2018

6. إن سكت الحاضر فالتاريخ يتكلّم - شفيق حيدر – العدد الأول سنة 2018

 

إن سكت الحاضر فالتاريخ يتكلّم

شفيق حيدر

 

 

قول التاريخ مدرسة الحاضر والمستقبل، يستدنيه العقلاء ليعلموا منه ويستهدوه لعلّهم يستلهمون النجاحات فيه ويُعرضون عن مقابحه وسقطاته. إلاّ أنّ البعض يكتفون بما يرون ويعتبرون العودة إلى الماضي نوعًا من التقصير والعجز، ناسين أو متناسين أنّ الرجوع إلى الماضي لا يُلغي التـفكيـر الحرّ المبدع، لا بل يُغنيه بتراكم الخبرات بخاصّة وأنّ الحاضر يشبه الماضي كما الماء يشبه الماء.

وها أنا اليوم، ولمناسبة الاحتفالات باليوبيل الفضّيّ لثانويّة سيّدة بكفتين ومهنيّتها، وفيما نذكر للمناسبة مدرسة كفتين الوطنيّة التاريخيّة، أحكي قصّة المدرسة الجديدة التي أعادت إلى تلّة بكفتين عزّ أيّامٍ خلت.

دير سيّدة بكفتين يرد اسمه، في تأريخ النهضة التي عرفها شرقنا العربيّ في القرنين الفائتين التاسع عشر والعشرين، مقرونًا بمدرسة كفتين الوطنيّة. هذا يعيدنا  إلى ظاهرة الدير الخادم عبر تاريخ الكنيسة. قصده طالب العلم  ليدرس على راهب ويتعلّم القراءة وغيرها، وأمّه المرضى ليستشفوا، ونزل فيه الغرباء للنوم والراحة. حملوا جهلهم وآلامهم إلى الدير فاستقبلهم وروى عطشهم إلى المعرفة، وبلسم جراحاتهم. فالأديار مدارس ومستشفياتٍ لأنّها كانت واحات صلاة وتسبيح شعّت محبّة وخدمة.

في السنة 1881 تأسّست مدرسة كفتين الوطنيّة، ولغيري التكلّم على تاريخها ودورها الكبير وقيمتها الفائقة من الناحية الثقافيّة والوطنيّة. لقد ضمّت أساتذة كبارًا في الفلسفة والقانون واللغات والعلوم، وخرّجت العديد من الرجالات الذين أدّوا دورًا رائدًا في الحركة الثقافيّة آنذاك. أغلقـت أبوابهَا الحربُ العالميّةُ الأولى.

ولكن بقي التعليم والاهتمام به رفيقي دير بكفتين. فقد رعت المطرانيّة بواسطة  مداخيل الدير التعليم في الأبرشيّة، التعليم الدينيّ والتعليم العامّ. وكانت «الأخويّة الأرثوذكسيّة» هيئة تساعد مطران الأبرشيّة ومهمّتها إدارة أوقاف دير سيّدة بكفتين.

يذكر السيّد المرحوم رامز نحّاس (الشمّاس أرسانيوس)، في كتابه الصادر في 20 حزيران السنة 1938 «البطريرك طحّان للعبرة والتاريخ»، المرحوم الخوري غفرئيل (فيعاني)(١). كان هذا الكاهن راعيًا للخراف الناطقة بطرابلس وعضوًا عاملاً في «الأخويّة الأرثوذكسيّة». ويذكر مؤلّف الكتاب كيف استدعى المثلّث الرحمة المطران ألكسندروس طحّان (البطريرك) (1869- 1958)، المرحوم الخوري غفرئيل وطلب منه قسرًا أن يستعفي من الأخويّة. أبى الكاهن ذلك. فما كان من المطران إلاّ أن يكيل صفعة للكاهن الأمين، لأنّ مراده أن يتفرّد بالتصرّف بأموال الدير وأرزاقه. وفجّرت هذه الحادثة الخلافات الحادّة في أوساط الجماعة الكنسيّة. وأرى من الفائدة بمكان أن تُنشر الرسالة التي أرسلها الأب غفرئيل إلى المثلّث الرحمة البطريرك غريغوريوس (حدّاد) (1869- 1928) بناء على طلبه، يعرض فيها ما جرى.

وأشهد أنّني عرفت منذ الصبا الأخويّة الأرثوذكسيّة (أخويّة بكفتين) مؤلّفة من السادة المغفور لهم أدمون مسعد (1905 - 1978) وإبراهيم النجّار (1910 - 1979) وتوفيق فارس (1897 - 1965). ساعد هؤلاء المطارنة المتعاقبين بالإشراف على أملاك الدير وإدارتها. وأمّنوا هكذا شراء عقار في شارع لطيفة - طرابلس بنوا عـليــه مدرسـة استأجرتها الدولة وهي اليوم تشغلها ثانويّة المربّي فضل مقدّم (1912 - 1991).

جمعت أخويّة بكفتين الأموال التي درّتها المحاصيل، الزيت والزيتون والليمون الذي أشرفت على غرسه، وزادت عليها إيجارات المدرسة التي استحدثتها. بهذه الأموال المجمّعة تمّ في عهد المطران إلياس (قربان)، بناء الطبقتين السفليّة والأرضيّة من ثانويّة سيّدة بكفتين ومهنيّتها الجديدة. ووضع حجر الأساس للمدرسة الجديدة معالي وزير التربية الأستاذ جان عبيد، ببركة مطران الأبرشيّة في 24 أيّار 1998، وتبرّع ببناء الطبقة الأولى النائب محمّد الصفدي.

ثمّة مزاوجة بين دير سيّدة بكفتين والتعليم ظهرت في التاريخ المعاصر، ومن مظاهرها أيضًا أنّ الدير استقبل المدرسة الرسميّة في رحابه لتأمين العلم لأولاد قرية بكفتين. ومن الذين أداروا هذه المدرسة وعلّموا تلامذتها الأستاذ إسكندر ديب من رأسمسقا. وأنا أذكر أنّني زرت الأستاذ المرحوم ميشال نعمة من كفرعقّا وكان يُعنَى بتعليم مرتادي المدرسة نزيلة الدير في المستويات كافّة والموادّ على اختلافها.

وبمباركة المثلّث الرحمة المطران إلياس (قربان)، انطلقنا في الثمانينات نقولا الخوري وإيلي بندلي وأنا وفكّرنا بمهنيّة بكفتين بالتشاور مع خبراء وعارفين. تناوبنا على العمل من أجل إجازة الترخيص وإعداد الخرائط ودراسة الاختصاصات وبرامجها. وعَهد صاحب السيادة إلى الأستاذ بشارة حبيب بإدارة المدرسة على أن يعاونه مجلسُ عمد يترأسه مطران الأبرشيّة ويضمّ الأرشمندريت الأسقف لاحقًا يوحنّا (بطش) والسيّدات والسادة فوتين عودة نعمة، ظافر نجم، شفيق حيدر، نقولا الخوري، أمل نصر وموسى حيدر. وعقد هذا المجلس اجتماعه الأوّل في 10/1/1991. وتعبيرًا عن الوحدة في الأبرشيّة طلب المطران إلياس (قربان) من المدارس الأرثوذكسـيّة كافّـة تأمـين انطلاقة مهنيّة بكفتين من الناحية المادّيّة. استجابت مدارس الأبرشيّة في الميناء والقبّة وأميون لطلب صاحب السيادة وانطلقت المهنيّة وبدأت راية التعليم ترفرف فوق تلّة بكفتين، في ربوع مدرسة كفتين الوطنيّة، بعدما أغلقت أبوابها في العقد الثاني من القرن العشرين. ولـمّا عرفت المنطقة نموًّا ديموغـرافيًّا، أنشئت ثانويّة سيّدة بكفتين الأرثوذكسيّة من أجل إطلاق التعليم الأكاديميّ أيضًا في المحلّة ذاتها.

عاد التعليم إلى بكفتين على رجاء أن يتطوّر وينمو. خدمة العقل خدمةٌ جليلةٌ تؤمّنها المدارس، هي صلاةٌ بالفعل لأنّها مساحة لقاء الربّ في وجوه الأحبّاء. n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search