الخلاص بين الغنيّ وزكّا
الأب عصام جرداق
يعتقد معظم المؤمنين أنّ قول الربّ يسوع »بعْ كلّ ما لك ووزّع على الفقراء... وتعال اتبعني« (لوقا ١٨: ٢٢) يشكّل قاعدة عامّة لجميع الناس، ومُلزمة على وجه الخصوص للأغنياء. وكذلك يُستنتج، للوهلة الأولى، من كلام الربّ يسوع »دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أنّ يدخل غنيّ ملكوت اللَّه« (لوقا ١٨: ٢٥) أنّ خلاص الأغنياء مستحيل، وأنّ لا فرصة لهم ما لم يفتقروا بالكامل تلبية للأمر السابق »بعْ كلّ ما لك ووزّع على الفقراء«. فإذا تيَسّر لأحد الإخوة الأغنياء أن يقرأ الكتاب، أو أن يسمع بعض المواعظ والشروحات المتأثّرة بهذه النظرة، ينتابه إحساس بالاضطهاد، ويشعر بأنّ اللَّه أصدر بحقّه حكمًا مسبقًا، وأنّه محروم حتمًا من الخلاص، ما قد يُولّد لديه عدوانيّة تجاه الكنيسة والإيمان.
من أجل إدراك المعنى الفعليّ لكلمات الربّ يسوع، يفيدنا أن نقرأ حادثة الرئيس الغنيّ (لوقا 18: ١٨- ٣٠) بالمقابلة مع رواية زكّا رئيس العشّارين (لوقا 19: ١- ١٠)، وذلك لما يتضمّنه النصّان من نقاط مشتركة من جهة، وأخرى متعارضة من جهة ثانية. إنّ الشخصين كليهما رئيسان وثريّان، وأمّا الموضوع المحور في النصّين فهو الخلاص. مُنح زكّا الخلاص مع أهل بيته، في حين أنّه لم يتمّم بالكامل الأمر الذي وضعه الربّ يسوع أمام الرجل الغنيّ. فمن جهة، لم يفتقر زكّا بالكلّيّة بل اكتفى بتوزيع نصف ثروته، ووعد بالتعويض على مَن ظلمهم. أمّا الأمر الأهمّ، من جهة ثانية، فهو أنّه لم يُدعَ إلى اتّباع يسوع كما سبق أن طُلب من الرئيس الغنيّ.
واضح أنّ زكّا رئيسٌ للعشّارين. أمّا الغنيّ، فأيّ نوع من الرؤساء هو؟ نستنتج من جوابه: »هذه كلّها حفظتها منذ حداثتي« (لوقا 18: 21) أنّه يهوديّ المنشأ وليس رئيسًا رومانيًّا من قادة الجند أو غيره. أمّا ملامحه، وبالأخصّ ثيابه، فيتّضح منها أنّه واحد من معلّمي الشريعة، ولذلك جزم يسوع له: »أنت تعرف الوصايا« (لوقا 18: 20). أمّا سؤاله حول الحياة الأبديّة، فيوحي بأنّه أحد رؤساء فرقة الفرّيسيّين الذين كانوا يؤمنون بالقيامة والحياة بعد الموت بخلاف الفرق اليهوديّة الأخرى. قصد الإنجيليّ لوقا تورية هويّة الرئيس لكيما تخاطب هذه الحادثة بمعانيها كلّ رؤساء الفرق الدينيّة اليهوديّة وليس فقط الفرّيسيّين.
قال له يسوع: »يعوزك أيضًا شيء (واحد)« (باليونانيّة يذكر رقم e[n)، ولكنّه بالتفصيل يطلب منه أمرين:
١- بيع الممتلكات وتوزيع المال بالكامل.
٢- اتّباع يسوع.
هذان، للوهلة الأولى، يظهران أمرين. ولكن، في اعتبار الربّ يسوع والإنجيليّ لوقا، هما أمر واحد، لأنّ ترك كلّ شيء أمر بدهيّ يسبق اتّباع السيّد. يدعو الربّ يسوع الغنيّ ليكون له تلميذًا أو رسولاً، ولهذا السبب يفترض أن يترك كلّ شيء ويتبعه، تمامًا كما فعل كلّ من بطرس وابني زبدى ولاويّ. هذا يوافق ما سبق أن ذكره لوقا على لسان الربّ: »كان جموع كثيرة سائرين معه، فالتفت وقال لهم: إن كان أحد يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمّه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتّى نفسه أيضًا، فلا يقدر على أن يكون لي تلميذًا. ومَن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي، فلا يقدر على أن يكون لي تلميذًا. فكذلك كلّ واحد منكم لا يترك جميع أمواله لا يقدر على أن يكون لي تلميذا« (لوقا ١٤: ٢٥- ٢٧). وهذا ما قاله يسوع للرسل الاثني عشر حين أرسلهم: »لا تحملوا شيئًا للطريق لا عصًا ولا مزودًا ولا خبزًا ولا فضّة ولا يكون للواحد ثوبان« (لوقا ٩: ٣) وكذلك عندما أرسل السبعين: »اذهبوا. ها أنا أرسلكم مثل حملان بين ذئاب. لا تحملوا كيسًا ولا مزودًا ولا أحذية ولا تسلّموا على أحد في الطريق« (لوقا ١٠: ٣- ٤).
إذًا، يدعو يسوع الرئيس الغنيّ إلى الذهاب وراءه نهائيًّا، وأن يتفرّغ للبشارة ويتحمّل مصاعبها بالكامل وأن يكون خادمًا متفانيًا للكلمة تماشيًا مع تعليمه الشهير: »إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني. فإنّ مَن أراد أن يخلّص نفسه يهلكها، ومَن يهلك نفسه من أجلي فهذا يخلّصها، لأنّه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وأهلك نفسه أو خسرها؟ لأنّ من استحى بي وبكلامي فبهذا يستحي ابن الإنسان متى جاء بمجده ومجد الآب والملائكة القدّيسين« (لوقا ٩: ٢٣- ٢٦).
حسنًا، لماذا يتوّجب على هذا الغنيّ، وعلى خادم الكلمة بشكل عامّ، أن يستغني عن كلِّ شيء وعن كلِّ متّكل؟ الجواب أنّ البشارة، وخدمة الكلمة، تُعرّض حاملها لشتى المصاعب والمتاعب والأخطار، والخادم معرّض لأن يتزعزع وييأس، فيتذكّر ما لديه من مال وممتلكات وأحبّاء وأقرباء، ويقول لنفسه: »ما لي ولهذه الأمور؟ أعود إلى حياتي المريحة ولا أتكبّد كلّ هذا التعب!«، عملاً بالقول الشعبيّ »ما في بالميدان غير حديدان«، فيهمل البشارة ويعطّل عمل اللَّه. ندرك عمق هذه المعاناة وخطورة هذا الموقف عبر التعليم الذي ينفرد به الإنجيليّ لوقا حيث يقول يسوع: »وفيما هم سائرون في الطريق، قال له واحد: يا سيّد أتبعك أينما تمضي. فقال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأمّا ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه. وقال لآخر: اتبعني. فقال: يا سيد ائذن لي أن أمضي أوّلاً وأدفن أبي. فقال له يسوع: دع الموتى يدفنون موتاهم، وأمّا أنت، فاذهب وناد بملكوت اللَّه. وقال آخر أيضا: أتبعك يا سيّد، ولكن ائذن لي أوّلاّ أن أودّع الذين في بيتي. فقال له يسوع: ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت اللَّه« (لوقا ٩: ٥٧- ٦٢). إذًا من حافظ على متّكل ما، ووضع يده على المحراث وانطلق للعمل في حقل الربّ، ثمّ ضعف أمام الصعاب وتردّد وعاد إلى الوراء، يخسر الملكوت ويخسر صديقنا الغنيّ هذا الحياة الأبديّة التي سعى إليها.
طُلب هذا الأمر من الرئيس الغنيّ لأنّه يصلح أن يكون تلميذًا، مبشّرًا ومعلّمًا ورسولاً، وذلك بسبب درايته العميقة بالأسفار المقدّسة، الأمر الذي لا يتمتّع به زكّا أبدًا. فزكّا، كسائر العشّارين، كان مصنّفًا من الخطأة (لوقا 19: 7)، مرفوضًا من الفرق الدينيّة اليهوديّة، وتاليًا منبوذًا من المجمع، ما يحرمه فرصة الاطّلاع على الشريعة. أمّا نسبة الأضعاف التي صرّح زكّا أنّه يريد أن يعوّض بها، فتُظهر عدم معرفته أحكام الناموس، إذ يُحكم بخمسة أضعاف عوض الثيران، وبأربعة عوض الغنم، أمّا الفضّة والمال فبضعفين (خروج ١: ١٥- ٢٢). فبخلاف الرئيس الغنيّ، لا يصلح زكّا أن يكون تلميذًا، لذلك لم يطلب منه يسوع أن ينضمّ إليه.
ما طلبه يسوع من الرئيس الغنيّ محصور به وبكلّ مَن يشبهه، أي رؤساء الجماعات اليهوديّة المتعدّدة التي تدرس الشريعة وتمتهنها. لذلك لا يجوز تعميم هذا الأمر على كلّ الأغنياء وفي مقدّمتهم زكّا. طلب يسوع يعني فقط خدّام الكلمة، وقد ألمح الربّ يسوع إلى هذا أمام رؤساء اليهود عبر ما ذكره لوقا سابقًا: »أنتم الآن أيّها الفرّيسيّون تُنقّون خارج الكأس والقصعة، وأمّا باطنكم فمملوء اختطافًا وخبثًا. يا أغبياء، أليس الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضًا؟ بل أعطوا ما عندكم صدقة، فهوذا كلّ شيء يكون نقيًّا لكم« (لوقا ١١: ٣٩- ٤٢). إذًا، ما قاله ربّنا لصديقنا الغنيّ ليس جديدًا، فقد سبق أن عمّمه على الرؤساء لكي يتنقّوا.
شكّلَتْ هذه الحادثة مناسبة ليسوع، ليندّد مجدّدًا بأخطار الغنى على خلاص الإنسان. لذلك توجّه إلى الحاضرين وقال: »ما أعسر على ذوي الأموال أن يدخلوا ملكوت اللَّه، لأنّ دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنيّ إلى ملكوت اللَّه« (لوقا 18: 24- 25). فهذا الكلام يشكّل وجهًا آخر لتصريح سبق أن أعلنه الربّ يسوع أمام الفرّيسيّين مفاده أن »لا يقدر خادم على أن يخدم سيّدين، لأنّه إمّا أن يبغض الواحد ويحبّ الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون على أن تخدموا اللَّه والمال« (لوقا 16: 13). تاليًا، يصبح السؤال: »من يستطيع أن يخلص؟« سؤالاً وجيهًا لأنّه يعني كلّ إنسان. ففي حين أنّه ليس كلّ إنسـان غنيًّا، إلاّ أنّه نادرٌ ما يوجد إنسانٌ لا يطمح إلى الغنى. فبقرارة نفس كلّ واحد منّا رغبة جامحة إلى الغنى، قـد تكون مُعلنـة أو محجوبة ببعض من التُقى الزائف. لذلك يؤلمنا كلام يسوع كما آلم سامعيه في ذلك الحين.
كيف يكون العسير عند الناس مُستطاعًا عند اللَّه؟ إذا رغبنا في معرفة الجواب، علينا أن نواكب يسوع إلى أريحا. صرخ الأعمى عند مدخل أريحا »يا يسوع ابن داود ارحمني، فانتهره المتقدّمون ليسكت« (لوقا 18: 38- 39)، إذ لا يجوز أن يُطلَق على يسوع الآتي من الناصرة لقب المسيح المخلّص الموعود به في الأسفار المقدّسة، فهذا الكلام تجديف. لكنّ هذا لم يردع الأعمى، بل عاود الصراخ مرارًا وتكرارًا إلى أن وقف يسوع ومنحه البصر قـائلاً له: »إيمانُك خلّصـك« (شفاك في بعض ترجمات غير دقيقة). وهنا نسأل، كيف للأعمى أن يُدرك هويّة يسوع وهو لا يبصر؟ صحيح أنّ الأعمى لا يبصر، ولكنّه يسمع جيّدًا. أغلب الظنّ، أنّه كان يسمع الأسفار المقدّسة على أبواب المجمع ويحفظها، وقد قابلها بما سمعه عن أعمال يسوع وتعاليمه، فاستنتج أنّ يسوع الناصريّ هو من دلّت إليه الأسفار. لذلك آمن بكلّ جوارحه غير عابئٍ بتهديدات الناس. لم يكتفِ الأعمى بالشفاء، بل ترك كلّ شيء وتبع يسـوع (لوقا 18: 43)، أي انضـمّ إليـه. إنّ إدراك هـويّة يسوع والإيمان به واتّباعه يمثلاّن وجهًا من الجواب عن السؤال: »من يستطيع أن يخلص؟«. أمّا الوجه الآخر المكمّل للخلاص، فقد استعرضنا تفاصيله في قصّة زكّا.
خلاصة القول في هذه المسألة نجدها بأفضل تعبير لدى الرسول بولس في رسالته الأولى إلى تيموثاوس حيث يوصيه قائلاً: »إنّ محبّة المال أصل لكلّ الشرور الذي إذ ابتغاه قوم ضلّوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة. وأمّا أنت يا إنسان اللَّه فاهرب من هذا واتبع البرّ والتقوى والإيمان والمحبّة والصبر والوداعة. جاهد جهاد الإيمان الحسن وأَمسك بالحياة الأبديّة...« (٦: ١٠- ١٢). »أوصِ الأغنياء في الدهر الحاضر بألاّ يستكبروا ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينيّة الغنى، بل على اللَّه الحيّ الذي يمنحنا كلّ شيء بغنى للتمتّع. وأن يصنعوا صلاحًا وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة وأن يكونوا أسخياء في العطاء كرماء في التوزيع مدّخرين لأنفسهم أساسًًا حسنًا للمستقبل لكي يُمسكوا بالحياة الأبديّة« (٦: ١٧- ١٩). المؤمنون إذًا فئتان: فئة تشبه الرئيس الغنيّ، أي هم على دراية عميقة بالكلمة الإلهيّة، ويكمـن خلاص هـذه الفئة في اتّباع مثال تيموثاوس، أي في الهرب من محبّة المال ومغرياته والانصراف لخدمة الربّ والاغتناء بالفضائل؛ وفئة أخرى تشبه زكّا، يكمن خلاصها في الأعمال الصالحة كالرحمة والسخاء والكرم.
لا شكّ في أنّ خلاص الأغنياء عسير، إلاّ أنّه ليس مستحيلاً. يستطيع الغنيّ أن يبتاع خلاصه، إذا جاز التعبير، عندما يسدّد للَّه الثمن المناسب وهو، ببساطة، فعل البذل الذي يجسّد محبّة القريب بكمالها. أودع اللَّه خلاص الغنيّ عهدة الفقير والمسكين والمشرّد واليتيم والأرملة وأمثالهم، وهؤلاء لسوء حالهم، وحُسن حظّنا، هم معنا في كلّ حين، فلا نُفوّتنّ فرصة الخلاص بتجاهلهم.l