كبارنا والقضيّة الفلسطينيّة
عماد حصني
«هكذا قال الربّ: «احفظوا الحقّ وأجروا العدل. لأنّه قريب مجيء خلاصي واستعلان برّي»» إشعياء (56: 1).
«من أجل ذلك ابتعد الحقّ عنّا، ولم يدركنا العدل. ننتظر نورًا فإذا ظلام. ضياءً فنسير في ظلامٍ دامسٍ» (إشعياء 59: 9).
هل خسر الحقّ أمام الباطل وسقط العدل؟ سؤال يطرح ذاته عليك بمرارةٍ في زمن «التطبيع». القضيّة الفلسطينيّة التي شغلت العرب عقودًا طويلة تكاد أن تغيب وتتحوّل فقط إلى ذكرى وحنين!
أجيال عربيّة جديدة بلغت سنّ النضج وهي تكاد لا تعرف شيئًا عن فلسطين، الأرض السليبة المحتلّة والشعب المطرود واللاجىء والمعذّب، أو المحكوم في أرضه ظلمًا وقهرًا لا ينتهي. أجيال لم تسمع عن نكبة 1948 ولا عن وعد بلفور أو مشروع «من الفرات إلى النيل»!
لعلّ مراجعة مواقف وكتابات بعض من أدركوا عمق الصراع العربيّ الإسرائيليّ وأهدافه القريبة والبعيدة وأبعاد القضيّة الفلسطينيّة، تساعد على الإضاءة من جديد على ما رافق نشوء إسرائيل، الكيان الغاصب، من ظلمٍ وقهرٍ واستباحةٍ للحقّ والكرامات وامتهانٍ للإنسان وإسقاطٍ للعدل.
وجوه بارزة من «كبارنا» في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة شهدوا للحقّ ودافعوا عن المظلومين، فكتبوا وعبّروا مرارًا في شأن القضيّة الفلسطينيّة والكيان الغاصب ومشاريعه ومخطّطاته:
يقول المتروبوليت جورج (خضر)، وهو من كتب مرارًا في هذا الشأن:
«... هو يتكلّم على التطبيع أي على التداخل في ما بيننا. غير أنّ فلسفته كلّها هي ألّا يعيش بالمساواة في الكرامة بيننا وبينه. ولذلك كان مضمون التطبيع عنده أن يبقى مسيطرًا أي أنّ رغبته الحقيقيّة، الظاهرة في كلّ النصوص الصهيونيّة، هي في أن يسخّرنا لمجده، لتفوّقه، لاستغلاله إيّانا، ويستعمل كلمة حضاريّة «التطبيع» وهي كلمة حقّ عنده يراد بها باطل. هناك حالة يمكن التطبيع معها هي حالة سقوط الفلسفة الصهيونيّة. ولا شيء حتّى الآن، ما خلا ما تكتبه قلّة عزيزة عندهم، يدلّ على أنّ سقوط الصهيونيّة قريب. فإذا تهاوت هذه الفلسفة نكون إمام مشكلة تعايش شعوب تدين بالديموقراطيّة وترغب صادقة في أن تعيش متساوية في الكرامة...»
ويقول أيضًا: «... لماذا تباد فلسطين أمام أعين كلّ الشعوب؟ لماذا قُتل يسوع الذي كان من الناصرة؟ ماذا يبقى من العالم إن ذهبت فلسطين؟ إن هي ذهبت فهذا قتل آخر ليسوع الناصريّ. ويسوع أهمّ شيء في العالم. إن ذهبت فلسطين أين أقبّل قدمي يسوع؟ أنا في حاجة إلى أطفال فلسطين إنّي في حاجة إلى قدمي يسوع».
ويقول الدكتور كوستي بندلي، الذي كتب كثيرًا في القضيّة الفلسطينيّة، ودعا مرارًا إلى تحرّكاتٍ واعتصاماتٍ مندّدة ورافضة للعنف المجرم بحقّ الفلسطينيّين:
«... ربّي،
ألم يذكر الذين نفّذوا هذه الفظائع
والذين، بدم بارد،
خطّطوا لها وأمروا بها،
ألم يذكروا، ربّي،
العبارات المدوّية
التي هتف بها باسمك،
نبيّهم أشعياء العظيم:
«ما بالكم تسحقون شعبي
وتطحنون وجوه المساكين؟» (3: 15)
أم تراهم وجدوا مبرّرًا لهم
- وما أسرع ما يجد الإنسان تبريرًا لإثمه -
فأقنعوا أنفسهم بأنّ الفظائع هذه
لا بدّ منها لبناء ما سمّوه
«إسرائيل الكبرى»
بضمّهم إليها أكثر من نصف
الرقعة الباقية لسكّان فلسطين
بعد أن سلبوهم أرضهم وطردوهم منها؟
وقد فعلوا ذلك كلّه متذرّعين بوعدك،
وكأنّه صكّ يجيز لهم القتل والاغتصاب...»
أمّا المثلّث الرحمة المطران بولس بندلي فيقول: «... إذا استعرضنا تاريخ اليهود العدائيّ للسيّد لتمكّنّا من أن نكتشف عجز اليهود أمام المسيح، حيث يسخّرون الوصيّة الإلهيّة ويدفعون المال لتحقيق مآربهم، وما عاد للإنسان كرامة بنظرهم إلّا بالمال. إنّ المسلسل الرهيب يستمرّ في أيّامنا، فالعدوّ الغاشم يزيد مكيال آبائه فيقتل الشباب والأطفال والنساء والشيوخ في الأرض المحتلّة، يدفع المال بسخاء لكي يحقّق توسّعه الأثيم على حساب أناس آمنين ليس لهم سوى حجارة يجاوبون بها على رصاص حيّ قتل المئات ...».
كذلك كان لكبارنا الحركيّين لمسات تاريخيّة من الالتزام والصدق والمناداة الصارخة بالحقّ، والدفاع عن المعتدى عليه وعن الضعيف والفقير، عبّروا عنها بشكل خاصّ في مقطع من وثيقة التزام شؤون الأرض الصادرة عن المؤتمر الحركيّ الثاني عشر العام 1970:
«في القضيّة الفلسطينيّة:
أ- تقول الحركة إنّ الصهيونيّة ضدّ مبادىء الإنجيل، وإنّ دولة إسرائيل ضدّ العدل والسلام، وإنّ ثمّة ظلمًا يجب أن يزال لتبقى للإنسان كرامته في فلسطين، مهما كان انتماؤه الدينيّ والعرقيّ. وتعمل الحركة على نشر هذه المبادىء في الأوساط المسيحيّة المحلّيّة بواسطة الهيئات القائمة والندوات والمؤتمرات وغيرها، وفي الأوساط المسيحيّة العالميّة بواسطة الهيئات التي تعمل فيها الحركة.
ب- التزم الحركيّون، كلّ بالطريقة التي يراها مناسبة لتحقيق العدالة، إزالة الظلم وإشاعة الطمأنينة....».
تؤلمك بشدّة الحالة العامّة المهيمنة على شعوبنا ومنطقتنا العربيّة إزاء تطوّرات القضيّة الفلسطينيّة، وتاليًا إزاء الصراع العربيّ الإسرائيليّ. تصدمك بقوّة جماعات تتسابق إلى إعلان الاستسلام والتخلّي نهائيًّا عن القضيّة وعن حقّ الفلسطينيّين في أرضهم وكرامتهم، مسقطين في دربهم قوّة الحقّ أمام حقّ القوّة. تدفعك أيضًا إلى الغضب الشديد جماعات متزايدة تتبنّى نظريّات «الحياد» و«الواقعيّة»، وهي استسلام أيضًا، لكنّه يغطّى أو يموّه باستخدام تعابير ديبلوماسيّة منمّقة.
أمام هذا السقوط الكبير يبرز صمت مريب شبه عامّ عند بقيّة الجماعات أو الأفراد الذين يشكّلون الأغلبيّة المطلقة. «الساكت عن الحقّ شيطان أخرس» مثل قديم ربّما يدين بقوّة كبيرة ويفضح، عند كثيرين، الخنوع الأعمى للمخطّطات التضليليّة أو الجهل أو اللامبالاة أو المصالح الشخصيّة وحتّى العمالة المبطّنة أو المتخفيّة!!
قلّة قليلة على المستوى الوطنيّ أو الكنسيّ، منهم بعض كبارنا، ورغم كلّ الإغراءات والضغوطات، تمسّكت بحرّيّتها الأزليّة في الصراخ وإعلان كلمة الحقّ في وجه الطغيان والتآمر والظلم. والشكر للَّه أنّ كلّ المنظومة الماليّة الدوليّة - العربيّة، والآلة الإعلاميّة الضخمة العالميّة - الإقليميّة، مع توابعها وعملائها، لم يتمكّنوا من إسكات حناجرهم أو كسر أقلامهم.
أنحني أمام شجاعة كبارنا وعظمتهم وصلابتهم إزاء القضيّة الفلسطينيّة والصراع العربيّ الإسرائيليّ، وأتساءل حول خطابهم وموقفهم اليوم في ظلّ التطوّرات المتلاحقة والمتسارعة على مستوى التطبيع مع المحتلّين والسقوط الكبير. هل كانوا سيصمتون ويبرّرون صمتهم بالتعلّل بعلل الخطايا؟ هل كانوا سيعتبرون أنّ «الواقعيّة» و«الحياد» يغلبان اليوم ويدفعانهم إلى «مسايرة» الواقع ومناصرة السلام الوهميّ وغير الحقيقيّ؟ هل كانوا سيتخاذلون عن المجاهرة بالموقف الحقّ؟ هل كانوا سينحنون أمام «حقّ» القوّة المفروض على المنطقة بالمال والنار من الدول العظمى وأتباعها؟
لا وألف لا! أثق بأنّهم كانوا سيشهدون مجدّدًا للحقّ وسيكون صوتهم صارخًا، يناصر الضعفاء والفقراء في وجه الظلم والاستبداد والإجرام! n