الأخت فيكتوريا: الراهبة العلمانيّة
سامر عوض
تعتبر الكتابة الوسيلة الأقصر للتعبير عن الذات البشريّة، لكنّ الكلمات توصّف ذاتها، رغم أنّها قد تعجز في بعض الأحيان عن إيصال الانطباع الحقيقيّ عن صاحبها. هي لحظة صفاء الكاتب مع نفسه كي يصل إلى مبتغاه.
الأخت فيكتوريا جبّور، هي من أولئك الذين لا نستطيع أن نظلم الكلمات، عندما نطلب منها إنصاف الكبار بشكل دقيق وواقعيّ. من أجل هذا، لا يكتب الإنسان من أجل نفسه، كي يفيها حقّها؛ بل بالحريّ من أجل أن يسطّر للذاكرة الإنسانيّة سطورًا يخطّها ويمضي.
يقول الشمّاس إسبيرو (جبّور)، وهو عمّ الأخت فيكتوريا بالجسد: «في اللاذقيّة مطران اسمه يوحنّا، وآخر يدعى فيكتوريا، بينما تحتلّ الأخت زكيّة، هذه المرتبة في طرطوس».
مارست التعليم منذ ستّينات القرن الماضي تقريبًا، ولـمّا تنتهي المسيرة، يتجدّد عملها كلّ صباح، رغم مرور ثمانية وخمسين عامًا، تستيقظ مع حلم كبير جدير بالاهتمام. هي من القلّة التي تدمج الواقع مع المستقبل المرتجى، وتلائم في ما بينهما بتقنيّة واضحة وأسلوب ناضج، تنصت إلى الصغير، وتحدّث الكبير، وتندمج معه كي تصل وإيّاه إلى أرضيّة مشتركة من الحوار. تستقبل الأخت فيكتوريا الجميع وترحّب بهم، ابتسامتها لا تعرف معنى لا للكلل ولا للملل. هي معبر لنور الربّ الذي ينسكب عبرها على من يرغب في أن يرى وجه يسوع الناصريّ. تحيا دومًا في سكينة وطمأنينة سيّد حياتها وحياتنا.
كرّست حياتها كراهبة متعبّدة في محراب لا يعرف للإيمان من معنى خارج العمل. هي لا تنتظرك كي تطلبها، بل تذهب إليك كي تغرف أنت ممّا حباها الربّ به من ينابيعه السماويّة، فلا مكان للضجر والمرض في حياتها، اذ لا يحجزها عنك سوى جزيئات من الوقت تناسب متطلّبات الجسد الفاني، لأنّ كلّ ما تبقى هو عطيّة ممّا لك يا ربّ، قدّمتها لك. هي أرثوذكسيّة البال العميق، والنفس الطويل والرجاء المتواصل. وفي الوقت ذاته هي مشرقيّة تعرف كيف تنتمي إلى هذه الأرض الطيّبة. تقضي حياةً هادئة يملؤها صخب التعليم، وضجيج المدارس، ولعب الأطفال المحبوب مقابلةً مع ضجّة الكبار. أيقنت الأخت فيكتوريا أهمّيّة إنشاد الإنسان أنشودة الحبّ الأولى، فحافظت على هدوئها عندما يضطرب الناس، وقالت الكلمة الفصل عندما كانت تقتضي الحاجة ذلك.
قالت لي يومًا، في ليلة رمضانيّة حارّة، لا تعلم مدى أسفي عندما أرى المسلمين يفطرون مع انقطاع التيّار الكهربائيّ. هي التي تشدّدت بالعقيدة، مع احترام العقائد والمعتقدات والمعتقدات الأخرى.
اعتبر بعض الناس أنّ مشاركة أناس آخرين لنا في أرض الوطن محنة، أمّا هي فاعتبرتها هبةً لنا كي نكون مسؤولين في الدرجة الأولى ونعرض لهم ببهاء الربّ القائم فينا. آمنت بأنّ الربّ أراد منّا أن نعتبر الآخر، أيّ آخر، أخًا حقيقيًّا بالنسبة إلينا. قالت لي ذات مرّة إنّه يتوجّب على الإنسان أن يخبر الآخر إن أخطأ، وأن ينبّهه إلى ذلك، فنحن مسؤولون تجاهه.
هي شخص أخلص الودّ للآخر، حيث يذكرها أصدقاء الطفولة، ويدركون حلاوة ابتسامة محيّاها، ولو مضى على ذلك أكثر من ستّين عامًا؛ لأنّ الفضيلة وأربابها يستمرّون. يحترق قلبها لرؤية إنسان مظلوم، فتسعى إلى أن تعيد إليه ما سلب منه، بأيّة وسيلة شريفة. وأذكر في هذا السياق، أنّه عندما وقعت يومًا في حفرة نصب لي شراكها شخصان، اتصلّت بها، ظننت في البدء أنّني سوف أسمع درسًا عن أهمّيّة تقبّل الآخر، واعتبار سهامه صليبًا أحمله على كاهلي، وما إلى ذلك من أدبيّات الإيمان الأرثوذكسيّ. ظننت ذلك لأنّني أعرف حقًّا خلفيّتها الروحيّة العميقة. إلّا أنّني أدركت أنّني أمام إنسان مخلص واعٍ وصادق، عبر تعاملي معها في هذه الإشكاليّة. تعرف كيف تضع الأمور في نصابها. تستعمل في تقاها المنطق، فتسخّر العقل من أجل الربّ. ذكرت مرّةً قصّة عن أنّ جماعةً من فلاسفة الإسكندريّة أتوا إلى القدّيس أنطونيوس سائلين إيّاه عن نبع الحكمة، وهو الذي كان متفوّقًا على علومهم وحكمتهم! فخاطبهم كما يفهمون، وسألهم مَن سبق مَن: العقل أم العلم؟ فصمتوا، ووصلهم جواب لم يتوقّعوه. مع الأخذ بالاعتبار أنّ الربّ هو مصدر هذه وتلك. الأخت فيكتوريا، ممّن مسك العقل وحلّق به في السماوات المختلفة الغنيّة التي غرفت من لدنها الكثير. هي صادقة مع نفسها، متصالحة معها إلى درجة لا تتسبّب لها بمشكلة في أن تعبّر عن نفسها كما ترى. اذ يجب أن يتصرّف الإنسان حسب طبيعته، كي يتلّمس نوائبها، ثمّ يبدأ بمعرفة ذاته والعمل على إصلاحها. هاوية الاعتدال هذه حافظت على حرارة اليوم الأوّل على دخولها الكنيسة. الهدوء ليس استكانةً بل وسيلةً لتعزيز سكينة الذات، كي تحافظ على التوازن وتنطلق منه إلى أقصى ما قد يصل إليه الإنسان. يودّ الربّ قلبك يا أيّها الإنسان، أمّا الباقي فتفاصيل جميلة وعزيزة.
يجب أن يبني الإنسان ذاته على صخرة الإيمان، عبر العقيدة، التي هي ليست إطارًا فكريًّا دقيقًا وعقلانيًّا للكنيسة، بل هي حصيلة جهادات متواصلة لقدّيسين طاهرين سعوا إلى إدراك ماهيّة الربّ، فخطّوا بدمائهم وعرق أتعابهم فحوى إيماننا الحقيقيّ. ونحن بحاجة ماسّة إلى أن نعرف هويّتنا الفعليّة، عبر الدراسة المتمحّصة الدؤوب لفكر الكنيسة الحيّ، والسير على نهج قدّيسينا.
هي تعترف بدراستها على مقاعد عمّها ومعلّمنا الشمّاس إسبيرو، هو أطفأ ظمأها كي تعرف الربّ كما تراه الكنيسة الحيّة وتؤمن به. فإن أضعنا الإنجيل، نجده في طيّات التقليد عبر تعاليم الآباء، فلا يجوز أن نحيد عنها لأنّها إنجيل حيّ متجددّ متجسّد في الذين آمنوا بالسيّد له المجد. كما أخلصت الأخت فيكتوريا للتاريخ، فطالعته بعمق وصدق، فلم تتعبد لحرفه بل لروحه، فاعتبرت كما المفكّر ميشيل عفلق: «علينا أن نعود إلى التاريخ لا لنفيده، بل لنستفيد منه». عادت كثيرًا إلى التاريخ الإنسانيّ العميق، مستخلصةً منه العبر، مدركةً أنّ لكلّ وقت خاصّيّته، ولكلّ زمن دولته ورجاله. فالدنيا يقيمها شخص، ويقعدها آخر أو يكمل المشوار، لذا يجب أن نتعب على خامة الإنسان وأن نصقله فهو الوحدة الأصغر والأكبر في أيّ مجتمع.
فهمت الأخت فيكتوريا الحياة الروحيّة، معبرًا للآخر كي يصبح أخًا، فنحن لم نتعرّف إلى ربّ يقيم حواجز بين البشر، بل إلى الربّ الذي يدعونا لنستوعبهم جميعًا، فمن فعل أيّ شيء لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي قد فعل.
لا تفرغ جعبتها أبدًا، تتلمذت على يدها أجيال وأجيال، مرشدةً ومدرّسة، وهم الذين أغدقت بنعم الربّ عليهم، وعلى المجتمع. أتجرأ وأقول إنّها لا تهتمّ كثيرًا إن أصبح أحد تلامذتها بطريركًا على أنطاكية، وآخرون مطارنةً، وآباءً، ورؤساء أديرة، ورهبانًا، وراهبات، هنا وثمّة. وذلك، بأنّها بذرت للربّ، الذي أنمى هذا البذار. أعطت حتّى أوجعها العطاء، فذهب الألم وبقيت لذّة الجوّاد المتهلّل الذي لا يشعر بحقيقته سوى من اختبره.
تسلّمت الراية والمشعل، منذ نحو ستّين عامًا، فحافظت على روحها الحركيّة حتّى غدت الميزان، والمعيار بالنسبة إلى أبناء أبرشيّة اللاذقيّة، ممّن يسترشد عبرها إلى منبع الضوء كي يبصر الطريق إلى المجد اللامتناهي. هي المرشدة الصالحة، والأخت العزيزة، والأم الرؤوم، التي يطلّ عبر ابتسامتها الوقرة، روح الناصريّ ربّنا ومخلّصنا، الذي يرسل لنا أمثالها كي يكونوا حجرًا للزاوية نسند إليه رأسنا، لأنّ الكتب هي سطور منشورة، أمّا هؤلاء فهم كتب استمرّت بفعل روح الربّ القائم معنا وفينا.n