2017

1. الافتتاحيّة: الحاجة دائمًا هي هي - رينه أنطون – العدد الرابع سنة 2017

 

 

 

الحاجة دائماً هي هي

 

رينه أنطون                                  

 

 

 

لنتصارحَ في الحدث وأبعاده. ليس مشهدًا عاديًّا في العقود الأخيرة، أن يحضنَ غبطة البطريرك الأنطاكيّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة عبر رعايته مؤتمراتها السنويّة واحتفالاتها، بحضوره الشخصيّ، وتوجيهه لقيادتها وأعضائها بكلماته. فليسَ سرًّا هو أنّ العلاقة الرعائيّة بين المؤسّّسة الكنسيّة وحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، بأصعدتها كافّةً، شابها هذه العقود ما صدَّ عنها أن ترتقي إلى الحَضنِ والتنسيق المرجوّين، هذا عدا استثناءاتٍ قليلة، ومن دون التطرّق إلى تفاصيل الأسباب. وبغضّ النظر عن الصدى الطيّب لوجود غبطته، في العيد، بيننا وما غَمرنا به من رجاءٍ وفرح، يبقى من المبكر القول إنّ تلكَ الصفحة قد طُويت وأنّ غُبارَ التأزّم قد زال كلّيًّا، من دون أن نتنكّر لكون أنّ الحدث وضَعنا في طريق »المُصالحة الكُبرى« بين الحركة والمسؤولين الكنسيّين. بالطبع، هذا التعبير إنّما هو تعبير مجازيّ أتى بهدف الدلالة إلى ما لهذه »المُصالحة« من امتدادات تأثيريّة تغييريّة كُبرى في حياة كنيستنا الأنطاكيّة، خصوصًا وأنّ العداء لم يحكم يومًا هذه العلاقات رغم ما ساد فيها من فتور وجمود. هذه الامتدادات نَشخص إليها ارتكازًا إلى خبرة كنيستنا الأنطاكيّة في تاريخها الجديد. فأبناء جيلنا نحن، ومنهم غبطة البطريرك يوحنّا العاشر وعدد من الأساقفة والكهنة، وكذلك أجيال سابقة لنا، أُعطينا أن نعايش زمنين كنسيّين. أحدهما وُلد، برأيي وبصراحةٍ مُطلقة، من رحم حيويّة التواصل وقوّة التفاعل بين المسؤولين الكنسيّين والحركة. زمنٌ شهدنا فيه مسارًا تصاعديًّا إيجابيًّا في حياة كنيسة الربّ وكثيفةٌ هي عناوينه. كان منها تأسيس معهد اللاهوت الأنطاكيّ، إصدار قانون مجالس الرعايا والأبرشيّات، ارتقاء قامات روحيّة سدّة الأسقفيّة والمسؤوليّة الكنسيّة، جمالات تراكمت في وجوه كهنوتيّة ورهبانيّة، كثافة ورش شورى في الرعايا وما بين المؤمنين والمسؤولين، وعي إيمانيّ التزاميّ بين شرائح شعب الكنيسة، حضور متألّق في قضايا ومنتديات مسكونيّة وإقليميّة وعالميّة، إلى غيرها من العناوين. وعايشنا، أيضًا، الزمن الممتدّ حتّى اللحظة والذي الكلّ يعرف ما لهذا الزمن وما عليه، وكم هي معاناة المخلصين، فيه، ليسوع المسيح وفي مقدّمتهم غبطة البطريرك. فرغم ما طال الجسم الأسقفيّ والكهنوتيّ من تغييرٍ لا يُستهان به، ورغم عضويّة قامات كنسيّة كبيرة لسنوات عديدة في المجمع المقدّس، واليوم، رغم القدرة التأثيريّة والمكانة الشخصيّة والرعائيّة والرهبانيّة الكبيرة للبطريرك يوحنّا العاشر في ضمير الكنيسة ومؤمنيها، وعضويّة أساقفة على قلب اللَّه في المجمع المقدّس، ترانا عاجزين عن معالجة الأمراض النافرة والمستترة في حياة كنيسة المسيح، والتي أشار غبطتُه إلى بعض أهمّها في كلمته الأخيرة. فماذا إن أضفنا إليها، أيضًا، إهمال قرارات المؤتمر الأنطاكيّ وامتداداتها في الحياة الرعائيّة، والصراخ الذي يعلو من كلّ مكان احتجاجًا على غياب المشاركة الحقيقيّة، وتحكّم المزاجيّات الكهنوتيّة في إدارة حياة الجماعة، وألمـًا من التفرّد والأنـانيّات الرعويّة الطاعنة لوحدة الجسد حتّى العظم، ومن التلكّؤ عن مساءلة كلّ من يجب، أكان من المؤمنين أم من رجال الكنيسة وهيئاتها ومحاكمها، بما وجبَ المساءلة به خصوصًا في ما خصّ السلوك المنتهك لسلام حياة الكنيسة والمشكّك لضمير الجماعة والجارح له، ومِن هزالة الرعاية، ومِن أصوليّةٍ تنتهك بتعليمها المشوَّه وتقليديّتها الثقيلة استقامة التعليم وسلامة التقليد، ومن صراعات هذا وذاك، ومِن ومِن...؟

لهذا قلت بالحدث غير العاديّ، ولهذا أقول، أمانةً للربّ وإنجيله، أنّه يُمنَع علينا جميعًا ألا نمدّ هذا الزخم الجديد المطلّ علينا أساسًًا خادمًا لحياة كنسيّة جديدة. هي مسؤوليّة كلّ المعنيّين بكنيسة المسيح، وكلّنا معنيّون، أن يؤسّّسوا لحيويّة وحدويّة جديدة، فيها، استنادًا إلى تعليمها وطبيعتها المواهبيّة، حيويّة »تجعل الكنيسة، اليوم، تليق بسيّدها«. تكمن باكورة هذا التأسيس في المصارحة بما عبَر، ويعبُر، بين الحركة والمؤسّّسة الكنسيّة. ثقوا بأنّ ليس من بناءٍ على صخرٍ بغير هذه المصارحة الواثقة بإخلاص الكلّ كائنًا ما كانت آراؤه، والمقـرّة بالأخطاء حيث وُجدت وكائنًا من كان المخطئ. وثانيه هو بناء واحة أنطاكيّة تناغميّة، تنسيقيّة، تكامليّة، محرَّرة من هفوات الكلّ السابقة ووطأة التاريخ، صائنة لحرّيّة الحالات المواهبيّة في الكنيسة داعمة لنموّها فـي كـنفـها ورعايتـها. واحـة وحـدة، فعليّة، ثالـوثـيّة الهـويّة وإنجيـليّة الهـوى، غـير مؤسّّساتيّة، تلاقي توثّب البطريرك إلى أن نطلّ بحلّة وفعاليّة كنسيّة وحدويّة على الشجون المصيـريّة التي تحـوط بـنـا. هـذه الـواحة، إن أَبدعناها، تعـالج أنيننـا، المــزمن، من كلّ ما يؤلم في كنيسة المسيح في أنطـاكيّة بأقـصـر الطرق، وتُخرج الكلّ من نفق المراوحة.

إن شَخَصنا إلى خارج هذا النفق متشبّثين بحرّيّتنا المواهبيّة وأمانتنا لفكرنا وأصالتنا، وبحرّيّة كلّ موهبة، لومَضَت فينا جرأة الأبناء. نحن لا نقلّل من شأن كلّ معاناة في تاريخ علاقتنا والمؤسّّسة الكنسيّة، ولا نقلّل من شأن ما جرَحنا، ويجرحنا، من تمييز، قائم حتّى اليوم في بعض الأماكن، ولا نقلّل من شأن صدّ آذان بعض الرعاة عمّن يسعى إلى امتلاك صدى الإنجيل وفتحها لمن يسعى إلى امتلاك العالم بفعل ماله. ونحن لن ندوسَ، وفي أيّ ظرف ومكان، على كلّ ما جرحَ الحقّ الإنجيليّ في كنيسة يسوع، لا بل سنرفعه لنُطهّره بدموع تائبة. وبالإصرار ذاته لن نُنكر مزاجيّاتنا وأخطاءنا وضعفاتنا وحاجتنا إلى توبة يفوق حجمها كُبر »المصالحة« المرجوّة. وبآن لن ننكر حاجتنا إلى الخروج من اليُتم. فحاجة الحركة إلى المؤسّّسة الكنسيّة هي حاجة الأبناء إلى الأمّ بحيث لا نرتاح، ولا ترتاح الكنيسة، بغير أن تفتح الأمّ ذراعيها لنسكن، راشدين بيسوع، بينهما.

هل لنا أن نشهد »أنطاكية متجدّدة«؟ سؤالٌ أجد نَعَمَه، ونحن في عهد أنطاكيّ جديد، أقرب من أيّ يوم مَضى. هذا إن وَعينـا أنّ الأزمنة الصعبة لا تُقاد بغيـر الكبار، ومعهم تعاضد الطاقات، وأنّ الكُبر في كنيسة المسيح هو سكَنٌ في الإنجيل، والسكن في الإنجيل سكنٌ في الوداعة والمشاركة والتخلّي والتوبة. وهذا إن أتينـا بساكنيه، وحدهم، إلى القيادة لنشدّ الروح القدس إلى أن يكون مُلهم عهدنا الكنسيّ الجديد. نشهد أنطاكية متجدّدة حين نكون معًا ويكون كلّ منّا، في آن، حيث يشاؤه الربّ في رحابه، حين نجدّ في تجسيد قول غبطته »عن حاجة كلّ منّا، في هذه المسيرة إلى الآخر، وحاجة كلّ موهبة إلى الأخرى«، فنفرح  بعضنا بمواهب بعض، وننمّيها بالاحتضان، لأنّنا ندرك هذه الحاجة ونثق بأنّ اللَّه أوجدها في كنيسته، فلا تُستبدَل بشبيه ولا تُختصرَ بأحد. المخلصون، والأطهار، والقدّيسون يمرّون ويرحلون، ليستحيلوا صلاة من أجل الكنيسة. أمّا الجماعة، فتبقى. ولأنّها هي الباقيـة، حتّى يوم الربّ، نُعلي شأن الفضائل والقداسة الشخصيّة، فيها بالطاعة لها والتمثّل بها وحملها بالصلاة والحبّ، ونؤسّّس، دائمًا ما يخدم وحدة الجماعة وبهاءها ويلبّي حاجاتها ويغذّي المواهب فيها اليوم وغدًا وحتّى ذلك اليوم. سألت مرّة معلّمي، في المسيح الحيّ، كوستي بندلي عن مدى حاجة الكنيسة إلى الجماعة الحركيّة وأيّ جماعة مواهبيّة أخرى، بحرّيّتها في الربّ، يومَ يرأس الكنيسة مخلصون صادقون للإنجيل نذروا حياتهم لقضيّة يسوع، فأجابني هي الحاجة ذاتها لا تتغيّر وأوّل الحاجات هي حاجة المخلصين والأطهار إلى صوت جماعة يبثّ في آذانهم أثير نبوءة يصونهم من الضعفات والأخطاء والانجذاب إلى سحر السلطة، ليبقوا راسخـين في ولعـهم بالإنـجيل، وهـي حاجــة كلّ الـرؤســاء، في الكنيسة وجماعاتها، إلى هذا الأثير يشدّهم إلى حيث بفضائلهم وقيادتهم »يحضر اللَّه بكنيسته في العالم«.

عسانا في هذا الزمن نُعطَى هذا الفرح.l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search