2020

4. حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة - خبرةٌ حَبَّذا لو تستعاد - غسّان الحاجّ عبيد – العدد الثاني سنة 2020

خبرةٌ حَبَّذا لو تُستعاد

غسّان الحاجّ عبيد

 

كنت منهمكًا في إعادة ترتيب مكتبتي وتنظيمها لمّا وقع نظري على دفتر يخصّ أمانة السرّ العامّة لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، يعود تاريخه إلى مطلع خمسينيّات القرن الماضي. هو من محفوظات الأخ ريمون رزق، وقد بعث به إليَّ، على ما أذكر، للتوثيق، يوم أَعلنّا في مركز طرابلس (وكنتُ يومها رئيسًا للمركز) عن استحداث مركز للتوثيق الهدف منه جمع تراثنا الحركيّ المنثور هنا وثمّة، وتنسيقه وتبويبه ليشكّل، يومًا ما، سجلًّا لتاريخ أنطاكية الجديدة في حقبة ذهبيّة من حِقَبها، فلا تبقى هذه الحقبة غير مؤرّخة ولا موثّقة، وتاليًا، مغمورةً في مَطاوي الإهمال والنسيان.

اسم هذا الدفتر، كما هو مدوَّن في صفحته الأولى، «دفتر خدّام الربّ»، ونقرأ في مقدّمته ما حَرفيّته:

«يحتوي هذا الدفتر على أسماء خدّام الربّ والمعلومات الخاصّة بهم. وخدّام الربّ هؤلاء هم:

- المستعدّون لدخول الحياة الرهبانيّة من شبّان وشابّات.

- المستعدّون لدخول الكهنوت وطلاّب اللاّهوت الحاليّون.

- المستعدّون لدراسة اللاّهوت، والشمامسة الذين ينبغي الاعتناء بهم ليصبحوا كهنة...

وخدّام الربّ هؤلاء جميعًا يؤلّفون رابطة واحدة، ويتبعون نظام حياة خاصًّا مشتركًا بينهم، وقد عَزَموا، نهائيًّا، على إعطاء حياتهم كلّها لخدمة المسيح الإله في نوع الخدمة التي تناسب، والتي ربّما كانت رهبانيّة، أو تعليميّة، أو تبشيريّة، أو كهنوتيّة...».

يتضمّن الدفتر مجموعة محاضر ورسائل متبادَلة يلفتك فيها غناها، ودقّتها، وأمانتها وحُسن تنظيمها. إنّها أشبهُ بشريط مكتوب ينقل لك صُورًا ناطقة بحياة الجماعة الحركيّة الأولى (الرعيل الأوّل)، وتشكّل ما يشبه خارطة طريق تقودك إلى ورشة كنسيّة واضحة البَداءات وواضحة المرامي، والقائمون بهذه الورشة يعرفون تمامًا ماذا يريدون، ويعرفون الطريق. شبّان وشابّات، عشرينيّون وعشرينيّات، يسيرون بعكس ما تشتهيه رياح الفتوّة والشباب، يطرحون عنهم أحلام العمر الورديّة العابرة، لأنّ عيونهم، وبما يشبه «النور الذي يقذفه اللَّه في الصدر»، قد أبصرت الحلم الأكبر والمضمون، والحلم كان الكنيسة. إنّهم حلموا بكنيسة أنطاكيّة متجدّدة الأوصال ومتجدّدة النبض، تنفض عنها غبار الركود لتبدو عروسًا سنيّة تلمع ببهاء باريها وسيّدها. اشتهَوا كنيسة تحاكي تطلّعاتهم وتخاطب هواجسهم، تشهد لمسيحها في محيطها وفي العالم، وتكون مَحطّ رجائهم ومستودعًا للخلاص الحاصل بيسوع المسيح فداءً لهم وللعالمين.

أجل، إنّ هذه المحاضر تعكس الجدّيّة الكبيرة التي تَميّزَ بها الحركيّون الأوائل؛ فقد كانوا يلتزمون قضايا كنيستهم ويتعاطَونها باعتبارها قضاياهم، وباعتبار أنّ كلّ قضيّة منها يمكن أن تكون قضيّة حياة لحقّ المسيح (إذا ما أولَوها الاهتمام الذي تستحقّ) أو قضيّة موت لهذا الحقّ (إذا ما أهملوها). أجل، الكنيسة، بجوانبها كافّة، بسائر شؤونها وقضاياها، بتجلّياتها وسقطاتها، بمَواطنِ الضعف فيها ومَواطن القوّة، عَنَت للحركيّين الأوائل حياتهم، لا أقلّ، فكنتَ تراهم ينصرفون إليها انصرافهم إلى الهموم المعاشيّة الكبرى. وهم كانوا، أصلًا، قد تعلّموا من المؤسّسين أنّ الكنيسة يحملها الجميع، كلٌّ على قدر طاقته وعلى حسب الموهبة المعطاة له، وأنّها، بهذا المعنى، مسؤولة من الجميع وليس فقط من الإكليروس. وعلى هذه الخلفيّة الرؤيويّة الصلبة و«المستقيمة الرأي» تمكّنوا من فهم كيف أنّ الحركة التي أطلقها المؤسّسون لم تكن مجرّد حركة مطلبيّة تكتفي بطرح هواجسها وأفكارها على الرئاسة الروحيّة وتنتظر التلبية. ربّما كان هذا شأن الحركات المطلبيّة المدنيّة، السياسيّة وغيرها، وأسلوبها، أمّا حركة الكنيسة فشأنها آخَر وأسلوبها آخَر. وهكذا نجحوا في ضرب الثنائيّة المصطنعة التي كانت قائمة، في تلك الحقبة، بين الإكليروس والعلمانيّين، والغريبة كلّيًّا عن لاهوت الكنيسة، أي عن مقولة «الكهنوت الملوكيّ» التي يقول بها بطرس الرسول في الإصحاح الثاني من رسالته الأولى الجامعة.

ولعلّ اللاّفت في الأمر– وهو ما تُبرزه محتويات الدفتر الذي نحن في صدده– أنّ الحركيّين الأوائل كانوا يعيشون معًا ويتبادلون الحبّ متّخذين من حياة الجماعة المسيحيّة الأولى كما يوصّفها سفر أعمال الرسل، لا سيّما في الإصحاح الثاني منه، نموذجًا. معًا كانوا يسيرون على دروب الربّ متلمّسين حاجات الكنيسة، وفي هذه المعيّة المضمّخة بطيب الحبّ كانوا يقفون بعضُهم على أحوال بعض، فيكتشفون بعضُهم مواهب بعض. فمن كان صالحًا للتعليم وجّهوه للتعليم، ومن كان صالحًا للخدمة وجّهوه للخدمة. من وجدوه صالحًا للترتيل وجّهوه للترتيل، ومن وجدوه صالحًا للكهنوت أو للشموسيّة وجّهوه لهذه أو ذاك... وهكذا دواليك. هذا كلّه كانوا يتمّمونه بالحبّ المتبادَل في ما بينهم والطاعة المتبادَلة. فقد كانوا يحبّون بعضهم بعضًا، وبفعل هذا الحبّ كانوا يطيعون بعضهم بعضًا. فإذا قالت الجماعة لأحدهم «نحن نرى أنّك تَصلح لهذه الخدمة أو تلك ونتمنّى لو تُكرّس ذاتك لها»، كان هذا الأخير يطيع صوت الجماعة كما لو أنّه صوت اللَّه ويُذعن له، وبلا تردّد يذهب وينفّذ. ولم يكن يقلق على يومه ولا على غده، ولا يخشى عَوزًا، لأنّه كان يعرف أنّه محضون. فالجماعة التي دفعته إلى هذا التكرّس كانت تعضده، مادّيًّا ومعنويًّا، فتساهم معه في نسبة لا بأس بها من مصاريف الدراسة. فالجماعة الحركيّة كانت قد أطلقت، آنذاك، صندوق «فرنك اللاّهوت» وعيّنت له أمينًا عامًّا وخصّصت عائداته لدعم الرهبنة وطلّاب اللاّهوت. وهكذا كان يتسنّى لطالب اللاّهوت أن ينصرف إلى دراسته مطمئنّ البال لأنّ عِبءًا قد رُفع عن كاهله.

هذا الحسّ الجماعيّ هو الذي أنتج لكنيسة أنطاكية، منذ أربعينيّات القرن الماضي، مكرّسين ومكرّسات من كلّ صنف: بطاركة وأساقفة، كهنة وشمامسة، رهبانًا وراهبات، مرشدين ومرشدات، معلّمين ومعلّمات، كتّابًا وآباءً روحيّين.... وهكذا كانت ورشة الكنيسة تقوم على قدم وساق، وكان بنيانها يرتفع مدماكًا فوق مدماك. هكذا أبصرت أنطاكية الجديدة النور وأبصرناها نحن نورًا.

في مجال العلوم الدنيويّة يتمّ الاِختبار التأهيليّ بواسطة امتحانات يخضع لها المرشّحون، وبناءً على نتائجها ينجح من ينجح ويُفرز الناجحون، هنا وثمّة، تبعًا لاختصاصاتهم. في الكنيسة –وهي مختبر الحبّ– ما هكذا فقط يتمّ الاِختبار، لكنّه يتمّ، بصورة رئيسة، وسط الجماعة، عبر العيش معًا. الإخوة يحيَون معًا، ومعًا يختبرون بعضُهم بعضًا ويلاحظون بعضهم بعضًا. ما زلنا، إلى اليوم، نذكر العبارة الشهيرة التي خاطب بها المطران جورج خضر المطران بولس (بندلي) يوم سيامة هذا الأخير أسقفًا، وقد باتت، بالنسبة إلينا، قاعدة ومقياسًا، قال له: «نحن لم نخترعك أسقفًا، بل لاحظناك». خاطبه بهذه العبارة ليقول له إنّ الأسقفيّة التي رقّيناك إليها كانت فيك أساسًا، ونحن لاحظناها فيك فكشفناها للكنيسة. إنّ كشفًا كهذا لا يتمّ إلاّ في سرّ الجماعة، أي وسط الجماعة التي يكوّنها الحمل في سرّ الشكر.

لست متأكّدًا ممّا إذا كنّا ما نزال، إلى اليوم، قائمين في هذه الخبرة وفي هذا الخطّ. أرجو ذلك. لكنّني متأكّد من حقيقة ثابتة: أنّ هذه الخبرة هي التي أعادت ضخّ الدم في شرايين الكنيسة الأنطاكيّة، وكانت في أساس التجديد الحاصل فيها منذ العام 1942. خبرةٌ كهذه حَبّذا لو تُستعاد، بل يجب أن تُستعاد ليستمرّ التجديد. n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search