لسان من نار ونور
حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في يوبيلها الماسيّ
لولو صيبعة
سبعة عقود ونيّف مضت، أعوام تراكضت وحركيّون جاؤوا ورحلوا، أعوام تكلّلت بأكاليل المعرفة والخدمة والمحبّة. وحتّى نكمل الطريق بأمانة للعهد الذي قطعناه، أشبعنا يا ربّ من رحمتك فنبتهج ونفرح، وعمل أيدينا ثبّت علينا.
العاشر من حزيران 2017 لم يكن يومًا عابرًا في تاريخ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. إنّه يوم الذكرى، يوم افتقد الربّ كنيسته في أنطاكية وسكب روحه عليها فكانت عنصرة ثانية، يوم قال لأنطاكية هوذا على كفّي نقشتك، وجعلت كلامي في فمك، قد وكّلتك اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلعي وتهدمي وتهلكي وتنقضي وتبني وتغرسي. يوم رفعها من سباتها، يوم أقام عليها تلاميذ وشهودًا، يوم حرّرها من الجهل، يوم انتصر النور على الظلام، يوم يلتقي فيه الحركيّون ليجدّدوا الوفاء لمن هو صخرة خلاصهم، ويقولوا بصوت واحد اللَّه لنا ملجأ وقوّة، عون لنا في الضيقات، لذلك لا نخشى ولو تزحزحت الأرض ولو انقلبت الجبال. نحمدك يا ربّ ونرنّم لك ونسجد في هيكل قدسك، فلا تهملنا واستجب لنا بعدلك.
كما في كلّ عام يجتمع الحركيّون ليحتفلوا بما منّ عليهم الربّ من نعمة يوم تأسّّست بأمر منه حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في 16 آذار 1942 على يد شباب آمنوا بكنيستهم وأخلصوا لها الودّ. يوم السبت الواقع فيه العاشر من حزيران 2017 تحلّق الحركيّون حول غبطة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق يوحنّا العاشر الذي رعى هذه المناسبة. فكانت صلاة غروب في كنيسة دير سيّدة البلمند البطريركيّ، حضرها السادة المطارنة دامسكينوس (منصور، البرازيل)، إغناطيوس (الحوشي، فرنسا)، غطّاس (هزيم، الكويت)، أنطونيوس (الصوري، زحلة)، الوكيل البطريركيّ الأسقف أفرام (المعلولي)، الأسقف نيقولا (أوزون) من أميركا، رئيس دير سيّدة البلمند البطريركيّ الأرشمندريت رومانوس (الحنّاة)، رئيس معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ الأب بورفيريوس (جورجي) ولفيف من الكهنة والشمامسة من الأبرشيّات اللبنانيّة والسوريّة. وحضر أيضًا أمين عامّ مجلس كنائس الشرق الأوسط الأب ميشال (جلخ)، والنائب نضال طعمة، ومدير ثانويّة سيّدة البلمند عطيّة موسى، والأمناء العامّون السابقون ورؤساء المراكز الحركيّة، وممثّلو الهيئات والمؤسّّسات الأرثوذكسيّة والمجالس الرعائيّة ورؤساء بلديّات وقضاة.
بعد صلاة الغروب انتقل الحضور إلى ملعب ثانويّة سيّدة البلمند حيث أقيمت منصّة خاصّة بالمناسبة غصّت بحضور نحو تسع مئة شخص. قدّمت الحفل الأخت باتي حدّاد بكلمة نابعة من القلب قالت فيها: »منذ خمسة وسبعين عامًا، شهدت كنيسة أنطاكية انحناءة حبّ إلهيّ لامست قلوب بضعة شبّان، فألهبتهم عشقًا. استعرّت أفئدتهم، لا بنار، بل بنور وندًى؛ نور لا يمكن حجبه، فولدت، به وله وفيه، »حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة«، نورًا من نور. قبلة هذه الحركة لم تكن، يومًا، إلاّ وجه معشوق واحد أدماه إكليل شوك، على الصليب، فقهر الموت وصار غالبًا. جلّ ما قام به مؤسّّسو »حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة« أنّهم »آمنوا ولذلك تكلّموا«. خمسة وسبعون عامًا سعت فيها حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، على مدى الكرسيّ الأنطاكيّ، إلى أن تختبر حياة الجماعة المسيحيّة الأولى، ضمن فرق ما هي إلاّ مختبرات حبّ ومطارح لقيا، سعت فيها إلى نشر الوعي حول التزام الهمّ الكنسيّ رعائيًّا واجتماعيًّا، كما دأبت على مشروع اعتبرته هاجسًا أساسيًّا لها، ألا وهو التلمذة، فراحت تواكب الأعضاء في تفاصيل حياتهم، عساهم، بهذا، يتلمّسون بنوّتهم للمعلّم الواحد، فيصبحوا، بدورهم، تلامذةً له وحده، متّخذين الإيمان ترسًًا وممتشقين الكلمة سيفًا، واعين مسؤوليّتهم في حمل بشرى الخلاص لكنيسة اللَّه التي اقتناها بدمه (أعمال20: 28)«.
المحطّة الأولى، في تلك الليلة المباركة، زيّنتها أصوات شجيّة ارتفعت من حناجر صدحت من شبيبة المراكز اللبنانيّة. تلتها أناشيد أدّتها كورال من حديقة مركز دمشق. ثمّ عُرض شريط وثائقيّ عن حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة بعنوان »ومضات حركة الروح« أخرجه فايز أبو خاطر.
الكلمة الأولى كانت للأمين العامّ المهندس فادي نصر الذي شكر اللَّه أوّلاً ثم غبطة البطريرك لرعايته هذا الحفل. ثمّ قال: »نحن اليوم لا نحتفل بذكرى تأسيس حركتنا، بل بذكرى ولادة كلّ منّا في معمودية مُمتدّة مستمرّة بالمسيح. هو عيدنا لأن بهذا الحدث كُشف طريق خلاصنا. به استحالت حروف الإنجيل قصيدة إيمانٍ وحياة. به صارت الطقوس لغة وصلنا باللَّه، وصارت الصلاة نبضة قلبٍ تُسمَع في السماء. به صارَت قاعات الكنائس منازلَ، وصار مرحُ الشباب خدمةً. به كُسرت الأنـا، وصار الشخص خميرَ الجماعة، والجماعة صارت أمّ الأشخاص. قد يكفي هذا لأختصر، بكلمات، بأيُّ حدثٍ نحتفل اليوم، ولماذا به نحتفل. أمّا متى يُكمَّل احتفالنا ويستقيم، فهذا ليس مِلكَ لحظة ويوم. هو مِلكُ الأيّام والعقود الآتية. تاريخُنا ماسيّ إن امتدت ماسيّته فينا وفي الأجيال اللاحقة، التزامًا للمسيح وكنيسته، ونشرًا لإنجيله وفضائله فينا وفي مَن حولنا، ولهمّ الكنيسة والتجنّد لما يخدم جمالها ووحدَتها«.
وأضاف: »في العام ١٩٤٢، تطلّع المؤسّّسون إلى تلبية الحاجات الإيمانيّة والكنسيّة، والتي كانت أولويّتها أن يعرف الأرثوذكسيّون مسيحهَم وإنجيله وكنيسته وتراثها حقّ المعرفة. درسوا وعلّموا وأرشدوا ورعوا وشاركوا وضحّوا في سبيل هذه الغاية. غير أنّهم قالوا أوّلاً: الالتزام والحبّ ليسوع المصلوب لا يعرَّف بالكلام، بل بالمثال، وكان أن وضع كلٌّ منهم نفسه في عهدة الربّ حيث اقتضى أن تكون مواهبُ كلّ منهم. هذا التكرّس الشخصيّ هو الأهمّ في تاريخنا لأنّه كان، أوّلاً، وفاءً لمن أحبّنا أوّلاً. ليسَ من لون أو طعم أو نكهة لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة من دون هذا الوفاء، وليسَ من مشروعيّة إنجيليّة لأيّ طرح وخطوة ونشاط ولقاء وإرشاد ونشر وشهادة ما لم ننطلق إليها من هذه البنوّة الالتزاميّة. أن نكون أبناءً وليس عبيدًا معناه أن نكون أحرارًا من عبوديّة الذات والخطيئة متطلّعين إلى النهوض بالمسيح مصلوبًا، متطلّعين إلى أن نصلب شهواتنا وأنفسنا على مذبح الخدمة والتخلّي. إن غابت هذه البنوّة عن مشهدنا الحركيّ غابت روح الحركة التي وَلَدها الحبّ، وبقيت أشكالها التي وَلَدَهـا التاريخ. هذه ليست مراوحة في الزمن العتيق، هي مراوحة في الأساس الذي عليه يُبنى كلّ جديد. أمّا الجديد دائمًا، فهو أن يكون يسوع المسيح الملجأَ الخلاصيّ لكلّ شخص ولكلّ العالم مهما اشتدّت أزماته. هذا يقتضي أن يكون المُبشّرون به عاملَ جذبٍ إليه، وأن يكونوا محتضنين لما يؤلم الناس وما يفرحهم. بهذا يزرعون حضور الربّ وفكره في الأرض خلاصًا ممّا يؤلم ومشاركةً من السماء بما يُفرح. وهذا ما يضعنا أمام ضرورة أن يتجلّى فينا اليوم ما يحتاج إليه العالم. كلّ ما يحوط بنا يدعونا إلى عهد حركيّ متجدّد، الى حضورٍ متمايز يتوافق مع الحاجات والتحدّيات والمتغيّرات الكنسيّة والاجتماعيّة الكبرى. في كنيستنا، تغيّر الكثير ويتغيّر، ولعلَّ أهمَّه أننا نواكب انطلاقة عهد أنطاكيّ جديد، بإمامة غبطة البطريرك يوحنّا العاشر، وهو الأمر الذي ينادينا للتجنّد في خدمة كلّ خطوة تؤول إلى أن يكون عهدَ فرحٍ للمسيح بكنيسة أنطاكية«.
وتطرّق الأمين العامّ إلى المؤتمر الأنطاكيّ الموسّّع الذي عقد في البلمند وأمل في أن تحقّق نتائجه الآمال المعقودة عليه فقال: »نرفع صلواتنا كي يُلهم اللَّه المجمع الأنطاكيّ عسانا نتلافى المزيد من غربة الأجيال الفتيّة والشابة عن الكنيسة وحياتها، ونجد حلولاً لأزمة غياب الرعاية المُستَفحِلة في كثير من الرعايا، وأزمة مشاركة المؤمنين، ونُجيب عن أسئلة وقضايا تواجهنا، والأهمّ، عسانا نعالج أزمة ثقة المؤمنين بقدرة كنيستهم على تلبية المرجوّات. وأنتهزها فرصةً، وفي موضوع مشاركة المؤمنين، لأسجّل، في هذا اليوم، أنّها مسؤوليّة الجميع أن نبني ما تحيا فيه هذه المشاركة وتنمو. فالعودة إلى قانون مجالس الرعايا والأبرشيّات، بالروحيّة التي أُقرَّ بها والمسطّرة في كتيّب الأخ كوستي بندلي »مجالس الرعايا ومتطلّبات النهضة الأنطاكيّة«، قد تكون أساس هذا البناء، إن عُدّلَ هذا القانون، وطوّر، بما يأخذ بالاعتبار تغيّر المُعطيات والاحتياجات التي أحاطت بكنيستنا يومَ إقراره. أمّا الأهمّ الذي يجدر توضيحه لأنفسنا، وللأصوات المتصاعدة في هذا الشأن، فهو أنّ المسؤوليّة في الكنيسة لا تُكتَسب ممّا خُطَّ على بطاقة الهويّة، بل من تعميد الحياة، بكلّيّتها، بالمسيح«.
وتأمّل أيضًا في مَعلَمين آخرين أولّهما »النَفَس الوحدويّ المبني على الثبات في الإيمان بالجسد الواحد. هذا المنظر الوحدويّ الذي نبسطه، الآن، هو ما يجب ألاّ يغيب من كنيسة أنطاكية. جرحُنا كلّنا في الكنيسة، اليوم، بُعدُ كلّ منّا عن الآخر وغُربتُه عنه، واختلاط مفاهيم الوحدة والاستقلاليّة وما شابه. هل لنا أن نُطلّ على مجتمعنا شاهدين للإله الواحد من دون أن تُرى هذه الوحدة في إطلالتنا؟ كيفَ نقول للعالم المُتصارع اللاهث خلفَ التغذّي من فقر الناس ودمائهم إنّ خلاصكَ هو بالشركـة المرتقية إلى التخلّي ما لم يرها متجلّيةً فينا. رعيّة لا تشارك رعيّةً ومؤسّّسة لا تساعد مؤسّّسةً، وأبرشيّة لا تحتضن أبرشيّةً، ومشاريعُ متشابكة متشابهة تتكرّر، فقط، لتكون هذه باسم هذه الرعيّة أو الأبرشيّة وتلكَ باسم تلك. في كنيسة المسيح ما لكَ هو لي وللكلّ، ومن أجلي وأجل الكلّ، وما لي هو لك ومن أجلك والكلّ.
أمّا المَعلم الآخر، فالفقراء والفقراء. يلفتني أنّ هذه القضيّة ليست في الصدارة المرجوّة ونحن نتباحث ونفكّر في سبل البشارة الحديثة والعصر والمعلوماتيّة وما الى ذلك. دعوني أؤكّد ما قد نعرفه جميعًا، إنّما يتطلّب، بالتأكيد، مزيدًا من الترجمة الصادقة. باطلَةٌ هي كلّ بشارة ما لم تكن غايتها خلاص المُبشَّر بالمسيح. وكيف يُكشَف له الخلاصُ، عبر الجماعة الكنسيّة، ما لم يلمس أنّ ألمه وجوعه ومظلوميّته تحيا فيها ومعها؟ باطلٌ كلّ سجود ما لم تنحن قلوبنا أوّلاً، وتَطرَ، أمام آلام الآخر ليستقيم، بهذا، سجودًا أمام الصليب. العطاء، الموقف الجريء الشاهد الذي لا يُراعي ظالمًا أو مصلحة غيرَ مصلحة »الصغار« وكرامتهم أوّلاً ينهض إلى حيث يسكن يسوع، فلا ننحدر إلى حيث يُقيم المال، ومعه، تقيمُ أنانا وأهواؤنا. ما لم نؤسّّس هذا المعبر لبشارة حديثة، ثقوا بأنّه لن يكون لنا آخر«.
وفي الختام رجاء إلى اللَّه كي »يسكبَ علينـا نعمة الفضائل الشخصيّة والجماعيّة، ويهبَنا الثبات فيها، لنفرشها، بجرأة وإصرار، في بيته سعيًا إلى أن يفيضَ فيه ما فاض في كنيستنا الأولى من جمالات شدّت العالم إليه«. ودعوة إلى تسليم النفس للَّه وابنه وروحه القدّوس كي »نثبت في اللَّه المحبّة، وكنيسته، وتثبت الحركة في الحبّ الذي شئناه شعارًا لهذا اليوبيل. ونحن على هذا الرجاء نذكر الوجهَ الذي لم نعتد غيابه عن مثل هذه المناسبة، وجه أبينا المطران جورج (خضر) ضارعين إلى اللَّه أن ينعم عليه بالصحة والعزّة وبشيخوخة كريمة«.
ثمّ ارتقى المنبر غبطة البطريرك يوحنّا العاشر، فاستهلّ كلمته بالدعاء وأعرب عن فرحه بهذا اللقاء معتبرًا أنّ هذه المناسبة تشمل كلّ محبّي المسيح وكنيسته في أنطاكية. وقال إنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة »غدت حركة كلّ محبّ للَّه ولكنيسته، وكلّ ساع إلى أن يحمل وجوه حياته، بالصلاة، إلى الربّ، وكلّ توّاق إلى أن يثبت في الربّ بالتزام الممارسة الأسراريّة، وكلّ ساع إلى أنّ تكون حياة الكنيسة كما شاء سيّدها أن تكون، وكلّ عاشق لتجلّي الوحدة في أيّ مجال أو صعيد كنسيّ«.
واستذكر الأحبّة المؤسّّسين، رسل »المحبّة الأولى«، مستمطرًا على المنتقلين منهم رحمة اللَّه، وداعيًا للأحياء منهم الصحّة المتوّجة بالفرح بثمار تكرّسهم لخدمة المسيح وكنيسة أنطاكية.
وشدّد غبطته على الالتفاف »حول الحمل الذبيح منذ إنشاء العالم، وبوحدتنا في وجه المخاطر الكثيرة التي تهدّد شرقنا ووجودنا الفاعل في هذه البقعة التي أرادنا اللَّه شهودًا له فيها، فلا نلتهي عن الجوهر بالقشور، ولا نسمح للتشرذم بأن يتسلّل إلى صفوفنا. وهذا يدفعنا إلى أن نرسخ في »المحبّة الأولى«، ونعمّق معرفتنا بالسيّد ونوطّد التصاقنا به وبكلامه، فنشهد بوعي وحيويّة لإيماننا الثابت بلغة تخاطب حاجات مؤمنيّ اليوم وتطلّعاتهم. فيسوع المسيح هو هو، وحاجة العالم إلى خلاصه لا تتغيّر مع تغيير الأزمنة بل تبقى هي هي. أمّا السؤال الكبير حول السبل التي علينا أن نسلكها من أجل تفعيل بشارتنا بالمسيح الظافر في وسط هذه المتغيّرات المتسارعة التي يشهدها عالمنا، فهو سؤال يخصّنا جميعًا ويدعونا إلى أن نلملم طاقاتنا ونوحّدها من أجل بناء حضور أرثوذكسيّ فاعل يترجم عظمة إيماننا وحنان مسيحنا ومحبّته للجميع. فشهادتنا، مدعوّة إلى أن تتكيّف مع تقلّب الأزمات والظروف وتتحرّك معها. نعلم، وتعلمون، أنّنا إن رنونـا، بصدق، إلى شهادة فاعلة تفرح ربّنـا، لا مفرّ أمامنا من سلوك مدخلها الأوحد، أي السعي الصادق من أجل أن تكون حياتنا الكنسيّة واحة نقاوة ووحدة وأخوّة يشتهيها العالم. فزرعنا الشهاديّ لن يرمى في أرض صالحة ويثمر ثمارًا طيّبة إن لم ير العالم فينا تلاميذ للمعلّم. فلئن كنّا، في كنيسة يسوع، »نحمل هذا الكنز في أوان خزفيّة« إلاّ أنّ هذا لا يبطل أنّنا »افتدينا بثمن« وأنّ سعينا وجب أن يكون، دائمًا، إلى قبول فداء الربّ لنا في مسيرة توبة لا تهدأ. دينونتنا كبيرة إن هدأت توبتنا وفتر سعينا، وإن تلهّينا عن وجهه بوجوهنا، وعن كنيسته بأطرنا. نحن مدعوّون إلى أن نجعل حضور الكنيسة في العالم تعبيرًا صادقًا عن حضور اللَّه في التاريخ، بكلّ ما لهذا الحضور من أبعاد. وهذا يتطلّب أن نصبح قنوات ممهورةً بختم الإنجيل تشدّ إلى حلاوة يسوع. ليقتن كلّ منّا الفضائل الشخصيّة، وليزدد صلاة ومعرفة«. ودعا إلى بناء كنيسة المسيح »في أنطاكية الحبيبة خارج ثقافة امتلاك الحقيقة وتكفير الآخر المختلف عنّا. فالكنيسة تتّسع لكلّ المواهب ونحن نصنعها جميعنا ومعًا كلّ يوم، بالركون إلى مشيئة سيّدها، وبالحوار البنّاء في ما بيننا، وبالعمل الدؤوب من أجل تمتين الشركة والوحدة وترجمة المحبّة تعاضدًا في هذا الزمن الصعب. ولنرتفع بالفقراء، عطاءً وفي الضمائر والقلوب، إلى حيث يمين الربّ. لنبق أبناء الحقّ النابذين الظلم والخطيئة، الصارخين بالعدل منحنين كالعشّار ومتحلّين بالحكمة والتلطّف والحرص على خلاص النفس وخلاص كلّ خاطئ تائب«.
وركّز غبطته على روح الوحدة في الكنيسة. واعتبر أنّ »هذه الروح ليست فقط وحدةً في الكأس المشتركة بل هي أيضًا ترجمة حيّة في واقع الكنيسة وحاضرها. فمنطق الاستقلاليّة لا يتماشى ومنطق المحبّة والخدمة والتضحية. الكنيسة تكامل بين أعضاء الجسد الواحد على كلّ مستوى. فالاستقلاليّة تقود إلى التشرذم بينما التكامل يقود إلى القوّة. ولا بدّ لي هنا من التأكيد أنّ هذه الوحدة التي نرجو لا تعنينا نحن فقط الموجودين في الوطن بل تشمل أبناءنا الموجودين في بلاد الانتشار التي يعاني قسم كبير منها من حالات مستجدّة طرحتها عليها الهجرة القسريّة لكثير من أبنائنا.
أنتم تدركون كم هي الصعوبات التي تواجه اليوم أبناء الإنجيل في هذه المنطقة، وماهيّة الأسئلة المفصليّة المطروحة في حياتنا، كمؤمنين، وكم تقتضي من تعاضد الطاقات للإجابة عنها. وتدركون، أيضًا، كم أنّ الأيّام تزداد ظلمةً وشعبنا تغلبه المعاناة، فدعونا نفكّر معًا، ونعمل معًا، ونصحّح ما اعوجّ معًا«.
وختم غبطته كلمته بالدعاء وبالنصح فقال: »تبقى دعوتي إليكم، وصلواتي لكم، لكي تثبتوا في الإيمان والحقّ والمحبّة. حافظوا على تعب من سبقكم ولا تستهينوا بأتعاب كلّ من يخدم المسيح وكنيسته. لا تكيلوا ضعفات غيركم، ولكن لا تتهاونوا مع ضعفاتكم. لا تساوموا على حقّ اللَّه في الأرض، ولكن تنبّهوا كيلا تكسروا قصبة مرضوضة أو أن تطفئوا فتيلاً مدخنًا. أحبّوا الجمال ولا تحتكروه لكم ولا تسجنوه في أناكم، بل اقتحموا به سائر الهياكل لتزيدوها جمالاً وتزيدوه بها سحرًا. التصقوا أكثر فأكثر بالصلاة وبقراءة الكتاب وبالتكرّس للمعرفة، املأوا الكنائس، احملوا كنيستكم، وأساقفتكم، في صلواتكم. أذكروا دائمًا المعذّبين في الأرض واجهدوا في تخفيف عذاباتهم. كونوا شهودًا سلاميّين لحقّ الإنجيل مهما ندر الشهود، وانطلقوا إلى أعوامكم الآتية بفرح الحبّ والمشاركة والعطاء. لا تجمّدوا الحركة في أطر، ولا تتجمّدوا أنتم في قوالب تقتل الروح. وتذكّروا دائمًا أنّ الحركة كانت هبوب الروح في أنطاكية. فتنقّوا دائمًا لتقتنوا الروح القدس وتذكّروا بأنّ الروح يهبّ حيث يشاء، وكيفما يشاء، ويخلع كلّ الأبواب المغلقة. كان اللَّه معكم، ولتغمركم بركة الربّ، ولترافقنا صلواتكم دائمًا«.
ربّي في هذا اليوم المبارك أرسل رأفتك ورحمتك علينا، ونسألك تعالى أن تمدّ مؤسّّس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة سيادة المتروبوليت جورج (خضر) راعي أبرشيّة جبيل والبترون وما يليهما جبل لبنان، بالصحّة والعافية ليسبّح اسمك ليل نهار ويمجّد عزّتك. لا تخف على الحركة فالشعلة لن تنطفئ بإذن اللَّه.
أسرة مجلّة النور تتقدّم من كلّ الحركيّين في سائر المراكز بأحرّ التهنئة وأطيب الأمنيات، وكلّ عام وأنتم مشمولون برعاية ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح.l