من آيا صوفيا الأولى إلى الثانية
ريمون رزق
أمّا »آيا صوفيا الثانية«، فليست كنيسة كييف، إذ لا بدّ من ذكر أنّ كنيسة أُنشئت في تسالونيكي في القرن الثامن اتّخذت هذا الاسم، وكانت قد حلّت مكان كنيسة من القرن الرابع، وكذلك كاتدرائيّة أوخريدا التي أُنشئت في الربع الثاني من القرن الحادي عشر التي يمكن أن تكون قد سبقتها. أضف إلى ذلك أنّ آيا صوفيا كييف ليست أيضًا أوّل كنيسة أُنشئت في كييف، ولا أوّل كنيسة اتّخذت اسم »آيا صوفيا« في بلاد »الروس«. بعد عماد فلاديمير الأوّل السنة 988، أمر ببناء كنيستين خشبيّتين في كييف: كنيسة باسم القدّيس باسيليوس، وهي الأولى التي نعرف عن وجودها في بلاد »الروس«، وكاتدرائيّة باسم آيا صوفيا احترقت السنة 1017. فاستُدعي بنّاؤون يونانيّون لتشييد كنيسة حجريّة، دُشّنت السنة 996 وكانت باسم »رقاد السيّدة«، ودُعيت »كنيسة العشر« نسبة إلى أمر فلاديمير بتخصيص عشرة بالمئة من الضرائب، بغية تشييدها ثمّ صيانتها. ودُفن فيها فلاديمير وزوجته أنّا، شقيقة الأمبراطور البيزنطيّ باسيليوس الثالث، والقدّيسة أولغا، جدّة الأمير فلاديمير ومن بين أوّل المتنصّرين الروس. لكنّ هذه الكنيسة حُرقت ودُمّرت أثناء غزو المغول السنة 1240. بيّن التنقيب الأثريّ أنّها كانت من طراز »الصليب اليوناني المحوّط«، وتحتوي أصلاً على ثلاثة أجنحة وثلاثة صدور نصف دائريّة ومجاز ضيّق. وأُضيف إليها نحو السنة 1039 رواقان من ناحيتيها الجنوبيّة والشماليّة، فأصبحت كنيسة ذات خمسة أجنحة. يُعتقد أنّه كان لها قبب عدّة، وأنّ جدرانها وقببها الداخليّة كانت مزيّنة بالفسيفساء والجداريّات والمرمر حسب الأنماط البيزنطيّة. لم تشيّد هذه الكنيسة بعد تدميرها قبل القسم الأوّل من القرن التاسع عشر، ودمّرتها مجدّدًا السلطات الشيوعيّة السنة 1935.
أمّا كاتدرائيّة آيا صوفيا الحاليّة في كييف، فيوجد اختلاف في تأريخ البدء بتشييدها، إذ تشير الحوليّات الروسيّة القديمة إلى تاريخين هما 1017 في عهد فلاديمير الأوّل، و1037 في عهد ابنه ياروسلاف الحكيم. لكنّ التنقيب الأثريّ الحديث بيّن أنّه بُدئ في بنائها في عهد فلاديمير، واستُكمل البناء في عهد ابنه. ويُستنتج من أقدم »خربشات« موجودة على بعض جدرانها، التي تشير إلى أحداث حصلت في السنوات 1018، 1019، 1022 و1023، وعيد تبريك أساساتها (4 تشرين الثاني 1011) وعيد تكريسها مكتملة (11 أيّار 1018) المذكورين في السنكسارات القديمة، أنّ بدء إنشائها كان في السنة 1011 وأنّه اكتمل في السنة 1018. فتكون إذًا أقدم كنيسة حجريّة بعد كنيسة العِشر أُقيمت في كييف. وزَيّن داخلها بالفسيفساء والجداريّات اللافتة. ومع أنّها شُيّدت بمساعدة بنّائين بيزنطيّين، لم تتأثّر عمارتها بكنيسة آيا صوفيا القسطنطينيّة إلاّ بزينتها الداخليّة. تمثّل مساحة فسيفسائها الباقية (260م.م.) وجداريّاتها (3000 م.م.) وجودتها أفضل ما وصل إلينا من أعمال القرن الحادي عشر الفنّيّة، لا تعادلها سوى زينة كنيسة سفِتيتسِخوفيلي في جاورجيا، على بعد 20كم من العاصمة تبليسي، وفسيفساء كاتدرائيّة آيا صوفيا في أوخريدا، عاصمة مكيدونيا.
المبنى
خضعت كنيسة آيا صوفيا عبر الأجيال إلى عدد من التعديلات أفقدتها هيئتها الأصيلة. لكنّها حافظت على النواة الأساس فيها، ما سمح للباحثين بتشخيص بنائها الأصليّ. كانت ذات خمسة أجنحة وخمسة صدور، أربعة منها نصف دائريّة والصدر الوسطي متعدّد الزوايا، وكان لها ثلاث عشرة قبّة ذات ارتفاعات مختلفة، ما هو غير مألوف في العمارة البيزنطيّة.
لم تُهدم الكنيسة أيّام الموغول، لكنّها نُهبت، وتُركت إلى أن رمّمها المتروبوليت كيرلّس الثاني (مدّة جلوسه 1250-1281) وأعادها إلى الخدمة. بعد »اتّحاد بريست-ليتوفسك« في القرن الخامس عشر، الذي انضمّ بموجبه أساقفة المنطقة الأرثوذكسيّين إلى كنيسة رومة، استعمل »المنضمّون« الكنيسة إلى أن استرجعها المتروبوليت الأرثوذكسيّ المتأثّر بالفكر الغربيّ، بطرس موغيلا، في القسم الأوّل من القرن السابع عشر، وعمل على ترميمها مجدّدًا، مدخلاً عليها أيقونوسطاسًًا خشبيًّا مذهّبًا، بحسب شهادة بولس الحلبيّ الذي رافق أباه البطريرك مكاريوس الأنطاكيّ في زيارته تلك البلاد، منتصف القرن السابع عشر. لكن لم يُكمل موغيلا أعمال الترميم بسبب وفاته السنة 1647. استؤنفت هذه الأعمال لاحقًا بين أواخر القرن السابع عشر ومطلع القرن الثامن عشر، متأثّرة بالأنماط الفنّيّة الغربيّة »الباروكيّة« التي كانت سائدة آنذاك في روسيا، والتي كانت تزدري كلّ مظاهر العمارة والفنّ الروسيّين »القديمين«، أي الأصيلين. منذ ذلك الوقت، اتّخذت الكنيسة مظهرها الحاليّ، الذي يختلف جذريًّا عن مظهرها الأصليّ كما هو مبيّن في الصورتين أعلاه. فاستُبدلت بقبب ذات شكل »إجاصيّ« القبب الدائريّة، ووُضعت فوق الفسيفساء والجداريّات القديمة رسومات زيتيّة ذات طابع غربيّ واضح، كما صار إلى تلييس الجدران الخارجيّة وطليها بالبياض، وإلى طلي القبب بالذهب. ذلك »التشويه« لهذا الصرح الأثريّ، جعل من الضرورة القيام بأعمال تنقيب خلال القرن العشرين، استرجعت ما أمكن من عناصر الكنيسة وزينتها الاصليّة.
نجت الكنيسة من التدمير تحت الحكم الشيوعي بسبب عدد من علماء الآثار والمؤرّخين الأرثوذكسيّين الذين خاطروا بحياتهم للوقوف ضدّ قرار التدمير. فاضطرّت السلطات إلى تحويلها السنة 1934 إلى متحف. في أواخر ثمانينات القرن العشرين، وعدت السلطات بإعادة الكنيسة للخدمة، لكن اصطدمت بتنازع الهيئات الأرثوذكسيّة عليها. فتقرّر أن يستعملها الجميع بالتناوب، لكن عندما قامت مظاهرات صاخبة واشتباكات بين الأرثوذكسيّين لدى جنازة بطريرك »بطريركيّة كييف الأرثوذكسيّة«. وكانت هذه »البطريركيّة« »نصّبت« ذاتها بطريركيّة مستقلّة السنة 1992، مضيفة بذلك فئة جديدة »منشقّة« إلى جانب »كنيسة أوكرانيا الأرثوذكسية المستقلّة« التي نشأت السنة 1920، وهما كنيستان لا تحظيان باعتراف كلّ الكنائس الأرثوذكسيّة، التي لا يعترف معظمها رسميًّا إلاّ »بكنيسة أوكرانيا الأرثوذكسيّة« التابعة لكنيسة موسكو. وهو وضع مخزٍ تعوّدنا، ويا للأسف، أن نشاهده في عدد من الكنائس الأرثوذكسيّة الحاليّة.
لا حاجة هنا إلى الشرح والتعليق. مَن يقابل نتاج القرن الحادي عشر ونتاج القرن الثامن عشر، يشعر بمدى الانحطاط الفنّيّ الذي أصاب الأخير، والذي لم يكن سوى مظهر من الانحطاط العامّ الذي خيّم على الكنيسة الروسيّة، خلال الحقبة التي سمّاها الأب جورج (فلوروفسكي) حقبة »أسر بابل للأرثوذكسيّة«، مشيرًا إلى تغرّب اللاهوت الأرثوذكسيّ عن جذوره الأصيلة.
وقد تزامن بناء كنيسة آيا صوفيا الكييفيّة أو سبقها بقليل تشييد كنائس أخرى في بلاد »الروس« قامت في القرن الحادي عشر، هي كنيسة التجلّي في تشِرنيغوف (1036) التي يُقال عنها إنّها تأثّرت بعمارة كنيسة العِشر، وكنيستين على اسم آيا صوفيا هما كنيسة نوفغورود (1045-1052) وكنيسة بولوتسك (منتصف القرن الحادي عشر)، وكاتدرائيّة الرقاد في دير الكهوف في كييف التي دُمّرت كلّيًّا السنة 1941 على يد البلاشفة، ولم تشيّد كما كانت، بل حسب النمط الباروكيّ الحديث. أمّا عدد الكنائس التي بُنيت في ما بعد في كييف والبلاد الروسيّة كافّة، فإنّه يفوق العدّ. فلنكتفِ بالقول إنّ مئتين من كنائس كييف دمّرها السوفيات، وإنّ قرابة مئتي كنيسة لا تزال قائمة فيها.l