إيمّا غريّب خوري، الكاتبة العاشقة
حوار لولو صيبعة
غريب أمر هذه المرأة! رغم الجراح(١) التي أصابتها لا تفارق البسمة ثغرها. عاشقة هي. تغرق في كرسيّها الهزّاز وتغوص في ذكريات حفرت بصماتها على قسمات وجهها.
تعلو محيّاها إمارات الحزن البهيّ، قلبها الكبير طُعن بحرقة إلّا أنّ يسوع الناصريّ ملك الملوك وربّ الأرباب حباها بإيمان ثابت وصادق، ووالدة الإله التي شاطرتها الألم ذاته أسبغت عليها روحًا نقيّة.
شدّها الربّ إلى وجهه الدامي فصار غذاء لروحها وبلسمًا لندوبها فسكرت من خمره. سكن قلبها بمحبّته ومسح دموع عينيها فغدا نديمها ورفيقها في ليالي القلق والأرق، وأمست كلماته كالندى النازل على قلبها المجروح.
إنّها العاشقة التي سطّرت عشقها في كتب غاصت عبرها في شرح مبادئ الأيقونة وتاريخ آباء الكنيسة، ووجّهت بوصلتها إلى والدة الإله رفيقة الدرب في كتاب هو عربون شكر إلى التي أمسكت بيدها في طريق الجلجلة.
جلسة تطول على شرفة تطلّ على البحر الأزرق الصافي، تسترجع فيها إيمّا غريّب خوري ما لذّ وطاب من ذكريات الأيّام الخوالي، في طرابلس وبيروت وجبيل.
من هي إيمّا غريّب خوري؟
تتحدّر إيمّا من إحدى أقدم الأسر الطرابلسيّة، فقد نزحت عائلة غريّب من بلدة إزرع الحورانيّة في غابر الزمان، ووصلت إلى مدينة طرابلس شمال لبنان، ناقلة معها قدّيسها اللابس الظفر جاورجيوس فبنت له كنيسة في الزاهريّة، وكانت لها أيضًا اليد الطولى في بناء كنيسة القدّيس نيقولاوس. تميّز من عائلة غريّب نعمة(٢) صديق إبراهيم باشا، وعبداللَّه الذي ترك مخطوطًا عن تاريخ طرابلس. جدّها إسكندر غريّب طبيب كان في طليعة الأطبّاء الذين تخرّجوا من الجامعة الأميركيّة في بيروت. والمرحوم رشيد كرامي طلب منه أن يكون معه في الانتخابات النيابيّة إلّا أنّ جدّها رفض لأنّه لا يحبّ التعاطي في الشأن السياسيّ، ويفضّل أن يكون محبوبًا من الجميع، وظهرت هذه المحبّة عندما خصّصت له بلديّة طرابلس شارعًا يحمل اسمه. وبالفعل كان المسلمون يتوافدون إلى عيادته للاستشفاء، وعندما توفّي كان المسلمون يقرأون الفاتحة على قبره في دير القدّيس يعقوب الفارسيّ المقطّع(٣). وجدّها أيضًا تنبّأ، إذا جاز التعبير، قائلًا للمطران جورج (خضر) «أنت أمل كنيسة أنطاكية». وعن طرابلس تلك الحقبة تقول إيمّا: «طرابلس كانت جميلة، كنّا نقطن في حيّ النصارى في الزاهريّة. كانت العلاقة جيّدة بين المسيحيّين والمسلمين، وكانت الزيارات متبادلة بينهم بخاصّة في الأعياد وفي الأفراح والأتراح».
والدها إلياس كان أحد وكلاء كنيسة القدّيس جاورجيوس مدّة خمسين سنة. إذًا هي سليلة عائلة مؤمنة وممارسة، غرست في قلبها حبّ الربّ منذ نعومة أظفارها، فانخرطت في العمل الكنسيّ من بابه العريض، من حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة.
تلقّت علومها في مدرسة راهبات العازاريّة في طرابلس، وأرادت أن تتخصّص باللغة الفرنسيّة وآدابها، لكنّها شغفت بالكتاب المقدّس ورغبت في دراسته، فكان لها خير معين سيادة المطران جورج (خضر) عندما كان ما يزال كاهنًا يعطي دورات مكثّفة في الميناء، أسكلة طرابلس.
إيّما في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة.
انضمّت إيمّا إلى حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في سنّ باكرة، في فرقة البشارة التي كان سيادة المطران جورج (خضر) مسؤولًا عنها. وفي العام 1957 عملت في أسرة الاستعداديّين مع الأخ شفيق حيدر، كما عيّنها المغفور له كوستي بندلي رئيسة على جوقات الترتيل. انضمّت إلى جوقة ترتيل كان يقودها السيّد بانايوتي المرسل من السفارة اليونانيّة، وكانت هذه الجوقة تتنقّل بالحافلة، في أسبوع الآلام وتقوم بالخدم في كنيسة القدّيس جاورجيوس في طرابلس وفي كنيسة القدّيس نيقولاوس في طرابلس وفي دير القدّيس يعقوب في ددّه.
وتضيف إيمّا: «من رفاقي في الحركة شفيق حيدر ونديم حيدر وسعاد حيدر ونقولا غندور المرتّل والخوري إبراهيم سرّوج وغيرهم كثر. وفي الحركة تعرّفت إلى الدكتور ميشال خوري وكان من الأعضاء البارزين في الحركة(٤) فأدركت أنّه الإنسان الذي أستطيع معه متابعة نشاطي في الحركة. تزوّجنا في العام 1962 وأنجبت بنتًا هي البكر وثلاثة شبّان نجحوا جميعهم في الحياة والعلم».
وماذا عن الزوج الدكتور ميشال خوري
وعن علاقته بالحركة؟
تقول إيمّا والدمعة الراقية تتسلّل من عينيها: «كان ملتزمًا جدّيًّا حتّى آخر يوم من حياته، وصارمًا في علاقته مع الحركة يريدها مثاليّة في مواقفها وتصرّفاتها. وكان ينزعج جدًّا من المطارنة والكهنة الذين لا يحبّذون حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة».
من شجّعك على الكتابة؟ وبمن تأثّرت؟
في السنة 1957 كتبت أوّل مقال في مجلّة «نداء النور»، عن القدّيس يوحنّا المعمدان. وحظي المقال بإعجاب الكثيرين ومنهم ألكسي بطرس مؤسّس الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة (الألبا) الذي قال لي آنذاك Je suis amoureux de ton Youhanna.
أمّا المطران جورج فقال لي «اكتبي وأنا أصحّح كتاباتك». وعندما انتخب المطران جورج على جبل لبنان، كان البطريرك إغناطيوس (هزيم) ما يزال كاهنًا في البلمند وكان هو من يراجع مقالاتي. كما شجّعني على متابعة الطريق كلّ من الأب جان كوربون والأب أندريه سكريما الذي كان يعطيني دروسًا في البيت. وفي وقت لاحق كان المرحوم إيلي عبيد يساعدني بكلّ تواضع، وعندما كنت أشكره كان يقول لي «أنا أستفيد من هذه المعلومات». وأذكر أيضًا البطريرك إلياس الرابع (معوّض) الذي شجّعني أكثر من مرّة وقال لي «إنّه يقرأ مقالاتي بشوق، وهو الذي عرّفني إلى زوجي ميشال».
من الأشخاص الذين طبعوا ذكراهم في قلبي، الأب ليڤ جيلله الذي كان يزورنا في المنزل. وكنّا مجموعة من السيّدات، من بينهم المرحومة فدوى إسعيد، نتحلّق حوله لنستمع إلى شرح الإنجيل. تلك كانت لحظات من الفرح نتلقّف فيها المعرفة. تعرّفت أيضًا إلى أوليفييه كليمان عندما كان أستاذًا لابني باسيل في فرنسا، وتعلّمت منه الكثير.
انتقلت من طرابلس إلى بيروت
بعد الزواج؟
«انهمكت بأمور العائلة ووقعت الحرب المشؤومة، وبيتنا يقع على خطوط التماس فأجبرنا على السفر إلى فرنسا ومكثنا هناك سنة، ولكن بسبب عمل زوجي عدنا إلى لبنان ووجدنا بيتنا مصادرًا، فانتقلنا إلى طبرجا. ولكن كما تعلمين لا كنيسة أرثوذكسيّة في الجوار، فكنّا نصلّي في كنيسة القدّيسين قسطنطين وهيلانة الكاثوليكيّة في جونية بعد الظهر، مع الأب متري بارودي الذي هاجر إلى ملبورن أستراليا. وكان الانتقال إلى الكنيسة محفوفًا بالمخاطر فالقذائف كانت تتساقط على الطريق بين جبيل وجونية. فما كان منّي إلّا أن اتّصلت بسيادة المطران جورج ناقلة إليه معاناتنا فقال لي خذوا كنيسة جبيل وصلّوا فيها. وكنيسة سيّدة النجاة في جبيل بنيت على عهد الصليبيّين وكان الأب أنطون (سليمان)(٥) يهتمّ بها، بعد أن رمّمها كميل الأسمر وأعطاها للمطران جورج. الكنيسة فارغة وكنّا نأخذ الكراسي معنا يوم الأحد وفي الأعياد. وبدأ اللَّه يساعدنا عبر محبّيه. اتّصلت بالسيّد سليم حبيب العام 1982 الذي أرسل شيكًا بقيمة خمسة آلاف ليرة فاشترينا الصليب وبعض الأواني الكنسيّة، وأوّل كاهن كان يقيم الصلاة كان كاهن كنيسة القدّيس يوحنّا المعمدان في الجديدة الأب نقولا (حدّاد)(٦)». في تلك الفترة كان الأب أنطوان (لامنس) عند راهبات الكلاريس في حاريصا، فذهبت مع الأب أنطون (سليمان) وطلبنا منه تصميم الأيقونسطاس فوافق وتوطّدت العلاقة معه منذ ذلك الوقت، وبخاصّة مع ابني باسيل الذي اهتمّ بإرسال الأيقونات الأربعين إلى باريس لترميمها.
وساعدنا أيضًا نقولا بخعازي الذي رسم صورة الكنيسة وطبعنا بطاقات منها وبعناها في بلجيكا، وتبرّعت لنا سيّدة، رفضت ذكر اسمها، بمبلغ 25 ألف فرنك بلجيكيّ. فطلبنا الأيقونات من اللاذقيّة أمّا الصليب وصفّ الرسل فمن دير دخول السيّدة إلى الهيكل في الأشرفيّة بريشة الأمّ بلاجيا.
كانت الرعيّة كبيرة تتألّف من عائلات هربت من بيروت بسبب الحرب الأهليّة.وشكّلنا لجنة كان من المسؤولين فيها المهندس فؤاد يازجي وإلياس سعد، واشترينا بيتًا للكاهن في الثمانينات وأسّسنا مستوصفًا إلى جانب الكنيسة.
في العام 1991 عدنا إلى منزلنا في السوديكو. وبناء على طلب الأب جان كوربون علّمت مادّة الآباء في كنيسة سيّدة العطايا. كما علّمت مادّة التعليم الدينيّ في مدرسة زهرة الإحسان، وتفرّغت للكتابة بعد أن كبر الأولاد وذهبوا إلى متابعة دراستهم في الخارج.
ما هي عناوين الكتب التي نشرتها؟
- الأيقونة شرح وتأمّل (طُبع مرّتين)،
- الأقمار الثلاثة (الكنيسة القبطيّة أخذت عددًا كبيرًا من هذا الكتاب وتعتبره مرجعًا).
- آباء القرون الأربعة الأولى،
- من وحي أيقونات كنيسة سيّدة البشارة في بيروت، بطلب من الأب جورج ديماس كاهن الرعيّة.
- المرأة بين حوّاء ومريم،
- يسوع الناصريّ ملك الملوك وربّ الأرباب،
- والدة الإله.
شاركت في مؤتمرات عديدة
وأعطيت محاضرات عدّة في لبنان والخارج منها:
- الإنجيل عبر الأيقونة: في كنائس لبنان، وفي بلجيكا وفي الرعيّة المارونيّة في سانت لويس أميركا، وفي حوران واللاذقيّة وبانياس.
- الأيقونة في الشرق، بخاصّة عن أيقونات كنيسة القدّيس نيقولاوس في طرابلس: محاضرة في أثينا ترجمت إلى اللغة اليونانيّة، وفي ليون، نُشرت في مجلّة Buisson Ardent.
- قدّمت أيضًا حلقات عن الأيقونات على شاشة تلفزيون تيلي لوميير ومريم .V.T
ماذا تحضّر إيمّا غريّب خوري اليوم؟
طلب منّي سيادة المطران إلياس (عودة)، راعي أبرشيّة بيروت، وضع دراسة عن أيقونات كنيسة القدّيس جاورجيوس في البلد، وأنا أعمل عليها حاليًّا.
وحين لا أكون منهمكة في الأبحاث والكتابة، أجتمع مع خمس سيّدات فاضلات ونقوم بحياكة القبعات والسترات الصوفيّة والقفّازات للأطفال المصابين بمرض السرطان.
هل لك من كلمة
إلى الحركيّين اليوم؟
أتضرّع إلى اللَّه أن يسدّد خطى الحركيّين في هذه المسيرة المباركة، في هذا النعيم الذي سكبه اللَّه على كنيسة أنطاكية. نعم لقد افتقدنا اللَّه عندما نشأت الحركة، كنّا نعيش في صحراء قاحلة، فمنّ اللَّه علينا بهذه البركة، ولو لم يكن اللَّه صانعها لما استمرّت إلى اليوم. وفي الذكرى التأسيسيّة الثامنة والسبعين أقول للأخوة أنتم الخمير الذي يخمّر العجين، فلا تتوانوا في الشهادة للمصلوب.
بعد هذه الجولة نسأل اللَّه تعالى حسن العناية للسيّدة إيمّا غريب خوري في إتمام الغاية واللَّه وليّ التوفيق.n