2020

15. تأمّل - أحبّي نفسَكِ - كارولين طورانيان – العدد الرابع سنة 2020

تأمّل

أحبّي نفسكِ

كارولين طورانيان

 

اعتدنا في الشرق أن نتغنّى بالأُمّ المضحّية المتفانية الجبّارة، التي تفكّر بالجميع في كلّ حين وفي كلّ وقت، ولا تسمح لنفسها بالتفكير بذاتها. كثيرًا ما نعتقد أنّ حبّ الإنسان لنفسه خطيئة وأصل كلّ الشرور فكيف إذا كان حبّ المرأة الأُمّ لنفسها؟ هل من الممكن لهذه الكلمات بأن تتشابك؟ حبّ المرأة الأُمّ لنفسها؟ هل يمكننا أن نتخيّل هذه الكلمات أو لا؟ نحن مجتمع يحبّ التقاليد ويعلّيها على الحكمة والعقل في الحلوة والمرّة. نخاف ونرتعب أحيانًا من الخروج عن عادة أو تقليد اجتماعيّ حتّى لو كان في الحقيقة لصالحنا وصالح من حولنا. لماذا لا يمكننا أن نفكّر في أنّ حبّ الذات في كثير من الأحيان ليس خطيئة ولا إثمًا بل هو واجب تجاه النفس التي هي هبة من اللَّه. أودّ كلّ الودّ ألّا نختلف في جوهر الكلام حتّى لو بدا ظاهره جريئًا وخارجًا عن المألوف أو حتّى ثوريًّا. عندي سؤال آخر جوابه يثبت لكم أنّنا في كثير من الأحيان أو في أغلبها نعتبر أنّ حبّ الذات سبب كلّ الشرور، وهو خطيئة كبرى كما علّمنا الآباء. تمهّلوا عليّ. أنا أهوى تفصيل الكلام وإعادة حياكته من جديد. لماذا لا نجد بين مؤلّفات الكنيسة، القديمة منها والجديدة ما يخاطب هذا الموضوع من منظار مختلف. ربّما من منظار علميّ طبّيّ ونفسيّ ومعنويّ. هل القليل من الاختلاف جريمة؟ هل علينا أن ننسخ ونلصق كلام الآباء وننحني إجلالاً أمام كلّ حرف وفي كلّ ظرف. قال أحد القدّيسين مرّة ما معناه أنّ الحياة مع الله تحتاج إلى الإبداع. وهذا ما أريد قوله بالضبط. الحياة بمعناها السامي تحتاج إلى الإبداع الروحيّ والشهادة للربّ تحتاج إلى كلّ طاقاتنا الإبداعيّة.

هل يمكننا تصنيف الرياضة البدنيّة، على سبيل المثال لا الحصر، من واجبات الإنسان تجاه نفسه وجسده أو هو حبّ للنفس من النوع الإيجابيّ والمحبّذ؟ أودُّ أن أُصنّفه بحبّ النفس والفرح بها. وهذا مطلوب أوّلًا لأنّه يستحيل على إنسان يحبّ اللَّه وأخاه الإنسان إن لم يكن لديه حبّ للاعتناء بنفسه. حبّ النفس هو أن نسعى إلى الأفضل من أجلها في أمور عدّة، ونتمنّى الأفضل لأجلها وأيضًا أن يكون عندنا الرغبة الكافية والإرادة القويّة لإدارة الذات باتّجاه تكون نتائجه مثمرة للنفس. ربّما نعتقد أنّ أكثر البشر لديهم حبّ للذات بدهيّ ولكنّني لست متأكّدة من صحّة هذا الكلام. أعرف أناسًا لا يحبّون ذواتهم ولا يتقبّلونها ولكنّهم يسعون إلى حبّ الآخر. وهناك أناس يعتقدون أنّ شراء الذهب والحليّ والسيّارات هو حبّ للذات جيّد.

تقبّل الإنسان لنفسه وتصالحه معها رغم عيوبها وضعفاتها وخطاياها لهو أمر بالغ الأهمّيّة من أجل الحياة مع اللَّه، ومن أجل النموّ على الأصعدة كافّة. عندما نختبر حبّ اللَّه غير المشروط لنا يمكننا عندئذ أن نتصالح مع ذواتنا ومع اللَّه ومع الآخر، وهذا شرط من شروط حبّ النفس البنّاء والإيجابيّ برأيي. عندما يصل الإنسان إلى رؤية نفسه بعيون اللَّه الرحيم الكلّيّ الحبّ والرأفة رغم وعيه أنّه أكبر الخطأة يتصالح عندئذ مع نفسه، ومع كلّ من حوله مهما فعلوا ضدّه ويتصالح مع اللَّه. هنا تبدأ حرّيّة الإنسان ونموّه بالاتّجاه الصحيح، باتّجاه الحبّ والسلام والتناغم مع الروح والانسجام مع كلّ إنسان رغم أيّ اختلاف، لأنّ الرؤية إلى الآخر تصير كرؤية الإنسان لنفسه عبر عيون الربّ ورحمته وحبّه له، وهو يعرف أنّه لا يستحقّ حبّ الربّ وهو يحبّ الآخر ويتمنّى خلاص الجميع، بغضّ النظر عن الاستحقاق أو عدمه.

يعي الإنسان في هذه الحالة قيمة نفسه، فيجهّز نفسه للولادة الجديدة التي هي من اللَّه وليست من دم ولا من مشيئة رجل، بل من اللَّه وحده تكون الولادة. من هنا يأتي حبّ الذات والعناية بها كأمر طبيعيّ فائق الأهمّيّة كما محبّة اللَّه والقريب هي فائقة الأهمّيّة. لا نستخفّنّ بالتعابير وبقوّة الكلمة وبقوّة المفاهيم التي عندنا القديمة منها والجديدة. «أحبب قريبك حبّك لنفسك»، أنا أفرح لفرح الآخر ولنجاحه ومواهبه لأنّني أفرح لنفسي لأنّها هبة اللَّه لي ويجب أن أحبّها وأعتني بها.

لنعد إلى حديثنا عن الرياضة البدنيّة. بالنسبة إليّ وإلى آخرين غيري هذا النشاط لا يقنعنا، لا نحبّه، ولا نريد أن نعتاده، وحتّى إنّنا نشعر بمقاومة أجسادنا له. أو هكذا كان من قبل. لا يمكنني أن أطيع طبيبًا في أمر لا أحبّه ولا يستهويني. ولا يمكنني أن أحبّ شيئًا إن لم أقتنع بعقلي بأنّه حسن لي ولماذا هو حسنٌ لي. عندما درست عن الصحّة في جامعة شعبيّة في السويد، أردت أن أُثقف نفسي، وأن أدرس الموضوع من جهات عدّة وأقتنع. لم يكن إقناعي بالأمر الصعب بخاصّة في الحصص التي كنّا نقوم بها في الطبيعة. تعلمتُ كيف أسير ببطء في الطبيعة وأُمتّع نظري وسمعي وكلّ حواسّي وأحببت ذلك، تعلّمت كيف أطرد ضغط المدينة عبر الجلوس في الطبيـعة أو عبر غمرة شجرة أحببنا شكلها. في الحقيقة أن الشجر في حالة غمرنا إحداها بأيدينا فستعتقد أنّ هناك حشرات تريد أن تقضي عليها فتبدأ بإفراز موادّ نافعة جدًّا للتخفيف من التوتّر والضغط ومعالجتهما، وحتّى تؤدّي إلى التخفيف من حدّة الطباع وإلى تليينها إلى حدّ ما. وهذا كلّه مثبت علميًّا. يكفي أن نقضي سـاعتين في الأسبوع في الطبيعة بعيدًا عن الهاتف النقّال، وبعيدًا عن الكلام والضجّة، بصمت وهدوء وحرّيّة...

تقولون لماذا هذا الحديث؟ أقول لأنّه في صلب موضوعي. هذا الأمر علّمني أن أُحبّ ذاتي وأن أحبّ الطبيعة أكثر فأكثر وأكتشفها أكثر، واقتنعت بأهمّيّة الرياضة وبدأت أمارسها شيئًا فشيئًا مرّات عدّة في الأسبوع وأُطوّرها مع الوقت. هذا جزء من طريقتي في محبّتي لذاتي واعتنائي بها لأقوى على تحدّيات الحياة. يقول العلم إنّ أدمغتنا لا تخلف كثيرًا عن أدمغة أجدادنا الذين عاشوا من آلاف السنين وكانوا يأكلون ما يصطادونه. الضغط العصبيّ كان وما زال ضروريًّا للإنسان. في حالة واجه أحد أجدادنا أسدًا في البرّيّة كان نظام الضغط في الجسم يبدأ بالعمل مع الهرمونات ليهيّىء الجسم إمّا للقتال أو للهرب. وبعدها كان يمكن للإنسان أن يرتاح من هذا الضغط. نحن في عصرنا هذا نعيش تحت ضغط مستمرّ وذلك من دون أن نرتاح ومن دون أن نقوم بما يلزم لاستعادة نشاطنا وقوّتنا وحيويّتنا. ونظام الضغط المستمرّ يفني الجسد ويتلف الدماغ حسب العلماء. كما أثبتوا هؤلاء أيضًا أنّ الرياضة كالمشي السريع والركض لهما مفعول معاكس تمامًا، فهما يساعد الجسم والنفس على تحمّل الضغط والتعاطي معه، ويساعدان الدماغ على إعادة تكوين خلايا جديدة ويساعدان على التخلّص من الاكتئاب، إذا لم يكن مزمنًا، حيث إنّ اللجوء إلى وصفة طبّيّة يكون ضروريًّا ويزيد من القدرة على التركيز وتحسين الذاكرة والذكاء وأمور أخرى عديدة. من هنا أيضًا يأتي الاهتمام بالنفس ومحبّتها في غاية الأهمّيّة للرجل والمرأة في آن. كيف يمكننا أن نصلّي ونرفع ذهننا إلى العلى ونحن نتلف أجسادنا وأدمغتنا بطريقة حياتنا وعدم اهتمامنا بذواتنا. أعرف أنّ التحدّيات عظيمة في الشرق، إلّا أنّ الرجاء موجود لأنّنا نؤمن بأنّ الله معنا لا يتركنا ولا يتخلّى عنّا. نقدر على أن ننهض من أيّ أزمة ونحاول إعطاء روحنا حقّها بالصلاة لتعطي نفسنا وجسدنا حقّها في الحبّ. اعتدنا في الشرق أن نطيع الأب الروحيّ والطبيب والأهل والمعلّم. 

مطلوب من الأمّ أن تضحّي بكلّ شيء وبكلّ وقتها وإلّا ربّما تخاف ألّا تكون أُمًّا صالحة في نظر محيطها.

ألا أعطت المرأة أيضًا نفسها خلوة مع نفسها ولأجل نفسها، بعيدًا عن الضجيج وبعيدًا عن الأولاد، وبعيدًا عن المسؤوليّات ولو مرّة في الأسبوع؟ ربّما أرادت أن تجلس في حديقة وتتأمّل الطبيعة، أو أن تخصّص ساعة في الأسبوع للرسم بحيث لا يزعجها أحد في هذه الساعة. أو أنّها تختار أمورًا أخرى تناسبها، للترفيه عن نفسها ومحبّتها والاعتناء بها لكي تقوى على محبّة الآخر حتّى النهاية، والتضحية من أجله بالغالي والرخيص فلا تخور في نصف الطريق. شرط محبّة الآخر محبّة الذات والاعتناء بها. وهذا ليس بخطيئة.

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search