قانون السَحَر الفصحيّ البيزنطيّ
مصادره الكتابيّة والآبائيّة
الأب سيرافيم داود
من الترانيم الأكثر شهرةً بين التقاليد الليتورجيّة البيزنطيّة، قانون صلاة السحَريّة الفصحيّة. فهذه الخدمة الكنسيّة تجذب المؤمنين الأرثوذكسيّين، حتّى الأقلّ تديّنًا منهم. يُنسب هذا القانون عادةً إلى ناظمه القدّيس يوحنّا الدمشقيّ، ومع ذلك، يبقى هذا النَسب التقليديّ صعب التأكيد، نظرًا إلى غياب اسم كاتب القانون الفصحيّ في الوثائق القديمة.
وبغَضّ النظر عن هويّة الكاتب، يحتلّ القانون الفصحيّ مكانة خاصّة في الأدب الترنيميّ في الكنيسة الأرثوذكسيّة، بمفهومه البيزنطيّ، لكونه وسيلة تنشر الحقائق العقائديّة. فقانون الفصح مثَلٌ جيّدٌ لاستخدام الكتابات المقدّسة في هذا الأدب البيزنطيّ الذي غالبًا ما يُفسِّر الإنجيل عبر العظات الآبائيّة. فالمواضيع الإنجيليّة والأفكار الآبائيّة حاضرة ومترابطة كثيرًا مع هذا النوع من التراتيل الليتورجيّة. وعلى غرار معظم القوانين السحريّة التابعة للطقس البيزنطيّ، يُعتبر قانون الفصح نشيدًا مؤلَّفًا من سلسلة من ثمانية أناشيد نثريّة إيقاعيّة، لها هيكيليّة منظّمة تشبه الأناشيد الكتابيّة السحريّة المألوفة.
يحتلّ القانون الجزء الأكبر من الأدب الترنيميّ الفصحيّ، وهو كالأناشيد التي تُنظَم لهذا العيد، يحتفل بقيامة المسيح التي تعتبر حدَثًا سردَته الأناجيل في نهايتها (زيارة القبر الفارغ وظهور الربّ القائم من بين الأموات)، إذ يستعين هذا القانون بفائض من الموادّ الإنجيليّة. كما أنّه يشير إلى أهمّيّة الحدث الخلاصيّة، وتأثيره الأساس في مصير الجنس البشريّ، وعلى وجه التحديد نجاته من قبضة الموت وخلاصه.
مواضيع ترانيم الصلوات السحريّة
في القانون الفصحيّ
يعرض لنا أحيانًا قانوننا الفصحيّ عبر هذه الترانيم إشارة بسيطة أو تلميحًا عن الموضوع الأساس، ويعرض أحيانًا أخرى تكرارًا لتعابير مُرفقة بتفسيرٍ خاصّ بها، وهذا ما نشهده خصّيصًا في الأرمس (المطلع)، وهو الاسم الذي يُطلق على أوّل بيت من كلّ أودية (ode، تسبيحة). الأرمس هو البيت الذي يُفترض به الربط بين النشيد السحريّ والأدب الترنيميّ الخاصّ باليوم أو بالعيد المحدّد.
تُعدّ لازمة أرمس الأودية الأولى والبيت الذي يتبعها «نحن المنشدين نشيد النصر والظفَر»، مستوحيَين من عبور البحر الأحمر، وهو موضوع أوّل نشيد كتابيّ من الصلوات الصلوات السحريّة. فاللازمة هذه غير موجودة حرفيًّا في (الخروج ١٥: ١- ١٩)، لكنّ العبارة تشير إلى النشيد كلّه الذي أنشده العبرانيّون الناجون، ويُكَرّره هنا المسيحيّون المحتفلون بانتصار القيامة. فعبور البحر الأحمر هو انتصار على فرعون وجيشه الغارقين في البحر، بما في ذلك انتصار يترجمه نشيدنا الفصحيّ تمامًا كالانتصار الأخير للمسيح على الموت، عبر الحَدَث الفصحيّ. انطلاقًا من عبور البحر الأحمر وهو الحدث الذي يُكَرَّس له هذا النشيد السحريّ الأوّل، فإنّ الأرمس ١ من القانون يعود ويُكَرّر موضوع العبور الذي يتمّ بمشيئة اللَّه، فلا يبقى هذا الحدث مجرّد عبور للبحر الأحمر، بل هو الاجتياز «من الموت إلى الحياة ومن الأرض إلى السماء» الذي «قد أجازنا به المسيح الإله». وهكذا سمح المسيح للبشر (أي نحن) بقيامته، نَيل الحياة والسماوات. فالعجائب التي يصنعها اللَّه تتمّ معالجتها أحيانًا في ترانيم الأعياد من منطَلق خلاصيّ، لإظهار نتائج هذه الأحداث على مصير الجنس البشريّ الأسمى.
بحسب (خروج 15: 13) تمّ اجتياز البحر الأحمر بمشيئة اللَّه. لكنّ العبارات المستخدَمة في التسابيح تختلف عن تلك المستخدَمة في النشيد الكتابيّ: ώδηγήσας (خروج13:15) وείσαγαγών (15: 17) أو διεβίβασεν (الأرمس 1 من القانون). هذا النوع من إعادة الصياغة شائع في الأدب الترنيميّ البيزنطيّ الذي يكَرّر عبارةً أو موضوعًا إنجيليًّا مستخدِمًا مفردات مختلفة. كما يمكننا اعتبار هذه الظاهرة دليلًا على قبول كلمة اللَّه بواسطة تعاليم الكنيسة التي تجيب السيّد معبّرة عن الطاعة بصيغةٍ جديدةٍ للرسالة وبكلماتٍ أخرى.
استعمال المادّة الإنجيليّة هنا مستقلّ تمامًا، لكن يمكننا ملاحظة الصِلة الموضوعية الكبيرة بين النشيد والأودية من حيث مبادئ القيادة والنجاة والانتصار، لكونها قريبة من موضوع العبور نحو الخلاص. وتكرار كلمة «فصح» يعزّز هذه الصلة.
يُكرّر قانون الفصح خصوصًا في الأودية الثالثة والرابعة والخامسة المواضيع العامّة للأناشيد ذات الصلة ويستخدم لازمتها.
ففي الأودية الثالثة الفعل «نتشدّد» (Εστερεώθη) يتعلّق بتشدّد الجماعة (بالجمع في الأرمس) أو الخليقة (بالمفرد، الطروباريّة ١١٤). يبرُز موضوع التشدّد بكثرة في الأودية الثالثة من القوانين الليتورجيّة البيزنطيّة، ويعود ذلك إلى ترابطه الموضوعيّ بالنشيد الكتابيّ الثالث.
وبحسب ما جاء في قولٍ للمخلّص في إنجيل (متّى ١٢: ٤٠) عن بقائه «في بطن الأرض ثلاثة أيّامٍ وثلاث ليالٍ»، فإنّ الرابط بين القنداق والنشيد هو أكثر متانة في أرمس الأودية السادسة ممّا هو عليه في الأودية السابقة، وذلك أيضًا بسبب ظهور آية النبيّ يونان الذي بَقيَ في بطن الحوت، وهي الآية التي بُنيَ عليها موضوع النشيد السحريّ السادس. وانطلاقًا من هذا القول، يعقد الأرمس رابطًا بين خروج يونان من بطن الحوت وخروج المسيح من القبر. ورغم ذلك، ففي (متّى ١٢: ٤٠) لا يذكر المسيح أيّ خروج من بطن الحوت أو من القبر بل يذكر فقط بقاء ابن الإنسان، وهكذا فإنّ المقابلة بين هذين الحدثَين المقترحة في الإنجيل تعزّزها التسابيح الفصحيّة التي تشير بشكلٍ واضح إلى الخروج في الحدثَين. وفي الأرمس عينه، ما عدنا نتكلّم على البقاء البسيط المذكور في قبرٍ، بل نتكلّم على نزول المسيح «إلى أسافل دَرَكات الأرض»، ما يشكّل أيضًا تعزيزًا لقول المسيح.
نجد في أرمس الأودية السابعة ذكرًا بسيطًا للمثل الإنجيليّ، الخاصّ بالفتية في أتون النار، وذلك وفق موضوع النشيد (دانيال٣: ٢) فإنّ تطوّرات الأحداث الأخرى هي إمّا مستوحاة من مواضيع إنجيليّة تستخدمها مقاطع أخرى غير الأناشيد السحريّة، وإمّا مستوحاة من مواضيع غير إنجيليّة. تُستَهّل الأودية السابعة بتذكير واضح بالحدث الكتابيّ عبر النشيد (دانيال ٣) حيث يقدّم لنا الأرمس تفسيرًا مسيحيًّا مُحدّدًا «هو من يخَلّص الفتية من الأتون» الذي «يتألّم كإنسان» جاعلًا البشر عادمي الفساد، فنشهد بعض التغييرات التي طرأت على لازمة القنداق (دانيال ٣: ٢، ٢٨ وما يتبعها) في نهاية كلّ طروباريّة من الأودية. ولا يُعتبر نهج الاستخدام الحرّ لموضوع القنداق السحريّ ولازمته خاصًّا بالقانون الفصحيّ لكنّه يُتّبَع في قوانين أخرى عديدة، وعلى وجه التحديد في نبوءة الفتية الثلاثة في أتون النار المتعلّق بالنشيدين ٧ و٨. وحدها لازمة النشيد (راجع دانيال ٣ : ٥٢ وما يتبعها) تتكرّر في نهاية كلّ طروبارية من الأودية الثامنة وما تبقّى منها يقدّم موضوعات خاصّة.
تدعو الأودية التاسعة والدة الإله إلى الابتهاج بقيامة الذي ولدته (الأرمس)، الأمر الذي يمكن اعتباره على صلةٍ موضوعيّةٍ بالقسم الأوّل من النشيد السحريّ التاسع، الذي تفوّهت به مريم لدى زيارتها أليصابات عندما «ابتهجت» روحها (لوقا ١: ٤٧). كما نرى هذه الصلة بالنبوءة الإنجيليّة للبشارة حين دعا رئيس الملائكة أيضًا العذراء للفرح (لوقا ١: ٢٨). لا تتخطّى تلك الصِلات موضوع الفرح والابتهاج المشترَك بينها، وفي الحالات الثلاث تعطي ترجمة فعل «الابتهاج» معنى آخر للفعل اليونانيّ. وفي أغلب القوانين السحريّة البيزنطيّة، يُخصّص أرمس الأودية التاسعة لوالدة الإله ولتَجَسّد المسيح. يستخدم الفعل «إفرحي» الخاصّ بالبشارة في أرمس الأودية التاسعة الفصحيّة كبشارةٍ لكلّيّة القداسة بقيامة ولدها.
يندرج قانون الفصح ضمن تيّارٍ مهمّ من التفسير الليتورجيّ البيزنطيّ مُقترِحًا في أناشيده تفسيرًا رمزيًّا لما يخصّ المواضيع الأساسيّة ذات الصلة بنصوص العهد القديم. وتسعى قوانين الصلوات السحريّة البيزنطيّة إلى أن تُنسِب المواضيع المذكورة في الأناشيد الكتابيّة إلى المسيح والتي يألفها المؤمنون وذلك بفضل تكرارها بشكلٍ دائم في الخِدَم.
عناصر إنجيليّة أخرى
موضوع المشروب الروحيّ الرمزيّ: لفيضان الماء من الصخرة، كي تروي عَطش الشعب العبرانيّ في الصحراء، تقترح التراتيل الفصحيّة تفسيرًا رمزيًّا ومسيحيًّا لذلك. ووفق التفسير الذي اقترحه بولس الرسول، فإنّ هذا الحدث يمثّل المسيح. في أرمس الأودية الثالثة يُصَوَّر المسيح الخارج من القبر «كينبوع عدم الفساد»، حيث يصبح المسيح نفسه «المشروب الجديد» مُقدّمًا نفسه للعالم ليرووا عطشهم بالكامل. فكما رويَ عطش الجسد في ما مضى بطريقةٍ عجائبيّة، فقد مثّل هذا صورة عن عطش أكبر ألا وهو التعطّش إلى اللَّه.
داود يرقص أمام تابوت العهد: تُفَسّر هذه الرقصة التي تدلّ على الفرح تفسيرًا رمزيًّا في الطروباريّة الثالثة من الأودية الرابعة من قانون الفصح حيث يظهر فرح القيامة. أمّا سبب ابتهاج داود ورقصه فهو لاعتبار تابوت العهد المكان الوحيد للوجود الإلهيّ على الأرض قبل تجسّد المسيح. تُوضِّح الطروباريّة أنّ التابوت كان ظلًّا أو تجلّيًا للحقائق المستقبليّة بحيث إنّ كلمة «ظلّ» تعود إلى موضوع من النشيد (حبقوق ٣ : ٣)، كما أنّ هذه الكلمة ومشتّقاتها يستخدمها آباء الكنيسة ليدلّوا على تجلّيات خاصّة بنصوص العهد القديم. تلقى رقصة داود هنا مقابلةً مع فرحة شعب اللَّه المختار، أي الكنيسة، الذي «يرى إتمام النبوءات» فتفَسِّر الطروباريّة حرفيًّا المقابلة بين العهد والقديم والعهد الجديد وتَتمّة الواحد بالآخر: فإنّ الظلّ أو ظهور التابوت يجد إتمامًا له في القيامة لكون هذين الحدثَين يجلبان الفرح. لا تكتفي هذه الطروباريّة فقط بتقديم مثلٍ عن إتمام النبوءة بل توَضّح أيضًا بطريقة شعريّة نهج التفسير الرمزيّ للأحداث.
ذبح الحمل: تتناول ثلاثة أبيات من القانون موضوع التضحية الفصحيّة للعبرانيّين لدى خروجهم من مصر مقابلةً بتضحية المسيح. وتكرّر التسابيح الفصحيّة النبوءة الإنجيليّة بطريقةٍ غير مباشرة، مُستعينةً بالحديث الخامس والأربعين عن الفصح للقدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ، مع تأثيرها المحتمل على عظة القدّيس ميليتو الأسقف السرديسيّ. يُلزم العهد القديم العبرانيّين الاحتفال بالفصح عبر ذبح حملٍ ذَكر بلا عيبٍ وعمره سنة (سفر الخروج ١٢ : ٥). ويكرّر القانون الفصحيّ هذا الموضوع الإنجيليّ وفقَ الحديث الرابع والخمسين الذي يُعلّق على الآية الإنجيليّة ذاتها مشدّدًا على أنّ صفة الكمال (بلا عيب) والطابع الذكوريّ للحمل، يعنيان حالة المخَلّص المنزّه عن الخطيئة بطبيعَتَيه الإلهيّة والإنسانيّة، فهو صورة عن الإنسان المثاليّ بحيث إنّ الطابع الذكوريّ للحمل الذي تكلّم عليه القدّيس غريغوريوس بحسب (أشعياء ٧ : ١٤ و ٨ : ٣) يدلّ على أنّ المولود سيكون ابنًا ويُقصد به المسيح. تنطبق تلك المؤهلات الواردة في قانون الفصح على المسيح الـمُمثّل بالحَمَل. فالتضحية بكلّ أوّل مولود ذكر أكان من الماشية أم من البشر، أمرٌ يمليه (الخروج ١٣: ١– ٢: ١٢) وينطبق على المسيح لكونه أوّل مولود ذكر فاتح الرحم البتوليّ.
بحسب (سفر الخروج ١٢ : ٦)، يُذبح الحمل ويُضحّى به، ومن هذا المنطلق يذكر قانون الفصح تضحية المسيح الطوعيّة: وفق تعاليم المجمع المسكونيّ السادس (القسطنطينيّة ٦٨١)، بذل السيّد ذاته وقدّم نفسه طوعًا كأبٍ وكضحيّة في آنٍ واحد لأنّ إرادة المسيح الإنسانيّة تخضع لإرادته الإلهيّة من دون قيودٍ أو حواجز. لكن ولكونه إلهًا يصبح ضحيّة غير مائتة وهذا ما يدلّ على الطبيعة الإلهيّة لشخص المسيح التي تسمح بوصفه «أزليًّا» في نشيدٍ يتحدّث عن تضحيته.
تلقى تضحيات العهد القديم جميعها صداها في تضحية المسيح بنفسه، فكمال التضحية يأتي من الإله-الإنسان الذي أخذ على عاتقه الطبيعة البشريّة كلّها باستثناء الخطيئة، لذلك تشمل كلمة «كامل» (τελείος) فكرة أنّ بذل المسيح لنفسه تُكمّل الكثير من تضحيات العهد القديم غير المكتملة. استنادًا إلى المصادر الآبائيّة، يستفيد قانون الفصح بدقّة من آيات سفر الخروج هذه التي تُبيّن في محتواها طباع الحمل الـمُضحّى به. ويذكر كاتب التسبيح أيضًا الهدف الأهمّ وراء بذل المسيح نفسه ألا وهو خلاص جنس البشر (يُوصَف المسيح الذي بذل نفسه بالمخلّص)، وذلك لإبراز الأهمّيّة الخلاصيّة لأحداث التوراة.
تُنبئ أوامر نصوص العهد القديم جميعها وتُظهر موضوع المسيح بما في ذلك مجيئه إلى الأرض وبذله ذاته وقيامته. وكما تُظهره تسابيح الفصح، فتُمثّل قيامة المسيح اقترانًا لجميع نبوءات وأوامر العهد القديم الشرعيّة بعضها ببعض، بالإضافة إلى اقترانها بأحداث الكتاب المقدّس أيضًا. وتاليًا، يمكننا اعتبار أنّ أحكام العهد القديم وأحداثه تمّت وحصلت بهدف تحضير شعب اللَّه المختار بشكل تربويّ لفهم وتلقّي مجيء المسيح إلى الأرض وقيامته وخلاص جنس البشر ونجاته من قبضة الموت واتّحاده باللَّه. يتمّ فهم هذه الحقائق الأساسيّة أو استيعابها بطريقة فضلى عبر ترجمتها بدلاً من الاستماع إلى أحاديث عنها ما يجعل قانون الفصح يشدّد على تفاصيل التضحية بالحمل، الحدث الذي ينبئ بعمل المسيح الخلاصيّ.
الزيارات إلى القبر
وفق نهاية الأناجيل، يذكر أرمس الأودية الخامسة مجيء النساء إلى القبر قبل طلوع الفجر حاملات الطيوب. ترتبط هذه الزيارة بواسطة الأناشيد بعشيّة العيد عند المسيحيّين الذين يأتون لملاقاة القائم من الأموات قبل طلوع الفجر: تدعو الصيغ الليتورجيّة أعضاء المجمع إلى التمثّل بسلوكيّات شخصيّات العهد الجديد تجاه القائم من الأموات. ويمكننا ربط عبارة «فلنتقدّمن حاملين المصابيح» المذكورة في الأودية الخامسة من الطروباريّة الثانية بمثل العذارى العشر (متّى ٢٥: ١- ١٣)؛ فالنفس الحكيمة هي التي تبقى مستيقظة لانتظار القائم من بين الأموات والتعرّف إليه للمشاركة في انتصاره.
تزور النساء القبور «بحكمة إلهيّة»، وهذه العبارة التي لم تأت من الأنجيل تؤكّد نبوءة القيامة قبل أن يشهدها الإنسان. تُقدّم التراتيل البيزنطيّة غالبًا تناقضًا بين الأحاسيس الإنسانيّة، أي هنا خوف النساء اللواتي أتين ليطيّبن جسد المسيح، والسعادة الروحيّة المسبقة التي تمتثل بالأحكام الإلهيّة. تعني عبارة «الحكمة الإلهيّة» أنّ اللَّه يقود الأحداث ملهمًا النساء للذهاب إلى المقبرة بحجّة تطييب الميت، ولكن في الحقيقة قادهنّ إلى هناك ليدركن القيامة وليؤكّد لهنّ شيئًا فشيئًا الخلاص لبني البشر.
قيامة المسيح ووالدة الإله
يتمّ الربط بين ولادة أمّ الإله البتول والقيامة في الأودية السادسة من الطروباريّة ١: وفق (متّى٢٧: ٦٦) يظهر مشهد القيامة عبر الحجر الـمُدحرج عن باب القبر: ودحرج ملاك الربّ الحجر ليُظهر للنساء أنّ القبر فارغ (متّى ٢٨: ٢). وفي هذه الطروباريّة من القانون تقابل أختام القبر غير الملموسة بعذريّة أمّ الإله التي تمّ الحفاظ عليها بعد ولادة السيّد المسيح. خلال البشارة، يُفسَّر السلام الذي ألقاه الملاك على مريم «إفرحي» (لوقا ١: ٢٨) كأنّه يرتبط ببشارة القيامة (الأودية ٩، الأرمس). فالرابط بين البشارة والقيامة هو فرحة الخبر السارّ. ففي نبوءة البشارة في الإنجيل، لا نتكلّم على إلقاء السلام أو على القيامة بل على مُلك ابن اللَّه الأبديّ (لوقا ١: ٣٢- ٣٣). وتظهر في الأرمس التاسع قيامة المسيح بوضوح لأمّ الإله؛ وبذلك تَعتبر تسابيح الفصح القيامة كنتيجة للبشارة.
المشاركة الإفخارستيّة والآخرة
يأتي في الأودية ٨ الطروباريّة ١ ذِكر ثمرة الكرمة الجديد الذي يُتناول في الملكوت (متّى ٢٦: ٢٩)، حيث الفرح الإلهيّ وبهجة يوم القيامة الفريدة والمشاركة في ملكوت المسيح ترتبطان بالمشاركة في سرّ المناولة. فهذه المشاركة هي الوسيلة التي عبرها يمكننا التواصل حقًّا بالقائم من الأموات، أي وفق هذه الطروباريّة، المشاركة في فرح القيامة الأبديّ، ويستفيد الذي يأخذ جسد المسيح ودمه من انتصار المسيح الذي يساعده على تخطّي كلّ محنة.
تقترح التسابيح استباق الآخرة، التي تعتبر أكثر من مجرّد ذكر للملكوت المستقبليّ، لأنّ هذا الملكوت أسّس على الأرض مع قيامة المسيح. فثمرة الكرمة هي الاتّحاد مع اللَّه في الملكوت عبر المشاركة في المناولة. تشير كلمات اللَّه في (متّى ٢٦: ٢٩ ) إلى قيامته وإلى قيامة الإنسان أيضًا («معكم»)، وقيامة الإنسان تحقّقت مسبقًا قبل حدوثها في المناولة.
مصادر آبائيّة لقانون الفصح:
يستخدم قانون الفصح آيات ونبوءات مألوفة من الإنجيل عبر ربط وشرح تمّا سابقًا في عظات الآباء. تَصِف العظات الفصحيّة المتعلّقة بالقدّيس ملاتيوس الأسقف السرديسيّ والأولى من نوعها، لغز الصليب وقيامة المسيح عبر فصح العهد القديم. واستُخرجت عبارات متشابهة بين هذه العظة وتسابيح الفصح وعبر مواضيع أخرى؛ فالأمر لا يتعلّق فقط بالتأثير المباشر بل بوجود المواضيع الغنيّة الصادرة عن القدّيس ملاتيوس الأسقف السرديسيّ، استعادها لاحقًا آخرون أبرزهم القدّيس غريغوريوس النازيانزيّ. وتحمل عظة النزول إلى الجحيم للقدّيس إبيفانيوس القبرصيّ (القرن الثامن) تأثيرًا محتملًا على بعض مقاطع قانون الفصح، وخصوصًا حول موضوع نزول المسيح إلى الجحيم. وتاليًا، في الطروباريّة الأولى من الأودية الخامسة، أسرع مسجونو الجحيم «بخطوات سعيدة» وكانوا مدعوّين الى ملاقاة القائم من بين الأموات كما ورد في العظة. وتدعو الطروباريّة التالية إلى الاحتفال مع الملائكة: ويبقى هذا الموضوع قريبًا من وصف العظة، حيث المسيح نزل إلى الجحيم محاطًا بالملائكة. وأخيرًا، تبقى عبارة الأرمس السادس:«القفل الأزليّ الذي احتجزهم» قريبة جدًّا من وصف الأسرى في الجحيم الذين ينتظرون خلاصهم في العظة.
القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ: يشكّل خطاباه ١ و ٤٥ عن الفصح مصدري إلهام أساسيّين في تسابيح قانون الفصح الذي يستخدم عمدًا مواضيع وعبارات عدّة. الخطاب الأوّل كان سابقًا محور استخدامٍ ليتورجيٍّ في الصلوات السحريّة الفصحيّة البيزنطيّة كقراءات دينيّة، ما يفسّر تأثيره على قانون الفصح. وهو عظة افتتاحيّة ألقاها القدّيس غريغوريوس في نازيانز بعد فترةٍ قصيرة من رسامته كاهنًا في العام ٣٦٢ .
مطلع العظة: يوم القيامة وبدء يبشر بالخير. لنحتفل مبتهجين في هذا العيد... أعطت عبارة «يوم القيامة» لقانون الفصح بداءته: وتاليًا تشير التسابيح إلى المصادر الأساسيّة التي سيستوحي منها بإعلان فقط حدث القيامة. تعالج العظة لاحقًا موضوع مسامحة العدوّ «بواسطة القيامة»، وهو موضوع تكرّر في ترانيم الفصح ولكن لم يذكر في القانون. «أيّها الشعوب، افرحوا وابتهجوا» (الأرمس ١): يفصّل موضوع الفرح في العظة أكثر من القانون. يبدأ المقطع الثالث من العظة بـ«الأمس» وتستكمل بالتوسّع عن فصح العهد القديم بحسب (الخروج ١٢) ؛ في هذا المقطع تُمثّل كلمة «الأمس» حالة الإنسان قبل تجسّد المسيح وتحت نظام تضحية العهد القديم، حيث ذُكر الحمل المذبوح «الأمس». لا يؤثّر هذا المقطع مباشرةً في قانون الفصح، وأمّا بقيّة العظة (المقطع الرابع) فتبدأ بالكلمة عينها ولكن بمعنى مختلف: بالأمس، صُلبتُ مع المسيح واليوم تمجّدتُ معه، بالأمس كنت أموت معه واليوم معه أعود إلى الحياة، بالأمس كنتُ مدفونًا معه، واليوم قمتُ معه من بين الأموات.
تشير كلمة «أمس» هنا إلى حالة صلب وموت الإنسان المسيحيّ القديمة قبل قيامته مع المسيح. يستوحي هذا المقطع من العظة مجموعة أفعال تسبقها كلمة «مع» من مقاطع القدّيس بولس: «جعلنا اللَّه أحياء مع المسيح.... خلّصنا مع.... أقامنا مع..... أجلسنا مع.....» (أفسس ٢: ٤- ٥)؛ أو أيضًا «شركاء في الميراث وفي المعاناة وفي العظمة مع المسيح» (رومية ٦: ٤ و٨: ١٦- ١٧). نجد في العظة هذه الأفعال مستخدمة مع «مع»: وبذلك يمكن أن نصنّفه بـالخلاصيّ حيث إنّ «مع» تمثّل مشاركة الإنسان في عمل المسيح الخلاصيّ.
تقدّم العظة تأكيدًا ثلاثيًّا على موت وقيامة المسيح والمسيحيّين معه. تجتمع ستّة أفعال مختلفة في ثلاث ثنائيّات حيث كلّ أوّل فعل مسبوق بكلمة «الأمس»، وكلّ فعلٍ ثانٍ مسبوق بكلمة «اليوم». تستخدم طروباريّة قانون الفصح اثنين من تلك الثنائيّات مستأنفةً المتوازيات عينها: الأمس - اليوم، القبر - القيامة، الصليب - المجد، وفي كلّ مرّة يتشارك الإنسان مع المسيح مخلّصه.
في الليتورجيا، يشارك المسيحيّ في الأحداث المختفلة وهي أساس خلاصه وهي معرفة دفن المسيح وقيامته. والمؤمن مدعوّ أيضًا إلى الموت في العماد لكي يصل إلى القيامة ويكون ممجّدًا مع المسيح. وهذه الوقائع عبّرت عنها العظة وتسابيح الفصح بواسطة القدّيس بولس. تستكمل الليتورجيا مشاركة الإنسان في عمل المسيح الخلاصيّ. وهي مشاركة الإنسان في القبر وعلى الصليب، أي الاستسلام والموت بالخطيئة اللذين يسمحان للإنسان بالاستفادة أيضًا من وعود المسيح ومعرفة القيامة والمجد الممنوحين له. تطلب هذه المشاركة في نهاية الطروباريّة «عظّمني معك» مع استخدام صيغة الأمر. ويعبّر هذا التفصيل عن عنصر آخر مهمّ من التربية الإلهيّة يمكن بواسطته الوصول إلى الوعود التي ينتظر اللَّه من الإنسان أن يطلبها منه وهذا هو الطلب الذي ينفّذه قانون الفصح.
الخطاب ٤٥: ألقى القدّيس غريغوريوس هذه العظة الطويلة بعد العام ٣٨٣خلال تقاعده الأخير في أزيانز.
يُعيد أرمس الأودية ٥ موضوع العشيّة المظلمة «لنحرص منذ الفجر» (وفق سفر أشعياء ٢٦: ٩)، مشجّعًا المشاركين على السهر للوصول أمام المسيح وتقديم التراتيل عوضًا من الطيوب. هذا التشجيع على الترتيل للَّه وجِدَ أيضًا عند القدّيس غريغوريوس.
يلهم المقطع الأخير بشكلٍ مباشر الطروباريّة الأخيرة من الأودية ٩ من قانون الفصح. يتوجّه الواعظ إلى الفصح كشخصٍ، وتحدّد هويّته كشعار للَّه: أيّها الفصح العيد العظيم والمقدّس، الذي ينقّي العالم أكلّمكَ ككائنٍ حيّ. يا فعل اللَّه، الضوء والحياة، والحكمة والقوّة. أبتهج بكلّ أسمائك. أيّها الفعل الذي نفهمه والإنسان الذي نراه، أنت الذي تجمع وتحمل الكون بالأقوال النابعة من عظمتك. أريد أن تقبل هذا الخطاب لا مثل الأوّلين، ولكن ربّما كنهاية عملنا. تشكّل هذه التعابير المسيحيّة بداءة صلاةٍ احتفاليّة يوجّهها الواعظ لفعل القيامة المسمّى بـ«الفصح» مقرونة بمجموعة صفات.
الخلاصة: قانون الفصح كنمط تعبيرٍ لاهوتيّ
يسهم قانون الفصح بطابعه الشعريّ والصارم بتوليد أجواء العيد بشكلٍ كبير. تعتبر العظات مصدرًا كبيرًا للوحي في تسابيح الفصح وليس فقط الخطاب الأوّل للقدّيس غريغوريوس.. ويستخدم كاتب التسابيح عظات لكتّاب آخرين إذ يستعير عبارات قصيرة بدلًا من مواضيع كبيرة، وتاليًا استطعنا تحديد بعض العبارات من عظات القدّيسَين ملاتيوس وإبيفانوس. بالإضافة إلى ذلك، يستخدم ناظم التسابيح أيضًا الكتابات المقدّسة، فنلاحظ إذًا تفاعلًا متواصلًا بين المواضيع الإنجيليّة والآبائيّة والترنيميّة، وهي العناصر الثلاثة الأساسيّة في تقليد الكنيسة. نجد أيضًا علاقة وثيقة بين الاحتفال بالقيامة كحدثٍ وإعلان نتيجتها الأساسيّة أي الخلاص لبني البشر.
لا تستثني العبارات التي تظهر الفرح والشكر للمسيح والاحتفال بخلاص البشر صياغاتٍ أكثر استطرادًا مثل: سرد الأحداث (المجيء إلى القبر أو ظهور المسيح القائم من بين الأموت) إتمام النبوءات وأحداث العهد القديم في القيامة.
أظهرت هذه المصادر أنّ قانون الفصح يشكّل مثلًا جيّدًا عن استخدامٍ حرّ ونزيه للكتابات المقدّسة ولتقاليد الآباء، وهي العناصر التي تشكّل هيكل التسابيح البيزنطيّة، ويتقنها ناظم التسابيح الذي يستخدمها ويجمعها دائمًا بتناغم للحصول على نصٍّ حيّ.
عناصر أخرى أساسيّة من اللغز المسيحيّ كعبور البحر الأحمر مثلًا وتعني خلاص الجنس البشريّ من قبضة الشرّ، أو زيارة النساء إلى القبر الفارغ، أحداثُ تسمح لكلّ مشارك بإدراك قيامته مع قيامة المسيح.
وبواسطة قانون الفصح، يجد المؤمنون، الذين لا يستطيعون الوصول إلى المصادر الآبائيّة، نفسهم وقد تغذّوا بعناصر عقائديّة أساسيّة، تُعنى بشكلٍ عميق بمصير الجنس البشريّ. يحتفل قانون الفصح أساسًا بقيامة المسيح، وهو الحدث الذي جعل قيامة البشر ممكنة. وتقترح بعض العبارات أيضًا في نهاية القانون على المسيحيّين وسيلة للاستفادة بطريقة فعّالة من عظمة القيامة. وتكمن هذه الوسيلة في المشاركة في الإفخارستيّا المفَسّرة في القانون بالمناولة مع المسيح والمشاركة دائمًا في ملكوته الأبديّ. n