطرح الأسئلة والتعرُّف إلى ثقافات جديدة.

من يتوارثون النظام الملّيّ والقبليّ وفوائده يُسافرون عامّةً إلى بلدان عديدة، ويُهاجرون ويبقون هم أنفسهم، يأخذون معهم كلّ الأجوبة جاهزة لحياتهم لكي يقيموا لهم قصورًا من ورق في البلد الجديد. كثيراً ما يَصْعُب عليهم تَعَلُّم ثقافة الترتيب والنِظام والحديث بصوت هادىء واحترام الجميع والتكلُّم واحدًا واحدًا. يُقاطعونَ حديثك مع أحد الإخوة على سبيل المِثال لا الحصر، ثمّ يحتقرونك لأنّك حاولت أن تدخل في الحديث والإجابة عن بعض الأسئلة. يبدو لي أنَّ العشائِر والمِلَل تُنْتِج أعضاء مُسَيَّرين غَير مُخَيَّرين، وأنّهم لم يَخْتبِروا إمكانيّة وجود أسلوب جديد يَختارونه لأنّه جميل ومُثمِر ومُوسِّع للآفاق. في وصفي هذا أنا لا أدين سرائِر الناس، ولكنّني أصف واقعًا كثيفًا غيْر شفَّاف. ولا أنفي وجود المواهب والفضائل. هذا شأن كلّ إنسان مع ربِّه.

أجد أنّ الحياة القَبَليَّة تُشبع نفسها بنفسها من خلال أعضائِها، هي تنظيم مكتفٍ بذاته لا حاجة فيه إلى الآخر. لا بل كلّ من هو مُختلِف عنهم، هم ليسوا بحاجة إليه ومُزْدرى. لا بل كلّ ما هو «غريب» هو مُخيف ومُقلِق. كلّ من هو «غريب» عن نظام القبيلة وأسلوب حياتها هو مُحتَقَر لأنّه يرمز إلى ما يهدّد نظام القبيلة و«نقاوتها». الباحثة في الأنتروبولوجيا والكاتبة ماري دوغلاس تُعالج في كتابها المشهور «النقاء والخَطَر: تحليل لمفاهيم التلوّث والمُحرَّمات»، وتُحلّل المجتمعات البدائيّة والتقليديّة وكيفيّة استعمالِها لمُصطلحات النقاء والتلوّث لكي تسعى إلى الحفاظ على هيكليّة المجتمعات القبليّة ونظامها وتنظيمها. هي تبحث عن كيفيّة استعمال مصطلحات النقاء والخطر في هذه المجتمعات وكيف أنّ استعمال هذه المصطلحات يختلف من مجتمع لآخر. وهي تشكّل جزءًا من الثقافة ونظامًا عامًّا. من خلال تحليلها هذا تدلّ ماري دوغلاس على موضوع عالميّ يتمحور حول النقاء والخطر، ولكن يظهر بشكل مُختلف حسب البيئة الثقافيّة والاجتماعيّة.

من هذا المُنطلق يبدو لي أنّ هذا «الغريب» عن المِلّة والحياة العشائريّة يُشكِّل نِقطَة تهديد، وخَطَرًا على هذا النظام وتَلوُّثًا له، يبدو ذلك في كيفيّة تعاطي أفراده مع كلّ من لا يُشبِهُهم في مِلَّتِهم وفي أسلوب حياتهم وتعاطيهم، ومن خلال نظرتِهم إليه.

هناك حالات اجتماعيّة ونفسيّة يصعب فيها على المرء رؤية نفسه من خارج نفسِهِ. هذا موضوع مهمّ للغاية وأساسيّ في تعاطي الإنسان مع الآخرين على جميع الأصعدة. لا ادَّعي المعرفة بأنّ هذه حالات مَرَضِيّة مُزمِنة، ولكنّها حتْمًا تحتاج إلى عِلاج. تحتاج إلى عِلاج نفسيّ عند اختصاصيّ نفسيّ، وإلى علاج ثقافيّ علميّ وأخيرًا وليس آخرًا إلى عِلاج روحيّ تُكسَر فيه الكُبرياء القبليّة المُنغلِقَة على ذاتها والمُكتَفِية بذاتها. سؤالي لكم إكليروس وعلمانيّين: أين هو يسوع المسيح الحُرّ والمُحرِّر في الحياة العشائريّة التقليديّة المُعشِّشة في حياة الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة في جميع شؤونها وعلى المستويات كلّها؟ من يجْعَل هذه الكنيسة تعيش وصيّة المسيح الربّ عن حقّ وعلى جميع الأصعدة: “ليس فيكم ذكرٌ وأُنثى، عبد أو حرّ، يهوديّ أو يونانيّ بل أنتم واحد في المسيح يسوع؟ أتركُ الجواب لكلّ واحد منكم!

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search