2017

2. 2 - العلاقة بين العهدين القديم والجديد ٢/٣ - المطران سابا (إسبر) – العدد السابع سنة 2017

 

 

العلاقة بين العهدين القديم والجديد

 

 

المطران سابا إسبر

 

 

محور العهدين

المسيح هو المخلّص، الذي تتّجه إليه مسيرة العهد القديم، التي اكتملت في العهد الجديد. فهو ذروة الإعلان الإلهيّ. كان اللَّه يعلن عن ذاته بالرموز والصور سابقًا، إلى أن كشف نفسه كلّيًّا في شخص يسوع المسيح. قد يتساءل أحدهم عن حاجتنا اليوم إلى العهد القديم، فعندنا العهد الجديد ويكفينا. إن كان المسيح نفسه قد اعترف بأنّ العهد القديم كلمة اللَّه، فهل يحقّ لنا نحن المسيحييّن ألاّ نعترف به؟

في بدء رسالة المسيح التبشيريّة، دخل مجمع الناصرة، وقرأ من سفر أشعياء: »روح الربّ عليّ، لأنّه مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني لأنادي للأسرى بالحرّيّة، وللعميان بعودة البصر إليهم، لأحرّر المظلومين، وأعلن الوقت الذي فيه يقبل الربّ شعبه«. وأغلق يسوع الكتاب، وأعاده إلى خادم المجمع، وجلس. وكانت عيون الحاضرين شاخصة إليه. فأخذ يقول لهم: »اليوم تمّت هذه الكلمات التي تلوتها على مسامعكم« ( لوقا 4: 20- 21). وبهذا أراد القول إنّ النبيّ أشعياء سبق وتكلّم عليه، وعناه بهذه الكلمات. معنى قوله هذا هو أنّ هذه النبوءة تتحقّق فيه اليوم. فأيّ كلام أوضح من هذا الذي يخرج من فمّ  المسيح؟

كما أنّ المسيح اعترف بوحي العهد القديم، وبكونه كلمة اللَّه، وذلك بقوله: »لا تظنّوا أنّي جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمّل. فإنّي الحقّ أقول لكم: الى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس، حتّى يكون الكلّ. فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى، وعلّم الناس هكذا، يدعى أصغر في ملكوت السماوات« (متّى5: 17- 20).

شاهد آخر على ما نقول نستمدّه من صلاة سمعان الشيخ (لوقا2: 28-31)، التي فاه بها عندما تسلّم الطفل يسوع، ذي الأربعين يومًا، إبّان دخوله الهيكل. قال: »يا ربّ، تمّمت الآن وعدك لي، فأطلق عبدك بسلام. عيناي رأتا الخلاص، الذي هيّأته للشعوب كلّها؛ نورًا لهداية الأمم، ومجدًا لشعبك المؤمن« (لوقا 2: 29- 32).

أمّا بولس الرسول، فيفتتح رسالته إلى أهل روما هكذا:  »من بولس عبد المسيح يسوع، دعاه اللَّه ليكون رسولاً، واختاره ليعلن بشارته التي سبق أن وعد بها على ألسنة أنبيائه في الكتب المقدّسة« (1: ١- ٤). يعترف بولس بأنّ اللَّه دعاه إلى إعلان بشارة المسيح التي تكلّم عليها أنبياء العهد القديم، ما يعني أنّ المسيح حاضر في أنبياء العهد القديم.

وإذا ما درسنا تاريخ العبادة في القرون الأولى، فنجد أنّ الليتورجيا كانت قائمة على اجتماع المؤمنين لإقامة سرّ الإفخارستيّا الذي يتكوّن قسمه الأوّل، كما هو اليوم، من طلبات متنوّعة، وترانيم، ومن ثمّ قراءات من الكتب المقدّسة، فالعظة خلال المئة سنة الأولى، على الأقلّ، كانت هذه القراءات من كتب العهد القديم. ما يؤكّد أنّ المسيحيّين الأوائل اعتبروا كتاب العهد القديم كتابهم.

لأنّ الموعود به والمنتظر، والذي كنّا، نحن البشر، نتهيّأ له، قد تحقّق، فقد أصبح العهد القديم كتابنا.

مفاهيم مركزيّة مشتركة موجودة في العهدين معًا، ومستمرّة فيهما

يمكننا استعراض عدد كبير جدًّا من المواضيع المركزيّة المشتركة، والموجودة في العهدين، مثل مفهوم العهد واستمراريّته، وطلب الأمانة لهذا العهد، وحدانيّة الله، مطالبة اللَّه للشعب بالعيش وفق مبادئ أخلاقيّة معيّنة، وعدم الاكتفاء بالطقوس الدينيّة، بل ضمّ أعمال الرحمة إليها، نعمة اللَّه التي تخلّص الإنسان، الخلاص الإلهيّ، الملكوت الإلهيّ السماويّ، العبادة، وجوب الاهتمام بالفقراء، اللَّه الديّان....

يقول بعضهم إنّ العهد القديم ما بقي بالمستوى الأخلاقيّ المطلوب، بعد ظهور العهد الجديد. من المؤكّد أنّ العهد الجديد أرقى أخلاقيًّا بما لا يقاس. لكنّ جذر الرقي الأخلاقيّ المسيحيّ، في العهد الجديد، مغروس منذ القديم، ومسيرة اللَّه في القديم هي التي أوصلت إلى هذا المستوى السامي في الجديد. فلنتذكّر، على سبيل المثال، أنّ الوصيّة الأولى والعظمى في العهد الجديد، هي: »أحبب الربّ إلهك من كلّ قلبك، ومن كلّ ذهنك، ومن كلّ قدرتك، والثانية مثلها أحبب قريبك كنفسك«، مأخوذة من سفر تثنية الاشتراع، واعتبرها المسيح الوصيّة الأولى والعظمى في الناموس.

مطالبة اللَّه للمؤمن بالعيش وفق مبادىء أخلاقيّة، مستوحاة من تعليمه، واضحة جدًّا في العهد القديم، وبالتفصيل. لأنّ الشعب كان خشنًا، وقاسيًا، وبليدًا وصلب الرقبة، نرى أنّ الكتاب يشرح له كيفيّة التصرّف في كلّ تفاصيل حياته، لوجوب عيشه وفق أخلاقيّة تتناسب مع إيمانه. كما أنّ هذه الأخلاق كانت تتطوّر وتسمو بالتدرّج، بمقدار ما نقترب من زمن العهد الجديد، إلى أن اكتملت فيه. بدليل أنّ المسيح أعطانا شريعة مكمّلة لها، وأوسع منها. وما عدا وصيّة »أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا قد أحببتكم«، لم يطلب منّا شرائع جديدة بالكلّيّة، بل مكمّلة للقديمة الناقصة: »قيل لكم... أمّا أنا فأقول ...« (متّى، العظة على الجبل)، أي أعطيتكم في الماضي ما يناسبكم، والآن أعطيكم ما هو كامل. لم يعط شرائع تفصيليّة، كما ورد في العهد القديم، بل أعطى روحيّة الشريعة... فليست القضيّة أن نلتزم بأحكام حرفيّة، قد تبطل مع تغيّر أحوال المعيشة وظروفها، بل أن نحيا بحسب مبادىء أخلاقية تتناسب مع إيماننا، وتوافقه.

مثال آخر. في البدء رسم اللَّه، بواسطة موسى النبيّ، طقوسًًا تفصيليّة في العهد القديم، ثمّ، بواسطة الأنبياء، أفهم الناس أنّ الطقوس وحدها لا تكفي، بل يجب أن تترافق مع قلب طاهر وعدالة اجتماعيّة: »كرهت محرقاتكم... لأنّكم ظلمتم الفقير والأرملة واليتيم...« (أشعياء 1). أمّا في العهد الجديد، فقد وصل الأمر إلى أنّ المحبّة الخادمة الأمينة، والقلب النقيّ الطاهر، يجب أن يكونا من ثمار العبادة الصحيحة.

استخدام المسيح والرسل للعهد القديم

استخدم المسيح العهد القديم، وسار الرسل على منواله، وكذلك الكنيسة. كانوا ينطلقون من كشف اللَّه الجليّ، الذي تمّ في العهد الجديد، ويسلّطون ضوءه على نصوص العهد القديم، فيرون المسيح المخبّأ فيها، ويفهمون معناها على ضوء المسيح وما تمّمه.

فهم الرسل والمسيحيّون أنّ حدث يسوع المسيح (تجسّده وحياته وموته وقيامته وصعوده...) هو المفتاح لفهم العهد القديم، وعلى هذا المبدأ تمّ تفسير نصوصه. »فلا يزال ذلك القناع إلى اليوم غير مكشوف عند قراءة العهد القديم، ولا ينزعه إلاّ المسيح« (2كورنثوس ٣: ١٤).

نصّ مهم آخر، هو حادثة  تلميذي عمواس (لوقا 24: 44- 49). كان التلميذان يتباحثان، مهمومين، في ما جرى، وكيف أنّ المسيح مات، ووعدهم بأنّه سيقوم. ما فهما ما حصل ولماذا. انضمّ المسيح القائم إليهما، من دون أن يعرفاه، ودخل في الحديث معهما. وقدّم لهما الجواب التالي: »أما كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام، فيدخل في مجده؟ وشرح لهما ما جاء عنه في جميع الكتب المقدّسة، من موسى إلى سائر الأنبياء« (لوقا ٢٤: ٢٦- ٢٧).

نرى المسيح، في كثير من النصوص الإنجيليّة، يوازي بين الحدث الذي تمّ في العهد القديم وبينه. قال إنّ صورة ارتفاعه على الصليب توازيها صورة الحيّة التي خلّصتهم من اللدغات. »وكما رفع موسى الحيّة في البرّيّة، فكذلك يجب أن يرفع ابن الإنسان« (يوحنّا 3: 14). وعندما كثّر الخبزات للجموع، كما جاء في إنجيل يوحنّا (6: 30- 32)، ذكّرهم بالمنّ الذي أعطي لآبائهم في العهد القديم، وقال لهم: »آباؤكم أكلوا المنّ في البرّيّة وماتوا،... فأجابهم يسوع: الحقّ الحقّ أقول لكم: ما أعطاكم موسى الخبز من السماء، أبي وحده يعطيكم الخبز الحقيقيّ من السماء«. فهو يعلّمنا كيف ينبغي لنا أن نقرأ العهد القديم على ضوئه: نأخذ المسيح، ونضيء به على نصوص العهد القديم، حتّى نفهمها، على حقيقتها. هذه هي القراءة المسيحيّة، وقد استلمناها من المسيح مباشرة.

الرسل

ثبتت لدى الرسل صحّة تاريخ العهد القديم وصحّة الأحداث والقصص الواردة فيه، فاستعملوها في كرازتهم وعبادتهم.

وعظ بطرس الرسول الشعب اليهوديّ، في سفر أعمال الرسل، فقال: »فأتمّ اللَّه ما أوحى إلى جميع أنبيائه، وهو أنّ مسيحه سيتألّم. فتوبوا وارجعوا تغفر خطاياكم... يجب أن يبقى في السماء الى أن يحين زمن تجديد كلّ شيء، مثلما أعلن اللَّه من قديم الزمان بلسان أنبيائه الأطهار...« (أعمال 3: 17- 26).

كما نجد كيف فسر فيليبّس الرسول لوزير ملكة الحبشة ما كان يقرأه ولا يفهمه من الآيات التالية في سفر أشعياء: »كنعجة سيق للذبح، كحمل صامت بين يدي من يجزّه هكذا لا يفتح فمه. أذلوه وسلبوا حقّه. حياته زالت عن الأرض، فمن يخبر عن ذرّيّته؟«. قال له فيليبّس إنّ النبيّ يتكلّم هنا على المسيح (أعمال ٨: ٢٦- ٣٦).

يرى بولس الرسول في عبور البحر الأحمر ما يقابل المعموديّة المسيحيّة، وفي المنّ ومياه حوريب صورة مسبقة عن الإفخارستيّا، ويماثل الصخرة، التي أخرج موسى النبيّ الماء منها عندما ضربها بالعصا، بناء على أمر اللَّه، بالمسيح: »إنّ آباءنا كانوا كلّهم تحت حماية الغمام، وكلّهم عبروا البحر الأحمر، وكلّهم تعمّدوا لموسى في الغمام وفي البحر، وكلّهم أكلوا طعامًا روحيًّا واحدًا، وكلّهم كانوا يشربون شرابًا روحيًّا واحدًا، من صخرة روحيّة ترافقهم، (لم يكن هناك صخرة ترافقهم بل موسى كان من يرافقهم) وهذه الصخرة هي المسيح« (1كورنثوس 10: 1- 4).

بولس الرسول في رسالته الى أهل غلاطية أوّل من أوجد تسمية العهد القديم، إذ كانت سابقًا تسمّى الكتب المقدّسة. وفي مكان آخر يسمّي المسيح المذبوح »فصحنا«: »فتطهّروا من الخميرة القديمة لتصيروا عجينًا جديدًا لأنّكم فطير لا خمير فيه، فحمل فصحنا ذبح، وهو المسيح. فلنعيّد إذًا، لا بالخميرة القديمة ولا بخميرة الشرّ والفساد، بل بفطيرة النقاوة والحقّ« (1كورنثوس5: 7). فهو يوازي بين المسيح والحمل.

كلّ ما ورد هي صور مسبقة ليسوع المسيح بالإضافة إلى استشهادات أخرى »جاء بالنبيّ القائل: وأنت يا بيت لحم لست الصغرى...، العذراء تحبل وتلد ابنًا...، على لباسي اقترعوا...«.

كذلك لدينا ألقاب المسيح: المسيح، ابن داود، ابن اللَّه، ابن الإنسان، العبد المتألّم، النبيّ،... وهناك عبارات ترد في العهد الجديد: الكرمة، صهيون، الماء، الروح...

واستشهادات متّى الإنجيليّ بخصوص سيرة الربّ يسوع، ولوقا الإنجيليّ بخصوص مولد المعمدان، ونشيد زكريّا أبيه »كما وعد من قديم الزمان بلسان أنبيائه القدّيسين« (١: ٧٠) والدخول إلى الهيكل، ويوحنّا الإنجيليّ بخصوص ربط آيات المسيح بما فعله اللَّه في العهد القديم »تكثير الخبزات والمنّ« »آباؤنا أكلوا المنّ في البرّيّة وماتوا، لكن من أكل هذا الخبز النازل من السماء لا يموت. أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء. من أكل هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أعطيه هو جسدي، أبذله من أجل حياة العالم« (يوحنّا ٦: ٤٩- ٥١).

استخدم المسيح العهد القديم، وأظهر كيف أنّه يتكلّم عليه، وقد اتّبع الرسل أيضًا هذه الطريقة، والكنيسة تقرأ العهد القديم بهذه الطريقة، حتّى اليوم. هذه هي القراءة المسيحيّة للعهد القديم، الذي صار كتاب المسيحيّين. فعندما نتبنّى هذا الكتاب يحقّ لنا تفسيره وفق رؤيتنا.

التفسير المسيحي للعهد القديم: كيف فسّر كتبة العهد الجديد العهد القديم؟

أعاد كتبة العهد الجديد قراءة العهد القديم على ضوء حياة يسوع المسيح وتعاليمه وقيامته.

يقوم التفسير المسيحيّ على ما نسميه التفسير الأنموذجيّ prototype وهو تفسير ينطلق من أمر موجود في العهد القديم، لكنّه تحقّق واكتمل في العهد الجديد، فأصبح رمزًا أو صورة مسبقة عن الحقيقيّ. كتب الإنجيليّون الأناجيل الأربعة على ضوء هذا التفسير.

يؤكّد التفسير الأنموذجيّ الاستمراريّة بين العهدين القديم والجديد، وأنّ موقف المسيح وكتبة العهد الجديد من العهد القديم لم يكن موقفًا تمرّديًّا ورافضًا، بل تكميليّ، منسجم معه ومع انكشاف التدرجيّ فيه.

يسوع المسيح هو الأعظم بالنسبة إلى كلّ ما ورد في الكتاب، بخاصّة، العهد القديم، وتكرّر بشكل أكمل في العهد الجديد (متّى ١٥: ١٤، ٤٢، ٤١، ٦. مرقس ٦: ٣٥).

كان يسوع حاضرًا في العهد القديم من دون تجسّد، وظهر فيه بأشكال وهيئات مختلفة. آدم الأول والأخير »فالكتاب يقول: »كان آدم الإنسان الأوّل نفسًا حيّة، وكان آدم الثاني روحًا يحيي. فما كان الروحانيّ أوّلاً، بل البشريّ، وكان الروحانيّ بعده« (1كورنثوس ١٥: ٤٥).

يبدأ طريق تاريخ الخلاص من الخليقة الساقطة، بآدم الأوّل، إلى الشركة مع اللَّه، بآدم الثاني، الذي وجد في كلّ مراحل تاريخ الخلاص.

الشريعة الجديدة

لنبدأ بإنجيل متّى، حتّى نفهم مدى ارتباط القديم بالجديد واكتماله فيه. فمتّى الإنجيليّ، لأنّه توجّه إلى اليهود ليبرهن لهم أنّ المسيح الذي يبشّر به هو الماسيّا المنتظر، كثيرًا ما يستخدم مقاطع مباشرة أو غير مباشرة من العهد القديم. ففي الموعظة على الجبل نجد موازاة بين الشريعتين القديمة والجديدة. يجعل متّى الإنجيليّ المسيح موسى الجديد،الذي يعطي الشريعة الكاملة. فاللَّه أعطى موسى الشريعة على جبل سيناء، والمسيح يعطي شريعته الجديدة من على الجبل. جاء الكلام في شريعة  موسى على لسان اللَّه بصيغة المتكلّم المفرد »أنا الربّ إلهك.. لا يكن لك آلهة غيري...«، والمسيح يعطي شريعته الجديدة بصيغة المتكلّم المفرد: »قيل لكم ..أمّا أنا فأقول«. (تستعمل عبارة »قيل« لأنّ الأدب العبرانيّ لا يذكر كلمة اللَّه احترامًا، بل يدلّ عليه باستعمال صيغة الفعل المبنيّ للمجهول، ما يعني أنّ الفاعل هو اللَّه). إذًا فهو يقرأ العهد القديم على ضوء المسيح.

حادثة المنّ وتكثير الخبز في يوحنّا

في حادثة تكثير الأرغفة الخمسة والسمكتين في إنجيل يوحنّا (الإصحاح 6)، يقيم المسيح بنفسه مقابلة بين المنّ والخبزات. عندما سأله الشعب آية وقالوا »آباؤنا أكلوا المنّ في البرّيّة، كما جاء في الكتاب: أعطاهم خبزًا ]المنّ[ من السماء ليأكلوا« فأجابهم قائلاً: »الحقّ الحقّ أقول لكم: ما أعطاكم موسى الخبز من السماء. أبي وحده يعطيكم الخبز الحقيقيّ من السماء. لأنّ خبز اللَّه هو الذي ينزل من السماء ويعطي العالم الحياة. أنا خبز الحياة من جاء إليّ لا يجوع...« (يوحنّا ٦: ٣٠- ٣٥).

ولن نتكلّم على استعماله كلمة »أنا هو«، التي تعني، باللغة الأصليّة، الكلمة التي عرّف اللَّه بها عن نفسه لموسى، عندما خاطبه من العلّيقى المشتعلة قائلاً: »أنا الكائن، أو أنا الذي أكون«، ولذلك »أخذ اليهود حجارة ليرجموه«، فقد عرفوا أنّه يجعل نفسه مساويًا للَّه.

»من مصر دعوت ابني«

يستشهد متّى الإنجيليّ، في معرض حديثه عن ذهاب يسوع والعذراء والقدّيس يوسف النجّار الى مصر، بالآية الواردة في سفر هوشع النبيّ: »من مصر دعوت ابني« (هوشع2: 13- 15).  لا تشير هذه الآية، كما وردت في سفر هوشع النبيّ، إلى المسيح بشكل مباشر. فقد ورد في سفر هوشع النبيّ (11: 1- 4): »من مصر دعوت ابني. كلّ ما دعوهم ذهبوا من أمامهم يذبحون للبعليم، ويبخّرون للتماثيل المنحوتة. وأنا درّجت أفرايم ممسكًا إيّاهم بأذرعهم، فلم يعرفوا أنّي شفيتهم. كنت أجذبهم بحبال البشر، بربط المحبّة، وكنت لهم كمن يرفع النير عن أعناقهم، ومددت إليه مطعمًا إيّاه«. يتكلّم هوشع النبيّ على الشعب اليهوديّ عندما أخرجه اللَّه من مصر. قرأ متّى الإنجيليّ هذا النصّ على ضوء المسيح، فرأى المسيح، بدل الشعب، صورة  الغلام المحبوب من اللَّه، والذي أراد، به، أن يعرّف نفسه لكلّ البشر. فربط بين نزول الشعب العبرانيّ إلى مصر وخروجه منها، وبين نزول المسيح إليها وعودته منها، مستخدمًا الآية المذكورة.

يطبّق بولس مفهومي الخروج (العبودية والتحرّر) على أنّهما نتيجة عمل المسيح على الصليب. فيستخدم ما ورد في سفري الخروج (17) والعدد (20) من أحداث ليقول إنّ المسيح كان فيها جميعها. يقول في رسالته إلى كورنثوس: »فإنّي لست أريد أيّها الإخوة أن تجهلوا أنّ آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة، وجميعهم اجتازوا في البحر؟ وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر، وجميعهم أكلوا طعامًا واحدًا روحيًّا، وجميعهم شربوا شرابًا واحدًا روحيًّا، لأنّهم كانوا يشربون من صخرة روحيّة تابعتهم، والصخرة كانت المسيح« (1كورنثوس 10: 1- 4). ويشدّد في الرسالة الى روما على أنّ »اللَّه برّرهم (حرّرهم) مجّانًا بنعمته بالمسيح يسوع الذي افتداهم« (رومية3: 24).

بالطريقة ذاتها يعتبر بطرس الرسول أنّ شعب اللَّه هو صورة الكنيسة في العهد القديم، ويستخدم صفات شعب اللَّه الواردة في العهد القديم، ليصف شعب اللَّه الجديد، الكنيسة، بها. فيقول: »أمّا أنتم فنسل مختار وكهنوت ملوكيّ وأمّة مقدّسة وشعب اقتناه اللَّه لإعلان فضائله، وهو الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب. وما كنتم شعبًا من قبل، وأمّا اليوم فأنتم شعب اللَّه. كنتم لا تنالون رحمة اللَّه، وأمّا الآن فنلتموها« (1بطرس 2: 9- 10).

كما أنّ يوحنّا الإنجيليّ، في سفر الرؤيا، يطبّق تعداد الأسباط، في حدث الخروج، على الكنيسة (رؤيا 7: 4-7).

في المثلين أعلاه، نجد أنّ كلاً من متّى الإنجيليّ وبولس الرسول اعتمدا على عدم التركيز، على مضمون الآية المقتبسة من العهد القديم، بمقدار التركيز على السياق الذي ترد فيه هذه الآية. وما الآية سوى مؤشّر لسياق كامل من العهد القديم، تمّ اختيارها في ضوء معرفة البشير متّى والرسول بولس لعمل يسوع المسيح الخلاصيّ، ولمركزيّة المسيح في كتب العهد القديم. l يتبع.

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search