إلى أخ مزدر
الأب إيليّا (متري)
أخي، لن أردّ، بلغتك، على ازدرائك الذي أردته أن يصل إليَّ في سياق منتفخ، بل سأجيبك، أخًا، بما أحسب أنّه ينفعني وإيّاك، وربّما آخرين غيرنا، إن ذكرنا أنّنا نحيا في المسيح يسوع وله وحده.
أوّلاً، كلّنا مسؤولون عن أن نذكر أن ليس لنا شيء في الأرض. هذه لا أتفاخر إن قلت إنّها قناعة أحاول أن أتصالح معها. شيء صعب، فعلاً، أن تحسب أنّ ما هو لك ليس لك. ولكنّ هذه المصالحة ممكنة بالنسك، أي بالتمرين، أو بنعمة الوعي أنّنا ذاهبون، وفق ما قالت جَدّة أعرفها، و»لن نأخذ شيئًا معنا«.
ثانيًا، إن كانت كلمات الرسول »حاشا لي أن أفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح« (غلاطية 6: 14) عبارة تُقرأ في كتاب، أو تدرَّس في معهد للاهوت، ويأبى بعضنا، قارئين أو لاهوتيّين، أن تغدو، هي هي، حياتنا، فمصيرنا معلوم. مصيرنا أوّل مكبّ للنفايات معدّ للحرق. هذا، أيًّا كنّا، موئلٌ ينتظرنا. فالإنسان منّا إمّا يقتنع بأنّ موطنه صليب المسيح عينه، أي وحده، أو رائحته النتنة تدلّ على أصله ومصيره.
ثالثًا، الفكر، فكرنا، في مسيحيّة عمرها ألفا سنة، معظمه ترداد أو تفسير. لا أبتكر جديدًا إن ذكرت أنّ الإبداع ليس شأننا جميعنا، أو هذه قناعتي عن نفسي. أنا أدرك أنّني مردِّد. وما أردّده، أخذته، حرفًا حرفًا، من فتاتٍ تساقط من مائدة كنيستي. أي إنّني مقتنع، قناعةً كلّيّة، بأنّني أخدم المعلوم. وهذا، بصدق، يفرحني. يفرحني أن أعلم أنّ ثمّة خالقًا، أعبده بكلّ ما ينبض فيَّ، أحيا من عطاءِ كَرَمه. هذا لا يعني أنّني لا أحاول أن أسعى إلى تثمير العطيّة. أحاول. وفيما أحاول، أسلّم بمشيئة اللَّه وحكمته.
رابعًا، من صميم الفكر، يحتاج معظم أعضاء الجماعة الكنسيّة إلى أن يذكروا أنّ لهم وجوهًا. وهذه خلقت، لتتواجه، وتتكالم، وتفرح بعضها ببعض، وتسهم في إصلاح بعضها بعضًا. الكلام من بعيد، أو الكلام في الخفاء، إن كانت المواجهة ممكنة جغرافيًّا أو بشريًّا، إنكار للوجه، أو تجاوز لما قاله العهد الجديد عن الإصلاح الأخويّ. لِمَ أصرّ على تكرار ذكر الإصلاح هنا؟ أذكره إيمانًا منّي بأنّنا أعضاء في كنيسة اللَّه الذي يريدنا أفضل دائمًا. لا يليق بنا أن نحيا كما لو أنّنا في ساحة حرب، نرشق سهامنا من بعيد، أو نحوك مؤامراتٍ في الظلمة. هذا أرذل انفصال عن عضويّة الكنيسة. أعتقد أنّ ثمّة عباراتٍ نستعملها عادت تحتاج إلى إيضاح. مثلاً، انفصال عن عضويّة الكنيسة، أعني بها انفصالاً عن جماعة الإخوة. قليلون يفهمون أنّ الكنيسة هي أنت وأنا ونحن جميعنا. كيف نستعيد أنّ الكنيسة بشر يجمعهم مسيح اللَّه؟
تعقيبًا على هذه النقطة الرابعة، لم أقصد أنّنا جماعة لا نسمع بعضنا بعضًا، أي لا نعطي وجوهنا إطلاقًا. بلى، إنّنا نعطيها، إنّما لبعض. مثلاً، نعطيها لوجوه تشبهنا، أو نعطيها لوجوه نراها أرفع شأنًا منّا. فعن هذا العطاء الثاني، نحن، جماعةً، نكاد لا نسمع لسوى مَن نعتبرهم (نحن) ذوي اعتبار. والكنيسة، أي الكنيسة التي تؤمن فعلاً بأنّ الروح القدس »يهبّ حيث يشاء«، لا تطفئ الروح في حصر هبوبه. هذا يعني أنّ الروح قد تأتينا بلاغتُهُ من أناسٍ قيمتُهم محجوبة عنّا! إن كان هو الربّ، فهو حرّ من كلّ اعتباراتنا، ويمكن أن يهدم اعتباراتنا، ويبني أخرى. أمر من عمق تقليـدنا أن نعتقد أنّ ثمّة اعتبارًا ممكنًا دائمًا في أماكن لا تدلّ، برأينا، على أنّها من الممكن أن تنبت اعتبارات. كلّ مرّة أقرأ فيها إنجيل »الابن الشاطر«، أسأل نفسي: كيف تنبت الأفكار الصالحة في مزرعة خنازير؟! هذا جدير بأن يستوقفنا.
خامسًا، ثمّة حرّيّة لأيّ إنسان في أن يخطئ. ولكن، ليس من تراثنا أن يداوى الخطأ بالخطأ. إن أردت أن تسهم في إصلاح إنسان، عليك أن تعرف خطاياه الحقيقيّة قبلاً. إن أبيتَهُ لمجرّد أنّه لا يعجبك أو لا يعجب بعض أصدقائك، فأنت معرّض لأن تؤلّف له خطايا، أو تكون قد فعلت. وهذا لا يمكن أن ينفعه، بل ربّما يؤذيه. هذا ليس فيه محبّة. هذا تلوين وانفعال. هذا خطأ. ولا بأس إن أعدت: الخطأ لا يداوي ما تراه خطأ. ما أقوله، معناه أنّه لا يحقّ لأحد أن يرسل أيّ كلمة، يحسبها نافعة، إن لم يقرِّر قبلاً أنّه أخ.
سادسًًا، أعلى ما في الحياة الكنسيّة أن نأتي من إلهٍ تنازل إلينا. هذا يفترض أن نرى أنفسنا شركاء في كلّ شيء. إن أخطأتُ برأيك أو أخطأتُ فعلاً، فأنت لا تكون أخي إن لم تُرني أنّك معي، أخي، شريكي. اعلم أنّ هذا يسهّل اعترافي، واكتسابي جدّةً ربّما أفقدني إيّاها، قبل ارتكابي الخطأ، شعوري بأنّني وحيد! أمّا إن تعسّفتُ وأصررتُ على تعسّفي، فأرحّب بأن تفعل بي ما تشاء. إن شئت، ضع جمرًا على رأسي!
أخيرًا، لا تنسَ أنّك إن ازدريت أحدًا، فقد تُزدرى أنت في يوم قريب. ضع أمامك دائمًا أنّك من الممكن أن تُزدرى قبل أن تشرِّح أحدًا في غيابه، لا سيّما إن كنتَ على خطأ. كنت أريد أن أقول لك: قبل أن تفعل، خف من اللَّه، وتب إليه! فالخطيئة، التي نرتكبها سرًّا أو علنًا، ليست هي تجاوزًا أخلاقيًّا، بل لاهوتيّ. هذا يعني أنّها أن نرتكب الشرّ فيما نحسب أنّ اللَّه لا يرى، ولا يسمع، أي أنّه غائب، بعيد، غير موجود. أجل، فالخطيئة محوٌ للَّه الذي سيمحونا من سجلّ الحياة، إن أصررنا على أيّ شرّ نفعله!
عندما وصل إليَّ ازدراؤك، لم أكن أعرفك عن قرب. الآن، عرفتك. أحزنني أنّك، أخًا، لم تتعلّم أنّ طريق الأخوّة هو واحد: أن تحبّ من دون تمييز، أو أن تطيع الكلمة التي دعـوتنا أن نبقيـها أمـامنـا، الكلمـة التـي تحـثّنا، دائـمًا، عـلى أن نحسـب الآخـرين، الآخـرين جميـعًا، أفضـل منّا (فيلبّي 2: 3).l