شهادة
في المطران بولس بندلي
د. جوزف رشكيدي، رينه أنطون
«رافقت أشرف الخلق وأعظم الناس وقارًا وأجزلهم احترامًا. أدركت الأمر أثناء الاجتماعات التي كانت تعقد برعايته في مركز القدّيس بولس للخدمات الشاملة في مطرانيّة عكّار وتوابعها. وكانت علاقتي قد توطّدت به خلال مرافقتي له في السيّارة التي كانت تقلّنا إلى مشفى القدّيس جاورجيوس الجامعيّ. المشفى الذي غالبًا ما أثنى على خدماته وعلاجاته برعاية أخيه في الروح والقداسة سيادة المطران إلياس (عودة) حفظه اللَّه...
بوجوده كنت أشعر «أنّني بالقرب من إنسان عظيم وهبَ ذاته للآخر، يمارس فضائل القدّيسين وفي مقدّمتها العطاء والمحبّة والتسامح والشكر مع ابتسامة ملائكيّة تميّز بها. لقد ذكرت تصرّفات مثلّث الرحمة المطران بولس في كلّ جلسة دينيّة أو اجتماعيّة وردَ خلالها حديث يذكّر بأعماله الإنسانيّة المتنوّعة التي تركت أثرًا عميقًا راسخًا في ذاكرتنا ونفوسنا...
أسرد لكم حادثة، من حوادث عديدة، تختصر تواضعه ومحبّته واحترامه للآخر من دون تمييز.
ذات يوم وفي إحدى زياراتي المسائيّة إلى مركز القدّيس بولس للمشاركة في اجتماع عمل برعايته، فوجئت والحاضرين بمغادرة سيادته القاعة مستأذنًا لدقائق طالبًا منّا متابعة المناقشة ريثما يعود.
تساءل كلّ منّا عن السبب وكلّ الاحتمالات كانت واردة في ما خصّ رجلاً في عمره مثقل بالتعب. إلاّ أنّ السبب الحقيقيّ، الذي لم يكن في الحسبان، عرفته وأنا في طريق العودة إلى طرابلس بعد نهاية الاجتماع.
كان يرافقني الشابّ الشهم «بلال»، وهو أحد الشباب الكُثر الغيورين في الزاهريّة وشارع الكنائس وشارع الراهبات، الذين أهدوني الرعاية الطبّيّة لأطفالهم ويأبون أن أقود السيّارة ليلاً متكرّمين عليَّ بمرافقتهم. فقال لي ما يلي :
«بدي قلّك شي يا معلّم، أنا بعد ما شفت مثل هيك رجل دين، هذا رجل دين عن حقّ وحقيق لانّو فاجأني بحمله صينيّه عليها طعام وشراب إلي، وطلب مني أن استريح داخل المطرانيّة، فقلت له إنّني أفضّل أن أبقى تحت الشجرة قرب السيّارة شاكرًا له ما قدّمه لي...».
وقد أذاع بلال الخبر في محيطه وهو المقيم على مدخل الجامع المنصوريّ الكبير في شارع الراهبات في طرابلس.
الدكتور جوزف رشكيدي
«هيدا رجل دين عن حقّ وحقيق»
شهادة «بلال»، هذه، سطَّرها وعيُه لما في لفتَةِ المطران إليه مِن سرّ سماويّ. فما جرى، بنظره، ليسَ عادةً أرضيّة، وما حمله الرجل الآتي نحوه ليسَ ما أشبَع جسده وحسب، وإنّما ما أبهَج روحه. شعرَ بلال أنّها المحبّة السائرة إليه، وأنّها أثمَن من كلّ تقدمةٍ وألذّ. فهي من أسرّت له أنّه لم يكن طيلة هذا الوقت في الخارج، بالقرب من حيث أركَن السيّارة وبانتظار أن ينتهي طبيب أطفاله من اجتماعه. كشفَت له أنّه كانَ، في الحقيقة، متصدّرًا في الداخل، في ضميرِ مَن أركَنه اللَّه وسيلةً تقترب به، وبأمثاله، من السماء. لا بل كشفت له أنّه كانَ هو الموضوع المتقدّم في ضمير الضمائر والاجتماع، وأنَّ المواضيع في أماكن كهذه، في قصور الفقراء، إنْ اتخذت أهمّيّةً فإنّما لكونها نبعَت من أهمّيّته هوَ في هذا الضمير. فكيفَ له أن يلبّي الطلب ويتزحزح من مكانه بعد؟ وأيّ «راحة» سينشد غير هذه التي فيها يقيم تحت شجرة فردوسيّة؟
لا أدري، حقيقةً، أيّهما السبب في ما حرَّك الأسقف من رئاسة الاجتماع إلى رسامة بلال، بانحناء القلب إليه، رئيسًا فوق رئيس. أَالفقر هوَ أم البساطة أم الوفاء للطبيب الذي شُهِد لدى «السائق». ولا أدري ما إذا كان كلام الطبيب عن «مرافقته» هو لبلال، وليس العكس، ناتجًا من كونه استشفَّ قبلاً ما أدركَه بلال لاحقًا. أدري أنّ هذه ليست شهادة بل إيقونةً رسمها جسدُ المطران بولس بندلي «التعب» مُستعينًا بيد طبيبٍ صديق ترمز إلى أنّنا نحن، الذين في الداخل، هم المُهمَّشون، وهؤلاء، الذين تحت الأشجار، هم الأسياد. إلى أنَّ السبيل الأقصر إلى اللَّه من كلّ تفكيرٍ وبحثٍ في المنابر والمجالس واللقاءات هو في التحرّك إليهم من الداخل. وأنّ محبَّة الإنجيل لا تنشد وجوهنا وحيث نحن نُصلّي ونُقيم وحسب، بل تنشد كلّ وجه وحيث كلّ حيّ يقيم، وخصوصًا حيثُ أذاعَ عنها ونثرَ عبيرها بلال.
رينه أنطون