2020

8. قضايا معاصرة - الأسرة الأرثوذكسيّة - تعريب الأب سيرافيم (داود) – العدد السادس سنة 2020

الأسرة الأرثوذكسيّة

متروبوليت نيويورك فيلاريت فوسكريسينسكي ١٩٨٥

تعريب الأب سيرافيم ‫(داود‫)

 

تكمن مهمّة المسيحيّة الأرثوذكسيّة الرئيسة في تعليم الناس كيفيّة العَيش وفق مشيئة اللَّه لكي يستطيعوا عبرها الحصول على البركة الأبديّة. يتمنّى البعض مرارًا تقليص المسيحيّة إلى مجرّد خبرات دينيّة وفرديّة على نطاقٍ ضيّقٍ. ورغم ذلك، تبقى المسيحيّة حياة جديدة وختمًا يوضع على العلاقات الحيويّة بين البشر، إذ لا يمكن لأيّ إنسان موضوعيّ أن يُشكّك في حقيقة تأثير المسيحيّة على حياته أو أن يُعارضها. تكفي الإشارة إلى أنّه حتّى ولو كانت حياة البشر على الأرض وتصرّفاتهم لم تبتعد كثيرًا عن القيَم المسيحيّة، إلّا أنّ مبادئهم وآراءهم قد تشكّلت على أساس النموذج المسيحيّ. تحمل معظم الأعمال لعددٍ من أشهر الفنّانين والعلماء لمسة مسيحيّة فيها. إضافة إلى ذلك، إنّ بعض الظواهر الأكثر عزاءً كاختفاء العبوديّة وبروز سلسلة من المؤسّسات الخيريّة والتنويريّة وغيرها تخضع في بدء تأسيسها إلى المسيحيّة. ولكن، من المرجّح أنّ تأثير المسيحيّة المتحوّل والمتزايد هذا قد تمّ اختباره ضمن الخليّة الاجتماعيّة الأولى أي الأسرة.

المسؤوليّة الكبرى التي تقع على عاتق الفرد المسيحيّ الأرثوذكسيّ هي  في اختيار شريكٍ لمدى الحياة. يقول اللَّه «كونوا اثنين في جسدٍ واحد» أي يُشكّل الزوجان كائنًا واحدًا ويعيشان حياةً مشتركة. وسيكون الزوج أوّل شاغلٍ للزوجة الأرثوذكسيّة، ثمّ تفكّر هي في نفسها. كذلك، يهتمّ الزوج أوّلًا بزوجته ثمّ بنفسه. وخصّ اللَّه هذا الاتّحاد الزوجيّ المسيحيّ بكلماته الإلهيّة قائلًا «ما جمعه اللَّه لا يُفرّقه إنسان». من الجدير بالذكر أنّ الزواج المسيحيّ يتميّز بالحبّ المتبادل بين الزوجَين الذي يتّسم بإنكار الذات ورفضها، وهو الحبّ الخاصّ بالمسيحيّة. يقارن بولس الرسول الاتّحاد الزوجيّ مع اتّحاد المسيح بالكنيسة ويقول «أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا.» يصبح اتّحاد الفردَين اللذَين يحبّ أحدهما الآخر في الزواج المسيحيّ شاملًا ومتكاملًا، كما يصبح التفاني المتبادل بين الزوجَين عميقًا ومطلقًا بحيث يتشابهان في نواحٍ مختلفة. وأحيانًا، عند بلوغهما سنّ الشيخوخة يمكن أن يتشابها بالشكل الخارجيّ. وتمضي حياتهما باتّفاقٍ تامّ وتفان لمشيئة المسيح المخلّص وكنيسته المقدّسة.

ولكن في أيّامنا هذه، تصبح النزعة المتهوّرة وغير المسيحيّة لسلوك الشباب المعاصر تجاه هذه المسألة الأكثر خطورة حملًا ثقيلًا علينا التنبّه إليها. ينبغي لنا مراعاة حقيقة أنّ الزواج اليوم ما عاد ينبثق عن حبٍّ جديّ وعميق بل عن الشعور بالشغف الجسديّ الذي لا يعتبر شعورًا عميقًا وهو غير مقبولٍ ضمن أخلاقيّات العلاقة. لسوء الحظّ، غالبًا ما تكون علاقة الحبّ هذه مبنيّة في جوهرها على غريزة حيوانيّة، أو مجرّد «هيجان دمّ الشباب» (أحيانًا يكون قديمًا وقذرًا). إضافةً إلى ذلك، نلاحظ أنّه في مرحلة ما قبل الزواج لهكذا علاقاتٍ يحدث نوع من الخداع والتحاذق على النفس والجسد معًا ونشوء رغبة زائفة لأن نبدوَ أفضل وأجمل. ومع ذلك، لا تُبنى الحياة إلّا على الحقيقة ولا يمكنها أن تستمرّ على الأكاذيب والتزييف. من هذا المنطلق، ستظهر بوادر خيبة أمل الزوجَين ببعضهما البعض والانحرافات المؤدّية إلى الطلاق.

يُمثّل الزواج المسيحيّ حياة واحدة يعيشها شخصان بالاتّحاد. مع مرور السنوات، تتعزّز قوّة الحياة الزوجيّة وتتّخذ معنًى أعمق وأكثر روحانيّة. وبالطبع، يندرج الشغف المتّصل بالميل الجنسيّ الطبيعيّ لكلّ شريكٍ وانجذابه الجسديّ ضمن تركيبة الحبّ الزوجيّ. ولكن في الزواج المسيحيّ الحقيقيّ، يدخل هذا الشغف في العلاقة من طريق الصدفة، وليس له مثل هذا القدر من الأهمّيّة والقوّة كما في الاتّحادات الزوجيّة غير المسيحيّة. توفّر لنا سيَر القدّيسين أمثلة عديدة عن الأزواج المسيحيّين الذين عبر التفاهم المتبادل، رفضوا الحياة الجنسيّة سواء من بدء الزواج أو حتّى من بعد مرور أربعين سنة. من الجدير بالذكر أنّ في هذه العلاقات الزوجيّة يعيش فيها الزوجان الزاهدان «كشقيقين»، إذ يتميّز حبّهما بقوّة إخلاصهما ويعتنقان الأمانة والاحترام المتبادل. وهكذا تحافظ المسيحيّة على الزواج وترتقي به وتحوّله.

فضلاً عن مراعاة العلاقة بين الزوجَين ضمن الأسرة المسيحيّة تُؤخذ في الاعتبار العلاقة بين الأولاد والأهل، حيت تترك المسيحيّة بصمتها على هذه العلاقة الداخليّة.

بكلّ تأكيد، تعيش كلّ أسرة صالحة حياة واحدة مشتركةً إذ ينبغي دائمًا أن تحتلّ «النحن» الأسبقيّة على «الأنا». وليس من الصدفة أن يَحمل جميع أفراد الأسرة الواحدة الشهرة ذاتها لأنّهم يعيشون حياة مشتركة وودّيّة. فالزوج هو ربّ الأسرة ويقع على عاتقه عبء تأمين الرفاه لها. فهي أولى واجباته. وذكر بولس الرسول في رسائله عن الذين لا يهتمّون بأسرهم وقال عنهم بوضوحٍ وصراحة: «وإن كان أحدٌ لا يعتني بخاصّته ولا سيّما أهل بيته فقد أنكر الإيمان وهو شرٌ من غير المؤمن». (تيموثاوس الأولى 5:8)

عندما يحاول الأهل توجيه أولادهم إلى اتّباع مسارٍ معيّنٍ، يتصرّف الأهل أحيانًا بقساوةٍ ضدّ نيّة الأولاد وميولهم ورغباتهم التي غالبًا ما تكون غير منصفة. ويشير بولس الرسول إلى هذا التصرّف ويعارضه قائلاً: «وأنتم أيّها الآباء لا تغيظوا أولادكم بل ربوهم بتأديب الربّ وإنذاره» (أفسس 6:4) و«أَيُّهَا الآبَاءُ، لاَ تُغِيظُوا أَوْلاَدَكُمْ لِئَلاَّ يَفْشَلُوا» (كولوسي3:21). وعندما نطلب من الأولاد القيام بأمورٍ تتخطّى طاقتهم سيغرقون في اليأس. ما يُعتبر ظلمًا أفظع هو أنّ الولد يرى في والده السلطة الأعلى في البيت، فالوَيل إذا خانت هذه السلطة شعوره بالثقة التي تكون أقوى عند الولد من عند البالغين. من بعدها، يمرّ الولد بمرحلةٍ لا يمكنه الهروب منها. ما يزيد الأمر سوءًا هو عندما يُدلّل الأهل أولادهم بإفراط ويتعاطفون معهم ويتركونهم من دون إشرافٍ أحيانًا.

قد يعاني الولد من جرّاء ذلك فسادًا أخلاقيًّا، وكما رأينا أنّ اللَّه يوصي الأهل بتربية أولادهم بحسب وصاياه.

تقع مسؤوليّة تربية الأولاد على الأمّ في الدرجة الأولى. وهذا أمرٌ طبيعيٌّ نظرًا إلى أنّ الأمّ هي الأقرب إلى روح ولدها وقلبه. إنّ الولد عندما يركض مباشرةً إلى أمّه متوجّعًا ويهتف «ماما»، فهو لا يقوم بذلك من دون سبب وجيه. تؤدّي الأمّ واجبًا كبيرًا، فعليها تربية فتى أو فتاة كمسيحيَين مؤمنَين وصالحَين ومُتجاوبَين ومحبَّين للعمل، ونافعَين للكنيسة والمجتمع كما تربّيهما ليصبحا هكذا بالكلمة وبالمثال وبالحبّ وبالجدّيّة. تُشكّل تربية الأولاد ملاذًا خاصًّا بالأمّ لخدمة اللَّه، وهذا العمل لا يقلّ شأنًا عن عمل الزوج ضمن الأسرة. عارٌ وخزيٌ للأمّهات اللواتي يمتنعنَ عن تربية أولادهنّ ويوظّفن أشخاصًا للقيام بهذا العمل غافلين عن حقيقة أنّ هذا من شأنه أن يدمّر بسهولة روح الطفل. فهل يمكن لأحد أن يحلّ مكان الأمّ؟

ينبغي للأولاد أن يفهموا مسؤوليّتهم كالأهل. كلّنا على علم بوصيّة الله الخامسة الخاصّة بإكرام الأب والأمّ. يُلزم بولس الرسول الأولاد ويقول: «أيّها الأولاد أطيعوا والدَيكم في كلّ شيء لأنّ هذا مَرضيّ أمام الربّ». وبالطبع، يتأكّد هذا الطلب بالعدالة بخاصّة إذ إنّ الأولاد مجبرون بأهلهم الذين اعتنوا بهم وأحبّوهم وجاهدوا لأجلهم وحرموا أنفسهم من الكثير. فهم ربّوهم بحبٍّ وساعدوهم حتّى ولو أصبحوا أشخاصًا راشدين ومستقلّين.

كثيرًا ما ننتهك الوصيّة الخامسة في ما بيننا. وحتّى إذا كان الأولاد مقتنعين بأنّهم يحبّون أهلهم بشدّةٍ وصدقٍ، فهم لا يهتمّون بهم أغلبية الأوقات ما يعني أنّهم لا يُكرمونهم. فيرتبط الحبّ دائمًا بالطاعة، وكلّما تقدّم الأولاد في السنّ كلّما أصبحوا أقلّ تعاطفًا مع الأهل ومع الأسف، يلومونهم في وجههم على «تخلّفهم» إذ لا يراعون سلطتهم في أيّ شيء. هل يعتبر هذا احترامًا للأهل؟

رغم أنّ الوصيّة الخامسة تتحدّث عن إكرام الوالدَين أساسًا، غير أنّها تتناول أيضًا مسألة إكرام جميع الأشخاص الذين يحلّون مكانة الوالدَين بالنسبة إلى الإنسان المسيحيّ مثل المعلّمين والمدرّسين وبخاصّة ممثّلي السلطة القانونيّة الذين يهتمّون بحفظ النظام وحماية المجتمع. يوجّهنا بولس الرسول إلى الصلاة من أجل «حكّام هذا العالم» ويدعونا في غالبية رسائله إلى الخضوع لهم. والأهمّ من ذلك بالنسبة إلى الإنسان المسيحيّ هو إكرام السلطة الكنسيّة أي الكهنة والأساقفة بخاصّة والأبّ الروحيّ للكنيسة الذي يتضرّع أمام اللَّه من أجلنا. يقول بولس الرسول: وقال الربّ لتلاميذه مخاطبًا بهم الكهنة «الَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي».n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search