ما يحتاج إليه أطفالنا
بيتر بندلي
اكتشف علماء النفس وعلماء الإنسان منذ سنين، أنّ الأطفال بحاجة إلى محبّة أهلهم ومحبّة المسؤولين عن تربيتهم. أكّدت أبحاث الدماغ الحديثة هذه المعلومات كاشفةً العوامل البيولوجيّة وكيفيّة تأثير محبّة الأهل ومحبّة المربّين في نموّ دماغ الأطفال. هذا بالإضافة إلى أنّ هنالك ترابطًا بين طفولة سعيدة يشعر عبرها الطفل بأنّه محبوبٌ والنموّ النفسيّ السليم الذي يحفظ من الإصابة بالأمراض النفسيّة.
من المؤكّد علميًّا أنّ على الأهل محبّة أولادهم والاعتراف بهم، لكي يتمكّن الأولاد من النموّ الإيجابيّ ومن تطوير مهاراتهم. إن كانت المحبّة والاهتمام العاطفيّ محدودين، فيصبح النموّ محدودًا أيضًا، ما يزيد من إمكانيّة التعرّض للإصابة بمرض نفسيّ.
خبرة الإنسان العاطفيّة الماضية والحاضرة مسؤولة عن الإصابة بالأمراض النفسيّة. فالأولاد الذين يعانون حرمانًا إجتماعيًّا معرّضون لهذه الأمراض أكثر من أولئك الذين يعيشون في بيئة عاطفيّة سليمة. فالربط الاجتماعيّ الإيجابيّ هذا، يخفّف من نسبة الأمراض النفسيّة. الرابط الإيجابيّ عند الإنسان، سواء كان طفلاً أو راشدًا يعزّز وجود الثقة بقيمة الذات. وإدراك قيمة الذات أساس للحفاظ على الصحّة النفسيّة. الإنسان، الذي يعرف أنّ له حقًّا بالوجود وأنّ هذا الحقّ لا يخضع لأيّ تهديد، هو إنسان سليم نفسيًّا. والتهديد لا يعني الوجود المادّيّ الجسديّ، بل فكرة حقّ الإنسان بالوجود أيًّا كان. الصحّة النفسيّة تعطي الإنسان قوّة وحيويّة. فإذا غابت ينخفض الدافع الحياتيّ، كما أنّ الارتباط الاجتماعيّ يصبح محدودًا وقوّة شفاء الذات تنخفض.
الثقة بالنفس والثقة بقيمة الذات
نحن نعيش في مجتمعات تحكمها المظاهر وكأنّ للظاهر قيمة أكبر من الجوهر. وما يحتاج إليه المرء في هذا المجتمع هو الثقة بالنفس. لذلك يسعى العديد من الأهالي والمربّين إلى تنمية هذه الثقة وتقويتها عبر النجاح في المدرسة، والتفوّق في المباريات أو في النشاطات الرياضيّة، ويحرصون على تأمين مستوى وأسلوب حياة معيّن واقتناء الممتلكات. يستعرض الإنسان كلّ هذا ليراه الآخرون وليفتخر بما عنده. هدف التعاطي الاجتماعيّ حينئذٍ يكون عرض المادّيّات وتكريسها لتتمّ تقوية الثقة بالنفس. غير أنّه سرعان ما يظهر، أنّ هذه الثقة بالنفس ليست قويّة ومتطوّرة كما تبدو، لأنّها لا تعتمد على الرأي الشخصيّ الخاصّ إنّما على رأي الآخرين. والأهمّ من ذلك هو عدم وجود ثقة بقيمة الذات.
ما هو الفرق بين الثقة بالنفس والثقة بقيمة الذات؟
الثقة بالنفس هي إدراك المواصفات التي تكوِّن الإنسان، أي مهاراته وأملاكه. والثقة بقيمة الذات هي إدراك قيمته الوجوديّة الشخصيّة. الثقة بالنفس تعبّر عمّا يملكه الإنسان أو ينتجه (جمال، ذكاء، تعليم، مراكز، مواهب، غناء...). أمّا الثقة بقيمة الذات، فهي شعور الإنسان أنّه حسن وهذا فقط بسبب وجوده.
يمكن أن تنمّى الثقة بالنفس عبر التعليم أو التمارين. الثقة بقيمة الذات تنشأ في مرحلة ما قبل عمر السنتين عندما تنمو الثقة الأساسيّة عند الطفل. الثقة بالنفس مسؤولة عن الحضور وطريقة التعاطي مع الآخرين. الثقة بقيمة الذات أساسيّة لبناء العلاقات مع الآخرين ومسؤولة عن نوعيّة هذه العلاقة وعمقها. الفرق بينهما هو الفرق بين من أنت وما لديك. هو التمييز بين ما »نكون« (Etre) وما »نملك« (Avoir).
»ما نملك« هي ميزة الثقة بالنفس. مسؤوليّتها هي تأمين البقاء على قيد الحياة. و»ما نكون« تعبّر عن الثقة بقيمة الذات فتؤمّن الصحّة النفسيّة.
ما هي الثقة بقيمة الذات وكيف تخلق عند الإنسان صورة إيجابيّة عن ذاته؟
الثقة بقيمة الذات تنمو عبر ما نحن عليه وليست مرتبطة بالمهارات، بالإنتاجات أو بالملكيّات. ولا علاقة لها بالأهداف التي يضعها المرء لنفسه، أو التي حقّقها، بل هي مرتبطة بكيان الإنسان بحدّ ذاته. ولها أيضًا علاقة بالموقف الذي يأخذه المرء من نفسه بحسب ما يرى نفسه. الثقة بقيمة الذات تتعلّق بالحقّ الابتدائيّ للوجود وبالقناعة أنّ المرء حسن. ينال الإنسان هذا الشعور بشكل أوّليّ في فترة الحمل. الفرح الذي يغمر المرأة الحامل، بالإضافة إلى فرح الوالد وقبولهم الجنين ووضعهم في محيطهم الاجتماعيّ، كلّها عوامل تساعد على إفراز هرمونات السعادة التي تنقل تلقائيًّا إلى الطفل من والدته في فترة الحمل. النتيجة هي إدراك الطفل غير المولود بعد، حقّه بالوجود. بعد فترة الحمل والولادة يؤكَّد هذا الحقّ ويكرَّس بالوجود بمحبّة الأمّ وقبولها الطفل من غير شرط. الثقة الأساسيّة التي تنمو هنا ليست فقط ثقة بمحبّة الأهل التي لا حدود لها، بل أيضًا ثقة بأنّ للإنسان حقًّا بالوجود لا يمكن نفيه. هذه الثقة الأساسيّة تبقى في فترة النموّ بناءً متزعزعًا وغير مستقرّ، لـذلك يجـب أن تُثبّت وتُعـزّز خلال فترة الطفولة والمراهقة.
يقول الأهل الذين خاب أملهم بجنس مولودهم الجديد، أو بمواهب أطفالهم المرجوّة وغير الموجودة، أو بالنتائج المدرسيّة، أو بالذكاء، أو بالتأقلم الاجتماعيّ، لأطفالهم أنّهم دون المستوى الوسط. ويظهر ذلك إمّا بشكل مباشر عبر ما يقولونه (أنت لا تستطيع أن تعمل هذا، أنت لست مثل...، لو كنت...)، أو بشكل غير مباشر عبر محاولات تصحيح دائمة (لا تقم ما تفعله هكذا...، عليك أن تزيد من...، لا يُسمح لك بأن تقول...، لا تُفكّر في هذه الطريقة...).
هذا يشبه ما يحصل مع الأهل الطموحين الذين يرون في كيان أطفالهم امتدادًا لذاتهم. في هذه الحالة يعتبر نجاح الأولاد كنجاح شخصيّ بهدف تأمين مركز اجتماعيّ يُفتخر به على حساب الأولاد (ولدي يعرف أن يعمل...، ولدي عنده...، ولدي هو...،). والخطر، الذي يرافق هذا الموقف، هو أنّ هؤلاء الأهل ينظرون إلى فشل أبنائهم على أنّه فشلهم الشخصيّ. لذلك يريدون مكافحة الفشل لا مساعدة الطفل، وذلك لإثبات قيمتهم كأهل ناجحين. ما بقيت للطفل قيمة بحدّ ذاته، بل هو فقط وسيلة لتثبيت الذات. الولد يشعر بذلك ويقتنع به. وينتج من هذه القناعة غياب الثقة بالذات الذي سوف يرافق الطفل في حياته كلّها، ويسبّب له في كثير من الأحيان أمراضًا نفسيّة. بالإضافة إلى ذلك فهي يمكن أن تكون مسؤولة عن عوارض عديدة من دون أن يتمكّن المرء من إيجاد العلاقة بين العوارض والأسباب. وهذا ما يدفع بعض المعالجين الى تشخيص وعلاج خاطئين.
لماذا يشعر العديد من الأشخاص بالنقص؟
يحتاج الأولاد إلى أهل يحبّونهم ويعطونهم قيمة لما هم عليه، ولا لما يحقّقون من إنجازات. ليس من المهمّ فقط أن يفتخر الأهل بأولادهم، بل هناك حاجة ماسّّة إلى أن يشعر الأطفال بهذا الافتخار. لكنّ الافتخار الذي يحتاجون إليه هو الافتخار بوجودهم. هذا يتمّ فقط عبر محبّة الأهل وقبولهم الأولاد ولا عبر المدح والمكافأة. عبر المدح واللوم اللذين يركّزان على القدرات، على المواهب وعلى المهارات (أي ما عندهم)، يتعلّم الأولاد أنّ قيمتهم ومعناهم ينحصران فقط في ما ينتجون. إذا تمّ تقدير الأولاد لما هم عليه، يشعرون بأنّهم مهمّون وأنّ قيمتهم بحسب ما عندهم. وإن غاب هذا التقدير لأيّ سببٍ كان فيترك في صميم الولد فراغًا كبيرًا. عندما يشير الوالدان في كلّ الأحيان فقط إلى أخطاء الأولاد، يتكوّن عندهم الشعور السلبيّ ذاته. إذا كانت أحاديث الأهل مع أبنائهم تدور فقط حول الأوامر والطلبات، حينئذٍ يدرك هؤلاء الأولاد أنّ أهلهم غير مهتمّين بهم بحدّ ذاتهم، بل فقط بإنتاجاتهم. وإذا كانت تلك الطلبات صعبة التنفيذ، ينمو الشعور عند الأولاد أنّه ليس بإمكانهم إرضاء أهاليهم. النتيجة هو شعور بفشل دائم من دون إمكانيّة استقرار داخليّ. عدم وجود الاستقرار الداخليّ هو تطوّر قيمة ذات غير إيجابيّة أو سلبيّة. ويستمرّ الأولاد طوال حياتهم الناضجة وهم يبحثون من دون أن يجدوا ما يبحثون عنه. نظرتهم إلى كلّ أعمالهم سوف تتمحور حول التقويم الذي كان يقوم به أهلهم واهتماماتهم تصبح المادّيّات. أي أنّ الامتلاك سوف يصبح أهمّ ما يفكّرون فيه، وما يطمحون إليه ويعملون من أجله.
ولكن بما أنّ الوجود هو الذي يعطي الرجاء والهدوء الداخليّ وليس الملكيّات، لن يشعر هؤلاء أنّ باستطاعتهم الوصول إلى هدفهم. هذا السعي الدؤوب للوصول إلى الهدف هو من الأسباب الأساسيّة لظهور عوارض مرض نفسيّ.
خلاصة
كي يحصل الأطفال على انطلاقة إيجابيّة واستدامة لصحّة نفسيّة جيّدة، على الأهل أن يمنحوهم محبّة حقيقيّة، وأن يقبلوا بهم كما هم ويعترفوا بقيمتهم (لا للقول: »نرى أولادكم في أعلى المراكز«، ولكن نعم للقول: »نرى أولادكم سعيدين ومتقبّلين أنفسهم«). على هذه المشاعر الإيجابيّة أن تتوجّه تجاه كيان الطفل ولا تجاه ظاهره. الأهل الذين يحبّون ولدهم يقبلونه من دون شروط، ويسمحون له بأن يكون كما هو وليس كما يريدونه أن يكون. l