قضايا معاصرة
الأوبئة والأمراض
بين قدّيسين معاصرين وكوستي بندلي؛ تكامل أم تعارض؟
د. الياس صافتلي
هل الأوبئة والأمراض هي نتيجة غضب اللَّه على الإنسان حتّى يتأدّب؟
هذا السؤال كثيرًا ما يطرحه المؤمنون. فمنهم من يذهب إلى الاعتقاد بأنّ الإنسان، كلّما أخطأ، نال عقابًا من اللَّه على خطاياه؛ أكان هذا العقاب فوريًّا أم مؤجّلًا. ومنهم من ينطلق من قول القدّيس يوحنّا اللاهوتيّ: «اللَّه محبّة»(١)، ليقول إنّ اللَّه يسمح بالتجارب لمنفعة الإنسان الروحيّة. ومنهم من يقول إنّ اللَّه محبّة، ولذلك، هو لا يسمح بأيّ ضيقٍ يصيب الإنسان، ولكنّ الضيق يحدث كنتيجةٍ طبيعيّةٍ للحرّيّة التي أعطاها اللَّه للإنسان، وللنواميس والقوانين الطبيعيّة التي وضعها اللَّه للكون.
فكيف نقارب موضوع الأمراض والأوبئة، والشرور بعامّة؟
إنّ أيّ تحليل فكريّ، أو رأي شخصيّ مرتبط بهذا الموضوع، ومستقلّ عن أدبيّات الكنيسة، يبقى تحليلًا ناقصًا، ما لم يستند إلى مراجع كنسيّة، مقبولة من الشعب المؤمن، وإلى الآراء الآبائيّة بخاصّة.
لذلك، سوف نحاول، في ما يلي، أن نجيب عن هذه التساؤلات، بأن نعرض، في البدء، رأي د. كوستي بندلي، ثمّ ننتقل إلى آراء بعض الآباء القدّيسين، الذين أُعلنت قداستهم حديثًا، وهم: القدّيس بورفيريوس الرائيّ (+1991)، القدّيس باييسيوس الآثوسيّ (+1994) والقدّيس يوسف الهدوئيّ الآثوسيّ (+1959). وبعد ذلك، سنقدّم ربطًا لهذه المقاطع، عبر مفهوم خلق الإنسان في الكتاب المقدّس، ونبيّن التكامل بينها، بغية تقديم إجابة شافية في هذا الصدد.
يركّز د. كوستي بندلي، في مقدّمة كتابه «اللَّه والشرّ والمصير»: «على التعرّض لصورة شائعة بين الناس، تشوّه بنظرنا وجه اللَّه تشويهًا فادحًا. إنّها صورة إله تنسب إليه الشرور الطبيعيّة، كالأمراض والمصائب والكوارث، سواء أتمّت هذه النسبة بصورة فظّة كما في التعبير الشعبيّ الذي يتردّد: «اللَّه لا يضرّك» (ما يفترض أنّ اللَّه كائن يُخشى ضرره وأذاه)، أو بالصيغة الملطّفة الّتي يستعملها المتنوّرون، اللَّه «يسمح» بهذه الشرور وكأنّه يتنصّل منها ويغضّ النظر عنها»(٢). ثمّ يتابع، في الصفحة التالية، مجيبًا عن سؤالنا الأوّل، ومبيّنًا أنّ اللَّه محبّة، وأنّ المحبّة اسمه الفريد وصفته المميّزة. من هنا، فإنّ هذا الإله لا يرسل الشرور الطبيعيّة، بل لا يجوز أن يقال إنّه يسمح بها؛ وموضحًا أنّ ما يسمح به في الحقيقة هو أن توجد الخليقة فعلًا لا شكلًا، أي ألّا تكون مجرّد ظلّ له، ما يفترض أن يمدّها في الوجود لتكون، وأن ينسحب منها، في آنٍ، لتكون الفعل المتمايز بمنطق رفض تذويب المحبوب.
أمّا بالنسبة إلى بعض آراء الآباء القدّيسين في هذا الموضوع، فنورد مقتطفات من أقوالٍ للقدّيسين الثلاثة، الذين أناروا الكنيسة الأرثوذكسيّة في عصرها الحديث، وشكّلوا نتاجًا جديدًا لتقليدها، الذي يلمع دائما بقدّيسين شاهدين، ويؤكّد أنّه حيّ على مدى العصور. أمّا نحن فإنّنا نستفيد من أقوالهم، بفضل ما قرأناه من سيرهم، وخبراتهم، في حياة شخصيّة مع اللَّه، عرفوه عبرها بجهادات روحيّة، تكلّلت برؤيتهم نوره الإلهيّ غير المنفصل عن جوهره، وبشهادات تفتح أمامنا دروب الخلاص.
نبدأ مع القدّيس بورفيريوس. في كتاب «بالقرب من الشيخ بورفيريوس»، نجد الكاتب يقول للقدّيس إنّه يخاف من أن يسمح اللَّه بقصاصاتٍ قاسيةٍ لكي نتأدّب، فيجيبه القدّيس بورفيريوس عندئذٍ: «كلّا، إنّ اللَّه لا يعاقب، بل الإنسان يعاقب نفسه ببعده عن اللَّه. ولنقل يوجد ماءٌ هنا ونارٌ هناك، وأنا حرّ في الاختيار، إن وضعت يدي في الماء أنتعش، وإن وضعتها في النار أحترق»(٣). وفي حوارٍ آخر، يجيب القدّيس بورفيريوس بنفي ما إذا كان اللَّه يتدخّل في حياتنا، فيقول: «كلّا، لا يتدخّل، بل يحترم حرّيّتنا». ثمّ يضيف فورًا أنّ «تدخّل اللَّه في حياتنا سرّيّ». فيشعر، عندئذٍ، الكاتب أنّ القدّيس يتكلّم على أسرار اللَّه، ويستنتج، بعد حواره معه، أنّ تدخّل اللَّه، هو غير معروفٍ بالنسبة إلينا، لذلك، من الخطورة ربط خطايا الأشخاص بأحداثٍ بشعةٍ تحدث معهم، ووصف هذه الأحداث كتدخّلٍ منظورٍ من اللَّه وعقابٍ منه(٤).
ومن كتاب «حياة الشيخ باييسيوس»، نورد الحادثة التالية: مرّةً، زار رجلٌ رجلاه مشلولتان القدّيس باييسيوس الآثوسيّ. فباركه القدّيس بأن رسم، برفات القدّيس أرسانيوس الكبادوكيّ، إشارة الصليب على رأسه، ثمّ أخذ يقبّل رجليه المشلولتين، قائلًا له: هاتان الرجلان ستأخذانك إلى الفردوس، وأنت تجهل هذا. وبعدها، قال له: اسمع يا بنيّ، لا يريدك اللَّه أن تتعافى، لكن إعرف أنّ كلّ الذين يتحلّقون حولك، ويخدمونك، سيخلصون، وهم لا يدركون هذا، وأنت ستكون واسطة خلاصهم(٥).
فهل من فرقٍ بين ما ورد في هذه قصّة هذا القدّيس العظيم وما جاء في المقطعين السابقين؟ هل سمح اللَّه هنا بشلل الأرجل؟ وهل من علاقة بين المرض والخلاص؟
يجيب القدّيس يوسف الهدوئيّ الآثوسيّ، في كتاب «سيرة الشيخ يوسف الهدوئيّ الآثوسيّ»، عن هذه الأسئلة، ويقول: “ليس أصل الضيقات في الخليقة منذ البدء، بل هي نتائج تترافق مع حالتنا الساقطة. تنشأ من الخطيئة، لذلك تلقاها مقرفةً، منفّرةً للحياة، تتسبّب بالفساد والموت. لكنّ الربّ يسوع المسيح، تصدّى لهذا التهديد على حياتنا، والمؤامرة على طبيعتنا وجعلها لمنفعتنا. فلمّا بطل الموت سادت الحياة. تحوّلت مكنونات الموت وأدواته الى خدمة الحياة. إنّ حياة ربّنا وتعليمه، وحتّى استشهاد صليبه، جعلت هذه الضيقات ومجمل أدوات الموت تتحوّل إلى وسائل وطرائق للخلاص»(٦).
نفهم هنا، من تعليم القدّيس يوسف الهدوئيّ، العلاقة بين المرض والخلاص، فنرى أنّ المرض لم يأت من اللَّه منذ البدء، بل هو نتيجة للسقوط، أي لطرد الإنسان من الفردوس، ولبعد الإنسان عن اللَّه. لكنّ الربّ يسوع، بتجسّده وقيامته، حوّله من أداةٍ للموت إلى أداةٍ للخلاص. ويقول القدّيس، في موضعٍ آخر من الكتاب عينه: «يسمح السيّد بأن نجرّب، ليكون له أن يختبر حماستنا، ومحبّتنا. من هنا، إنّ الصبر مطلوب. من دون صبر لا يقتني المرء الخبرة، ولا المعرفة الروحيّة، ولا يبلغ أيّ مقدار من المعرفة والكمال»(٧). ثمّ يضيف: «كلّ من تعلّم أنّ الضيقات، وما تؤول إليه التجارب، هبةٌ من اللَّه، فقد وجد طريق الربّ. فمن تأدّب، انتظر التجارب بحماسة، لأنّه بها يتنقّى، وإذ يحتملها يستنير ويعاين اللَّه»(٨).
نفهم هذين القولين من باب المنظور الجديد للضيقات والأوبئة والأمراض كتجارب، هذا المنظور الذي تجدّد بقيامة المسيح. فاللَّه لا يسمح بالضيقات، أو يرسلها كهبات حتّى يقضي على الإنسان، بل الإنسان هو الذي أوجدها، وبالمسيح، يحوّلها إلى أداةٍ لتقدّمه الروحيّ، بعد أن كانت سبلًا للموت.
ولكن هل يتعارض ما قاله الشيخ يوسف الهدوئيّ مع ما طرحه د. كوستي بندلي عن السماح بالشرور؟
بعد قراءة هذه المقاطع، سنسعى إلى استخلاص العبر التي فيها، وربطها، وإبراز التكامل بينها، بالاستناد إلى الكتاب المقدّس. ففي سفر التكوين، نرى أنّ اللَّه خلق الإنسان على صورته ومثاله (تكوين1: 26). ويفسّر القدّيس يوحنّا الدمشقيّ الصورة والمثال كالتالي: «بالصورة نعني العقل والاختيار الحرّ، وبالمثال نعني التماهي بالفضيلة بمقدار الإمكانيّات»(٩). ونستطيع أن نفهم من هذا الكلام، أنّ اللَّه، بخلقه الإنسان على صورته، أعطاه الحرّيّة، أي سمح له بهذه الحرّيّة. وتاليًا، للإنسان ملء الحرّيّة في أن يخطئ، كما في أن يماثل اللَّه، ويستطيع أيضًا أن يبتعد عنه. وهذا ما اختاره الإنسان، اختار أن يتكبّر، وألّا يطيع اللَّه. فطرد اللَّه من قلبه، وسقط من الفردوس، وجلب الشرور لنفسه وللكون أجمع، بحرّيّته التي استخدمها بشكلٍ منحرفٍ عن غرضها الأساس، وهو مشابهة اللَّه في الفضائل.
إذًا، ليس اللَّه هو من أوجد هذه الشرور، بل بسبب الإنسان، وبواسطة حرّيّته، التي أعطاه إيّاها اللَّه ليبلغ بها القداسة، دخل الشرّ حياة الإنسان، وما يلي ذلك من أوبئة وأمراض ومصائب. بتعبيرٍ آخر، وكما يعلّم آباؤنا القدّيسون، خلق اللَّه الإنسان كائنًا، حتّى يتألّه، أي حتّى يتّحد باللَّه، ولكنّه انحرف عن هذا المسلك وعرف الشرّ، بعدما أكل من شجرة معرفته، بفعل إغراء الشيطان. وتاليًا، الشرّ غير موجود كبداءةٍ وجوديّةٍ، ولكنّه دخل في ما بعد، انجذب إليه الإنسان عندما وقع ضحيّةً للشيطان. لهذا، دخلت الأمراض والأحزان والآلام حياة الإنسان، فأمست، بالخطيئة وبعده عن اللَّه، مسالك للموت. ولكن، لشدّة محبّة اللَّه للإنسان، التي بها أعطاه الحرّيّة، تجسّد اللَّه ليخلّصه، ليعيد إليه إمكانيّة التألّه، وهذا ما تحقّق مع قيامة المسيح. وبقدر ما يعي الإنسان إمكانيّة تألّهه ويتبنّاها هدفًا لحياته، يستطيع أن يجعل كلّ المصاعب والويلات والأوبئة والأمراض، في حياته، أدوات تساعده على تحقيق خلاصه، لتذوّق الملكوت منذ الآن وسكناه في الآخرة.
ما رأيناه إذًا، في كتاب «اللَّه والشرّ والمصير»، من رفض د. كوستي بندلي لمنطق سماح اللَّه بالشرور، ما هو إلّا تعبير عن أنّ الله ليس هو الذي تسبّب بالشرّ، بل إنّ الشرّ دخل حياة الإنسان بفعل أخطاء يرتكبها هذا الإنسان، بخاصّة وأنّ د. كوستي يوضح أنّ «ما يسمح به اللَّه في الحقيقة هو أن توجد الخليقة فعلًا لا شكلاً». وهذا الفعل يكون بالعقل والحرّيّة، أي إنّ اللَّه سمح للإنسان بالتصرّف كما يشاء، عبر الحرّيّة التي أعطاه إيّاها.
أمّا عبارة: «يسمح السيّد بأن نُجرّب»، عند القدّيس يوسف الهدوئيّ، والتي نجدها في أدبيّات الكنيسة بعامّة، فهي أيضًا عبارة تتكامل مع ما قصده د. كوستي بندلي في كتابه، ولكن بتعبيرٍ مختلف، ولا تتعارض معه. فمفهوم الشرّ أنّه طارئٌ وثانويٌّ، وأنّه أتى بسبب سقوط الإنسان، هو واحدٌ عند الكلّ. ومقاربة الموضوع عند الكلّ انطلقت من قاعدة سقوط الإنسان، الذي خلقة اللَّه على صورته، أي عاقلًا وحرًّا، ليتألّه، ويؤلّه الكون، لكنّه سقط وأسقط الكون معه. بالطبع، لا أحد يصوّر اللَّه وكأنّه متربّصٌ بالإنسان، وينتظره كي يخطئ حتّى يرسل إليه الشرور فورًا ويؤدّبه. وتعبير أنّه يسمح بها، يؤشّر إلى عدم مساسه بالحرّيّة التي وهبها هو للإنسان.
اللَّه لم يوجد الشرور قطعًا، بل أعطانا، بتجسّد ابنه، فرصةً لنعطي أدوات الموت معنًى آخر مقرونًا بالخلاص. لذلك، لا نفهم من تعبير «السماح» أنّ اللَّه يستعمل الشرور ونتائجها حتّى يؤذي البشر، بل نفهم أنّنا، بانتصارنا عليها، وبتجاوزنا إفرازاتها الأرضيّة، ننال الخلاص بالمسيح. وهذا ما أوضحه لنا القدّيس يوسف الهدوئيّ في المقطع أعلاه.
تاليًا، صرنا نفهم وجود الأمراض الجسديّة والأوبئة على قاعدة أنّها فرص للخلاص. فاللَّه لا يضربنا بالوباء ليميتنا، وليست الأمراض نتيجة غضب اللَّه، أو لعنة اللَّه، بل هي نتيجة سقوط البشر. قبل المسيح، كان الناس يعتبرونها حملًا ثقيلًا عليهم، أفقها الموت، أمّا الآن، أي بعد فداء المسيح، فأصبحت فرصة - بالطبع مؤلمة جدًّا - لكي يلتصق الناس باللَّه، ويخلصوا هم، ومن حولهم، ويحوّلوا أمراض الجسد إلى حياة مع المسيح.
إذا استطعنا أن نعي فعلًا أنّ الخوف الحقيقيّ ليس إلّا من استفحال أمراض النفس (أي الأهواء) فينا، فهي التي تعيق خلاصنا، نسعى، عندئذٍ، إلى أن نعطي مصائب هذا الزمن بعدًا آخر، بعدًا خلاصيًّا.n