الفقراء في زمن الميلاد
الأب يونس يونس
يكثر في زمن الميلاد الحديث عن مساعدة الفقراء فتزداد في الرعايا النشاطات الهادفة إلى جمع الأموال أو التبرّعات العينيّة أو الهدايا، ويتذكرّ الناس أنّ ثمّة يتامى ومسنّين تجب رعايتهم وزيارتهم والاهتمام بهم. لماذا يكون هذا الأمر موسميًّا؟ لماذا يستفيق في قلوب الناس وعقولهم الإحساس بالمسكين مرّة أو اثنتين (في عيد الفصح) سنويًّا، وينام باقي الأيام؟
قد يكون السبب أنّ الجهد، في غياب المحبّة الحقيقيّة، لا يستمرّ. ربّما. قد يكون أيضًا بسبب عدم إدراكنا للبعد الروحيّ في علاقتنا بالفقير.
موضوع الفقر يرافق أسفار الكتاب المقدس كلها، وهذا يعنـي، ممّا يعنيـه، أنّه قضية عزيزة جدًّا على قلب الربّ. هناك سعي واضح من البدء لمساعدة الفقراء، وربط هذه المساعدة بمشيئة اللَّه. نقرأ في سفر تثنية الاشتراع: »إِنْ كَانَ فِيكَ فَقِيرٌ، أَحَدٌ مِنْ إِخْوَتِكَ فِي أَحَدِ أَبْوَابِكَ فِي أَرْضِكَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، فَلاَ تُقَسِّ قَلْبَكَ، وَلاَ تَقْبِضْ يَدَكَ عَنْ أَخِيكَ الْفَقِيرِ، بَلِ افْتَحْ يَدَكَ لَهُ وَأَقْرِضْهُ مِقْدَارَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. احْتَرِزْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَ قَلْبِكَ كَلاَمٌ لَئِيمٌ قَائِلاً: قَدْ قَرُبَتِ السَّنَةُ السَّابِعَةُ، سَنَةُ الإِبْرَاءِ، وَتَسُوءُ عَيْنُكَ بِأَخِيكَ الْفَقِيرِ وَلاَ تُعْطِيهِ، فَيَصْرُخَ عَلَيْكَ إِلَى الرَّبِّ فَتَكُونُ عَلَيْكَ خَطِيَّةٌ. أَعْطِهِ وَلاَ يَسـُوءْ قَلْبُكَ عِنْـدَمَا تُعْطِـيهِ، لأَنَّهُ بِسَبَبِ هذَا الأَمْرِ يُبَارِكُكَ الرَّبُّ إِلهُكَ فِي كُلِّ أَعْمَالِكَ وَجَمِيعِ مَا تَمْتَدُّ إِلَيْهِ يَدُكَ. لأَنَّهُ لاَ تُفْقَدُ الْفُقَرَاءُ مِنَ الأَرْضِ. لِذلِكَ أَنَا أُوصِيكَ قَـائِلاً: افْتَـحْ يَدَكَ لأَخِيكَ الْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ فِي أَرْضِكَ« (تثنية ١٥: ٧- ١١).
نلاحظ الإشارة الواضحة لصاحب الأرض أنّ هذه الأرض عطيّة من اللَّه. هي لك »أرضك«، ولكنّ المعطي الأوّل هو اللَّه، وإذا قبلت أنت عطية اللَّه، ينبغي أن تتحوّل بدورك إلى معطٍ. وإلاّ تكون قسّيت قلبك وتكون بخيلاً ولئيمًا.
نلاحظ أيضًا الحديث عن »السنة السابعة، سنة الإبراء«، هي سنة ترك الديون، وترك ما هو مرهون بسبب دين ما، سنة ممنوع فيها الربا (الفائدة). منذ البدء هنالك محاولات لتخفيف الأعباء عن الفقراء.
لذلك يعِد اللَّه من يساعد الفقراء بالبركات ويحذّر كثيرًا الظالمين. يعِد بالبركات فيقول: »مَنْ يُعْطِي الْفَقِيرَ لاَ يَحْتَاجُ« (أمثال ٢٨: ٢٧)، كما يحذر من لا يساعد الفقراء: »اَلْمُكْثِرُ مَالَهُ بِالرِّبَا وَالْمُرَابَحَةِ، فَلِمَنْ يَرْحَمُ الفقراء يَجْمَعُهُ« (أمثال ٢٨- ٨). أمّا التحذير الأوضح، فيأتي في إنجيل متى: »وأقول لكم أيضًا إنّ مرور جمل من ثقب الإبرة أيسر من أن يدخل غنيّ ملكوت اللَّه« (متى ١٩: ٢٤).
ولكن، هل يعني هذا الكلام أنّ الفقر أفضل من الغنى؟ بمعنى أنّه إذا كان هنالك إنسان فقير وإنسان غنيّ، فالفقير هو تلقائيًّا أفضل؟ أو أنّ حال الفقير ستكون في اليوم الأخير تلقـائيًّا أفضـل من حال الغنيّ؟
نجد لدى أرمياء النبيّ كلامًا على »مساكين حمقى يجهلون طريق الربّ وحكم إلهنا« (أرميا ٥: ٤). ويذكر أيضًا سفر يشوع ابن سيراخ أنّ »رُبّ انسان بليد فاقد المدد قليل القوة كثير الفقر« (١١: ١٢). لذلك لا يكرّم الإنسان بسبب من فقره أو يهان بسبب من غنـاه، بل بسـبب مـن سلـوكـه وهـو فقـير أو سلوكه وهو غنيّ، فـ»الفقير يكرّم من أجل عمله« (يشوع ابن سيراخ ١٠: ٣٣)، والكتاب يدعو إلى عدم الخوف من عيشة الفقراء لأنّه »سيكون لنا خير كثير اذا اتقينا اللَّه وابتعدنا عن كل خطيئة وفعلنا خيرًا« (طوبيا ٤: ٢٣).
ليست القضيّة إذًا قضية مال أكثر، أو مال أقلّ، القضيّة تكمن في تقوى اللَّه التي تقود إلى محاربة الخطيئة فينا والسعي إلى الطهارة وهذا يقودنا إلى فعل الخير. لذلك »اَلْفَقِيرُ السَّالِكُ بِاسْتِقَامَتِهِ، خَيْرٌ مِنْ مُعْوَجِّ الطُّـرُقِ وَهُـوَ غَنِيٌّ« (أمثــال ٢٨: ٦). للفقـر تجــاربــه وبركاته وللغنى أيضًا تجاربه وبركاته، لذلك يقول سفر الأمثال: »لا تجعل حظّي الفاقة ولا الغنى، بل ارزقني من الطعـام مـا يكفينـي لئـلاّ أشبـع فـأجـحـد وأقـول مَـن الـربّ أو أفتقـر فأسـرق وأتّـخذ اسـم إلهـي بالبـاطل« (أمثال ٣٠: ٨- ٩).
الفقر إذًا هو بالدرجة الأولى افتقار إلى اللَّه، يعني أن يكون اللَّه هو حصنك وملجأك، هو قوّتك. إذا دقّقنا في مثل الغنـيّ ولعـازر، نجـد أنّ يسـوع يعـطي اسمًا للرجل الفقير ولا يعطـي اسمًا للرجـل الغنيّ. وهـذا لـه معنى. في الامثال لا يعـطي يسوع عادة أسماء. هنا يعطي اسم لعازر، أي معيني هـو اللَّه. الغنـيّ لا اسـم لـه لأنـه استغـنى بمـالـه عـن اللَّه. الفقير هو من لا يملك ما يتقوّى به أو ما يعينه سوى اللَّه.
الخطوة الكبيرة، التي خطاها يسوع في العهد الجديد، ليسـت أن يدعـو إلى مسـاعدة الفقراء، بل أن يوحّد نفسه بهم، »الحقّ أقول لكم بما أنّكم فعلتم ذلك بأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فبي فعلتموه« (متّى ٢٥: ٤٠).
لا يمكن أن تستقيم علاقة باللَّه لا تعبر بالفقراء. هـذا مستحـيل. لا يمـكن ان تحـبّ اللَّه مـا لم تحبّ الفقير. لا يمـكـن أن تقيـم علاقـة مع اللَّه لا عبر الصلاة ولا عبر الصوم ولا عبر الإنجيل ما لم تحبّ الفقـراء وتخـدمهـم. لأنّــه لا يمكن أن تحبّ اللَّه الذي لا تراه ما لـم تحـبّ أخـاك الذي تراه، كما يقول يوحنّا الرسول.
لذلك يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم في شرحه رسالة رومية: »إنّ الآب أسلم حتّى ابنه، وأنت لا تعطي حتى قطعة خبز لمن أسلِم وذبِح من أجلك... فأيّة حجارة هي فاقدة الحسّ أكثر من القلوب التي تستقرّ في هذه القسوة الشيطانيّة؟... لم يكفه أنّه قاسى الموت والصليب، بل أراد أن يصير فقيرًا ومسافرًا ومتسوّلاً وعريانًا وملقى في السجن ومقاسيًا الأسقام لكي يؤثّر ذلك فيك على الأقلّ. يقول لك: لا أطلب منك شيئًا ثمينًا بل خبزًا، سقفًا، كلمات معزّية... قاسيت الجوع من أجلك، وأقاسيه أيضًا من أجلك. لقد عطشت حينما علقت على الصليب، وما زلت كذلك بالفقراء...«.
يعطي الذهبيّ الفم بعدًا عباديًّا لمساعدة الفقير وليس بعدًا اجتماعيًّا أو عاطفيًّا، فيقول في الموعظة 82 في إنجيل متّى: »هذا المذبح هو نفسه ذاك... هذا هو تلك العلّيّة حيث كان التلاميذ آنذاك، ثمّ خرجوا إلى جبل الزيتون. فلنخرج نحن أيضًا على أيدي الفقراء لأنّ هذا المكان هو جبل الزيتون، لأنّ جمهرة الفقراء هي أشجار زيتون مغروسة في بيت اللَّه تقطر الزيت المفيد لنا، هذا الذي كانت تحمله العذارى الخمس (العاقلات)«.
إذًا العلاقة بالفقير ليست علاقة تحنّن ومساعدة وشفقة بل لها بعد روحيّ تصبح عبره حوارًا بين المؤمن وربّه. تعبير عن محبّة وشكر للَّه على نعمه، والفقير في هذا الإطار هو خدمة لنا وفرصة لكي تبقى قناديلنا جاهزة حتّى لا يقفل علينا خارج العرس. l