الانتشار الأنطاكي في المهاجر
الأب متري الجرداق
تعالج هذه المقالة باختصار الانتشار الأنطاكيّ في المهاجر وبخاصّة، في قارّتي أوستراليا وأميركا، منذ هجرة المسيحيّين الأنطاكيّين الأولى، أواسط القرن التاسع عشر، إلى فترة تزيد على منتصف القرن العشرين، أي نحو قرن ونصف قرن من الزمن.
لم تكن بداءة هجرة الشعب المسيحيّ من هذا الشرق منظّمة، بل كانت عشوائيّة تخضع لظروف محلّيّة موضوعيّة، أهمّ أسبابها الاضطهاد والظلم والجور والحرمان، الذي عانت منه مجتمعاتنا المشرقيّة زمن السلطنة العثمانيّة . فكانت تحصل حركات نزوح واغتراب مدفوعة بالكسب المادّيّ تعويضًا من الحال الاجتماعيّة المسيطرة عندنا، وهربًا من الأوضاع العامّة السائدة في بلاد الشام، ناقلين معهم عاداتهم المشرقيّة إلى بلاد الاغتراب.
أضف إلى ذلك، حالة الجهل والأمّيّة التي كانت طاغية على معظم أفراد هذه المجتمعات. ولا ننسى الغيرة التي قامت بدور مهمّ في تشجيع الشباب على شدّ الرحيل والهجرة، حالمين بمستقبل أفضل لهم أوّلاً، ولأقربائهم ثانيًا، ولأبناء قراهم وضيعهم ثالثًا.
وعندما وصلت جموع المهاجرين إلى الطرف الآخر من الكرة الأرضيّة، واجهوا صعوبات في اختيار المهن التي تساعدهم على الكسب الوفير، وإيجاد البيئة الملائمة لهم، بسبب جهلهم اللغة المحلّيّة. وكم كانت المفاجآت تحصل عندما يتلاقى أبناء المنطقة الواحدة في أماكن اغترابهم، حيـث يجتمعون ويؤلّفون مجتمعًا جديدًا قائمًا على العادات والتقاليد المنقولة، الموروثة عن الأهل في بلدهم الأمّ.
هناك في المغتربات، زالت الاختلافات المذهبيّة عند الكثيرين من أبناء الديانة الواحدة. فكان المارونيّ والأرثوذكسيّ والكاثوليكيّ يجتمعون في أماكن محدّدة يمارسون عاداتهم الدينيّة معًا لعدم وجود كنائس أو رجال دين لكلّ مذهب، لخدمة الناس هناك. فترى الأرثوذكسيّ والكاثوليكيّ يجتمعان في منزل واحد لممارسة الطقوس البيزنطيّة الواحدة. والمارونيّ مع الكاثوليكيّ لأنّهما كانا يتبعان مرجعًا دينيًّا مركزيًّا واحدًا وهو روما. أمّا المارونيّ والأرثوذكسيّ فكانا يجتمعان جبرًا لعدم وجود تسهيلات دينيّة روحيّة خاصّة بكلّ واحد منهما، أو لأنّهما قدما من منطقة واحدة فيها اختلاط مذهبيّ، فكانا يتّفقان مرحليًّا لأنّ المصيبة جمعتهما، ولا مناص من التعايش والقبول ببعضهما البعض(١)...
لكنّ بعضًا من الأرثوذكس وجد مخرجًا دينيًّا لممارسة عقيدته، وهو عثوره على رعيّة يونانيّة أو روسيّة تمارس معتقداتها الأرثوذكسيّة، فينضمّ إليها رغم جهله اللغة التي تمارس بها الطقوس الدينيّة. وكان أبناء الرعايا الأرثوذكس من الإثنيّات اليونانيّة والصربيّة والسلافيّة والروسيّة، قد سبقوا أبناء الرعايا الأنطاكيّة في الهجرة إلى أوستراليا والأميركيّتين، وبخاصّة الشماليّة. فأسّسوا جاليات تمارس طقوسها الدينيّة بحسب العقيدة الأرثوذكسيّة، وكان يؤمّها رجال دين على مختلف المستويات، من الروس واليونان والسلاف. كانت هذه الرعايا ملاذًا آمنًا لأبناء المعتقد الأرثوذكسيّ المشرقيّ، فشاركوهم الحياة الروحيّة وارتاحوا إلى ممارستهم هذه الحياة، فسدّوا ثغرة مهمّة في حياتهم الاجتماعيّة، الروحيّة - الدينيّة.
أمّا في القسم الجنوبيّ من القارّة، فكانت الأرجنتين والبرازيل أكبر مناطق النزوح الاغترابيّ المسيحيّ إلى هذا الشطر من العالم الجديد، لما أمّنته من مقوّمات اجتماعيّة واقتصاديّة ومادّيّة لخلق تجمّعات إثنيّة مسيحيّة، وبخاصّة المشرقيّة منها. فكانت بيونس آيرس في الأرجنتين، وساو باولو وريو دي جانيرو في البرازيل. أمّا في أوستراليا، فكانت مدن سيدني وملبورن وأدالايد الأكثر تجمّعًا لأبناء الجاليات المسيحيّة الأرثوذكسيّة المشرقيّة من شمال لبنان (عكّار، وطرابلس، وبشرّي، والكورة، والبترون وغيرها)، والبعض من أبناء البلدات الشماليّة. أمّا أميركا بقسميها، فكانت مقصدًا لمعظم أهالي البقاع وجبل لبنان وبيروت والجنوب.
أمام هذا الواقع الاغترابيّ، كان لا بدّ من تنظيم أوضاع أبناء الرعايا الأنطاكيّين في هذه البلاد من الناحية الدينيّة-الروحيّة، إمّا عبر إرسال رجال دين محلّيّين من قبل السلطات الروحيّة العليا، أو بمبادرة فرديّة يقوم بها بعض رجال الدين، لأسباب وأهداف متعدّدة ومتنوّعة.
في أوستراليا ونيوزيلندا
بدأت هجرة اللبنانيّين إلى أوستراليا بين 1880 و1890، وكانوا بمعظمهم من مدينة طرابلس ومحيطها، وبعض أنحاء بيروت. وفي أيّار 1898 وضع حجر الأساس لأوّل كنيسة أرثوذكسيّة في سيدني على اسم بشارة السيّدة. والسنة 1900، وضع حجر الأساس لكنيسة بشارة السيّدة في ملبورن، وهي تخصّ الكنيسة اليونانيّة. وكان الأنطاكيّون يجتمعون للصلاة في البيوت، ولم يقصدوا الكنائس اليونانيّة إلاّ للضرورة، أي في المآتم والأعراس.
في سيدني: عيّن المثلّث الرحمة البطريرك غريغوريوس الرابع الأب نقولا (شحادة) معتمدًا بطريركيًّا في أوستراليا ونيوزيلندا. كانت مهمّته الأساس استطلاعيّة والتعرّف إلى أوضاع الأرثوذكس هناك. لم يعد الأب (شحادة) الى لبنان بسبب الحرب العالميّة الأولى، فبقي هناك. أدرك الأب (شحادة) حاجة الناس إلى بناء كنائس يمارسون فيها معتقداتهم الدينيّة، لأنّهم كانوا يتّخذون من المنازل أمكنة لإقامة الشعائر الدينيّة. السنة 1919 نشأت معتمديّة أوستراليا ونيوزيلندا، وفي 23 أيّار من السنة ذاتها، وضع المعتمد البطريركيّ في سيدني حجر الأساس لبناء كنيسة القدّيس جاورجيوس في »ريدفيرن«، وأصبح الأب نقولا (شحادة) كاهنًا عليها ومعتمدًا بطريركيًّا.
خلف ميخائيل، الابن الثاني للأب نقولا، أباه في كنيسة القدّيس جاورجيوس. بعد ذلك توالى عدد من الكهنة على خدمة هذه الرعيّة بين 1953 و1969، يذكر منهم: الأب ملاتيوس (حصني)، الأرشمندريت أنطوني (وولف)، الأب أنطوني (شدياق)، الأب إميل (شحادة) والأب نقولا (منصور). وفي السنة 1969 أرسلت البطريركيّة الأرشمندريت جبران (رملاويّ)، حيث رسم في السنة ذاتها على يد المتروبوليت فيليبّس (صليبا)، وعيّن معتمدًا بطريركيًّا. وفي السنة 1973، أذن الأسقف (رملاويّ) ببناء كنيسة أخرى في سيدني على اسم القدّيس نيقولاوس. انتقل الأسقف (رملاويّ) إلى جوار ربّه في 16 كانون الثاني 1999. وفي أيلول من السنة عينها، رُفّعت المعتمديّة إلى أبرشيّة حيث جلس على كرسيّها المطران بولس (صليبا) في 29 تشرين الثاني 1999 .
في ملبورن: أرسل المثلّث الرحمة البطريرك أرسانيوس (حداد) الأرشمندريت أنطونيوس (مبيّض) أوّل كاهن أنطاكيّ. وفي أوّل تشرين الثاني 1933 كرّس المتروبوليت اليونانيّ في أوستراليا تيموثاوس، كنيسة القدّيس نيقولاوس، حيث ضمّت العرب والروس، وبقيت هذه الكنيسة مقفلة من 1943 إلى 1948 بسبب وفاة الأب أنطونيوس خادم الرعيّة. وفي كانون الثاني 1948، وصل الأب جورج (حيدر) وعائلته إلى ملبورن، ضمن الموجة الثانية من المهاجرين، وخدم الرعيّة حتّى 1962.
في السنة 1963، أرسل المثلّث الرحمة البطريرك ثيوذوسيوس السادس الأب جبرائيل (فاضل) الذي خدم الرعيّة لغاية 1967. ثمّ توالى على خدمتها كلّ من الأباء: ملاتيوس (حصني ١٩٦٨- ١٩٧٧) ، الأب إميل (عسّاف ١٩٧٧-١٩٩٠) ، الأب ديمتري (بارودي) منذ 1990 ولغاية تاريخه.
أمّا في نيوزيلندا، فقد بنيت كنيسة القدّيس ميخائيل السنة 1911 في »دندين«، حيث كانت الرعيّة مؤلّفة من خمس عشرة عائلة لبنانيّة وسوريّة، بناء لكتاب أرسله السيّد أنطوني إيدور إلى البطريرك غريغوريوس الرابع، عبر مطران طرابلس، ونال بركته لبنائها. خدم هذه الرعيّة الأرشمندريت الروسيّ نيقولا (مانوفيتش)، الذي رسم في كندا كاهنًا أنطاكيًّا. فكانت تقام الصلوات فيها بانتظام حتّى العام 1913، حيث تركها الأرشمندريت إلى سيدني.
توسّّع نطاق المعتمديّة، فالأبرشيّة تاليًا، نحو نيوزيلندا والفيليبّين، إذ نشأت رعايا أرثوذكسيّة جديدة، وبنيت الكنائس، ورسم كهنة وشمامسة، يخدمونها ضمن رعاية الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة.
في هذه الأبرشيّة اليوم أكثر من عشرين كنيسة وإرساليّة، وقد انضمّت إليها في الفيليبّين عشرون كنيسة كاثوليكيّة واثنتا عشرة كنيسة إنجيليّة.
أبرشيّة نيويورك وسائر أميركا الشماليّة
لا تتغيّر الأسباب والدوافع في نشوء أبرشيّة نيويورك وسائر أميركا الشماليّة، من حيث الهجرة والتجمّع الاغترابيّ، ونشوء مجتمعات مشرقية في معظم أنحاء الولايات المتّحدة وكندا. كما أنّه كان للمهاجرين الروس والسلاف واليونان السبق في إنشاء تجمّعات دينيّة أرثوذكسيّة صرف. أمّا الأرثوذكس المشرقيّون، فقد اجتمعوا مع الكاثوليك والموارنة من جهة المواطنة المشرقيّة، ومع الروس واليونان والسلاف من جهة الأرثوذكسيّة.
كانت التسمية الأولى للمجموعة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة هناك »الإرساليّة السوريّة العربيّة«، حيث التقت بجماعات تتبع الكنيسة الروسيّة الأرثوذكسيّة، التي وصلت إلى أميركا نحو السنة 1794. وفي العام 1895، نشأت »الجمعيّة الخيريّة الأرثوذكسيّة« من قبل المهاجرين الأنطاكيّين في مدينة نيويورك، مع إبراهيم عربيلي، الطبيب الدمشقيّ الشهير، الذي كان أوّل رئيس لها.
وتحسّسًا لحاجات أبناء بلده وإخوته في الدين، كتب الدكتور عربيلي إلى الدمشقيّ الشابّ روفائيل (هواوينيّ)، الذي كان أستاذ اللغة العربيّة في الأكاديميّة اللاهوتيّة الأرثوذكسيّة في قازان - روسيا، يدعوه فيها إلى زيارة نيويورك لينظّم الرعيّة الناطقة باللغة العربيّة في القارّة الجديدة.
انتقل الأب هواوينيّ إلى العاصمة الأمبراطوريّة سان بطرسبورج(٢) للقاء سيادة المطران نيقولا، رئيس الإرساليّة الروسيّة لجزر »أليوشين(٣) وشمال أميركا«. وبعد الحصول على إذن المطران نيقولا، انتقل الأب (هواوينيّ) إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة ووصل إليها في 17 تشرين الثاني 1895.
أنشأ الأرشمندريت (هواوينيّ) رعيّة في نيويورك، حيث كان أكبر تجمّع للمهاجرين السوريّين(٤). وفي السنة 1900 انتقل نحو 3000 مهاجر إلى الضفّة الثانية من نهر الـهدسون، إلى بروكلين. وسنة 1902 اشترت الرعيّة أكبر كنيسة في تلك الأنحاء، وأطلقت عليها اسم القدّيس نيقولاوس، وكُرّست لتصبح مركزًا دينيًّا أرثوذكسيًّا زمن رئاسة كهنوت المتروبوليت الروسيّ تيخون. واليوم، تعتبر كنيسة القدّيس نيقولاوس »الرعيّة الأمّ« للأبرشيّة.
وبناء على طلب المتروبوليت تيخون، انتخب الأب (هواوينيّ) وكيلاً أسقفيًّا على رأس »الإرساليّة السوريّة العربيّة«. وفي 12 آذار 1904، رُسِم مطرانًا على بروكلين في كنيسة القدّيس نيقولاوس، وأصبح المطران روفائيل (هواوينيّ) أوّل مطران أرثوذكسيّ عربيّ في أميركا الشماليّة.
جال المطرن روفائيل (هواوينيّ) الولايات المتّحدة الأميركية وكندا، وذهب بعيدًا في المكسيك يلمّ شمل المهاجرين ويجمعهم في رعايا وتجمّعات. أنشأ مجلّة »الكلمة The Word« السنة 1905، وطبع العديد من الكتب الدينيّة العربيّة لاستعمالها في الخدمة الليتورجيّة، في الشرق الأوسط وأميركا وكلّ بلاد الاغتراب. وفي 27 شباط 1915 رقد المطران روفائيل بالربّ، عن عمر يناهز الرابعة والخمسين. وفي السنة 2000 ، طوّبته الكنيسة الروسيّة قدّيسًا، ويعيّد له في السبت الأوّل من شهر تشرين الثاني.
وفي العام 1914 وقعت الحرب العالميّة الأولى، وبعد رقاد المطران روفائيل (هواوينيّ) قامت الثورة البولشفيّة في روسيا. ونتيجة ذلك حصلت خلافات ومشاحنات في معظم رعايا الأرثوذكس في أميركا، ومن بينها الرعيّة الأنطاكيّة. انقسمت هذه الرعيّة إلى قسمين، منها من أراد أن يكون تحت الرئاسة الروسيّة، وقسم آخر أراد الانضمام إلى الكنيسة الأنطاكيّة.
برز في تلك الفترة بعض الأساقفة، منهم: المتروبوليت جرمانوس (شحادة)، المطران أفتيموس (عفيش)، والمطران فيكتور (أبو عسلي)، والمطران عمّانوئيل (أبو حطب). وفي السنة 1936، انقسمت هذه الرعايا إلى أبرشيّتين أنطاكيّتين: أبرشيّة نيويورك برئاسة المطران أنطونيوس (بشير)، وأبرشيّة توليدو أوهايو وتوابعها، برئاسة المتروبوليت صموئيل (داود). وفي الرابع والعشرين من حزيران 1975، اجتمع المتروبوليت فيليبّس (صليبا) راعي أبرشية نيويورك وسائر أميركا الشماليّة، والمتروبوليت ميخائيل (شاهين) راعي أبرشية توليدو - أوهايو وتوابعها، ووقّعا وثيقة تعيد الوحدة إلى الأبرشيّة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة في الولايات المتّحدة وكندا. عرضت هذه الوثيقة على المجمع المقدّس في 19 آب 1975 ونالت موافقته، وتعترف بالمتروبوليت فيليبّس (صليبا) راعيًا لهذه الأبرشيّة، والمتروبوليت ميخائيل (شاهين) معاونًا له. وفي 24 تشرين الأوّل 1992، رقد بالربّ المتروبوليت ميخائيل (شاهين). وبعد ذلك التاريخ تطوّرت أبرشيّة نيويورك وسائر أميركا الشماليّة برعاية المتروبوليت فيليبس، لتصبح إلى ما وصلت إليه في وقتنا الحاضر. ويبلغ عدد الكنائس والرعايا نحو 276، يخدمها أكثر من خمسمئة كاهن وتُقسم إلى تسع أبرشيّات.
الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة
في البرازيل
يقول المؤرّخ »يعقوب عودة«، في كتابه »العرب في أميركا الجنوبيّة«: »هاجر العرب إلى البرازيل سعيًا وراء حياة فضلى. لكن بالحقيقة، فإنّ قدوم المهاجرين السوريّين واللبنانيّين إلى البرازيل كان بسبب الاضطهاد العثمانيّ الذي ألمّ بهم وبخاصّة السنة 1860، سنة النكبات والمآسي«.
حمل المهاجرون الأرثوذكس معتقداتهم وإرثهم الروحيّ والثقافيّ، وتعلّقهم بأرثوذكسيّتهم. وفي كتاب »تاريخ الهجرة في البرازيل العائلات«، هناك وصف حقيقيّ للواقع المهجريّ في تاريخ الأرثوذكس. »أثناء الحراك الروحيّ الذي حصل في ساوباولو، وخلال كانون الثاني 1897، كان الأب موسى (أبي حيدر) يقيم الخدمة في غرفة معدّة لذلك، كائنة في شارع »آذار«، حيث كانت الانطلاقة العمليّة في أميركا الجنوبيّة، وسرعان ما بدأ الأرثوذكس يبنون الكنائس على نفقتهم الخاصّة، وكانت تعتبر النواة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة في الشتات البرازيليّ«. اتّخذ قرار مجمعيّ في السنة 1922 بتكليف المطران ميخائيل (شحادة) برئاسة الكهنوت هناك، حيث خدم سنوات عدّة في الأبرشيّة ورقد بالربّ في تمّوز 1931 .
بنيت أوّل كنيسة في ساوباولو السنة 1904 زمن الأرشمندريت سيلفستروس (الصغير)، على اسم والدة الإله، على شارع »الشوفاليه« باسيليوس يافت(٥). بنى المعلّم ميخائيل أسعد الكنيسة، وكان الافتتاح برئاسة الأب نقولا (صفدي). نقل الجرس الأوّل كذخيرة إلى الكاتدرائيّة الجديدة حيث هو معروض اليوم. وضع هذا الجرس على يسار المدخل، حيث أيقونة »عرس قانا«. كتب على جانب منه: هذه الكنيسة مكرّسة للروم الأرثوذكس. بنيت على نفقة أهل الرعيّة في ساوباولو من المغتربين السوريّين واللبنانيّين السنة 1904. وكتب على الجانب الآخر »الصليب Sydow Brother ساوباولو«.
قاد المتروبوليت إغناطيوس (حريكة)، مطران حماة في سورية لاحقًا، المؤسّّسات الخاصّة التابعة للأرثوذكس في البرازيل بنجاح، كي تصل إلى مرتبة الأبرشيّة. وقام المطران أيضا خلال وجوده في الأبرشيّة بأعمال كبيرة لتحقيق تطلّعات أبناء الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة، وشجّع أبناء الجالية على بناء الكنائس، وأهمّها كاتدرائيّة القدّيس بولس، حيث ضمّت جمعيّات للسيّدات الأرثوذكس، ومعهدًا تابعًا للأبرشيّة.
السنة 1958 وصل الأرشمندريت إسحق (عبّود) زمن المطران إغناطيوس (فرزلي)، ليحمل معه أعباء متابعة العمل الجادّ في الأبرشيّة. بقي المطران (فرزلي) في سدّة الكهنوت لحين وفاته في آب 1997، وانتخب مكانه المتروبوليت دمسكينوس (منصور) .
تجدر الإشارة هنا، إلى أنّه توجد معتمديّة بطريركيّة في الريو دي جانيرو، تتبع البطريرك مباشرة، ومسؤولة عن الأرثوذكس الذين يعيشون في تلك المنطقة. في البرازيل اليوم نحو خمس عشرة كنيسة وإرساليّة.
الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة العربيّة
في تشيلي
لا يختلف واقع الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة العربيّة في تشيلي عن سواه من الأبرشيّات الأرثوذكسيّة التي نشأت منذ منتصف القرن التاسع عشر. كان وصول أوّل المهاجرين إلى هذه البلاد السنة 1854، وفي السنة 1892 نشأت تجمّعات اغترابيّة قادمة من فلسطين وسورية والأردنّ وجبل لبنان. في السنة 1910 قدم إلى تشيلي أوّل كاهن عربيّ من سورية اسمه بولس (خوري)، والسنة 1914 زار مطران صيدا وصور إلياس (ديب) البلاد موفدًا من قبل البطريرك غريغوريوس الرابع. قام المطران بجولة في البرازيل والأرجنتين وتشيلي. ومن السنة 1916 ترأّس المطران (ديب) على كرسيّ الأبرشيّة ورسم أوّل كاهن محلّيّ هو الأب سليمان (خوري) من بيت جالا - فلسطين. وبدأت سلسلة تدشين الكنائس منذ العام 1917، وقدوم عدد من الكهنة الفلسطينيّين من بيت جالا تحديدًا.
بعد السنة 1948، بدأت زيارات الأساقفة إلى رعايا أميركا الجنوبيّة مع المطران نيفن (سابا) مطران زحلة، وبعدها المطران ألكسندرس (جحا). وفي السنة 1959 قدم إلى تشيلي المطران ميخائيل (جلّوف) من سورية كمعتمد بطريركيّ في تلك البلاد. وبين 1963 و1965 كان المطـران ملاتيـوس (صويتي) مطران الأرجنتين مسؤولاً عن رعايا التشيلي، حيث دشّن السنة 1964 كنيسة على اسم والدة الإله في Vina del Mar وخلال سبعينيّات القرن الماضي دمجت بعض الرعايا ودشّنت كنائس جديدة.
بعد السنة 1984 قام وفد من مطارنة الكرسيّ الأنطاكيّ مؤلّف من السادة أنطونيوس (المكسيك)، وإسبيريدون (زحلة)، وكيرللس (ضومات) الأرجنتين، وإلياس (نجم) رئيس دير النبيّ إلياس البطريركيّ بزيارة إلى الأبرشيّة لتسليم عصا الرعاية للمطران سرجيوس (عبد). وفي السنة 1992 انتخب المطران سرجيوس متروبوليتًا على أبرشيّة التشيلي.
يقود المطران سرجيوس نشاطًا رعائيًّا كبيرًا في الأبرشيّة، منظّمًا أمور المهاجرين الذين أتوا إلى التشيلي، وأصبح لهم دور كبير في البلاد. في التشيلي اليوم ثماني كنائس ناشطة.
الأبرشيّة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة
في الأرجنتين
لم تكن أبرشيّة الأرجنتين أقل شهرة من سائر الأبرشيّات في أميركا الجنوبيّة، منذ أن نشأت التجمّعات الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة في بلاد الاغتراب. فكان أبناء الأبرشيّة يمارسون نشاطاتهم الروحيّة والدينيّة كسائر الأرثوذكس. ولاهتمام الكرسيّ البطريركيّ بشؤون أبنائه هناك، قام بإرسال كهنة يخدمون المؤمنين في ممارسة معتقداتهم، وتتوّجت بوصول راع للأبرشيّة ينظّم شؤونها.
كانت أبرشيّة الأرجنتين على أهمّيّة كبيرة في استقبال المهاجرين الأنطاكيّين، من أبناء سورية ولبنان وفلسطين على السواء. كما تمتّعت بالقيمة المعنويّة التي كانت لأبرشيّة البرازيل. وكلّما زاد عدد المهاجرين الوافدين إلى تلك البلاد، كانت الأمور الدينيّة والروحيّة تزدهر، بتأليف جمعيّات خيريّة وتدشين كنائس في معظم المناطق التي وُجد فيها مهاجرون أنطاكيّون أرثوذكس. في أبرشيّة الأرجنتين العمل الرعائيّ ناشط جدًّا بفضل جهود سيادة المطران سلوان (موسي)، وهناك نحو عشرون كنيسة. وقد ترجم بعض الكتب الليتورجيّة إلى اللغة الإسبانيّة لتكون في متناول المؤمنين.
الأبرشيّة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة
في المكسيك
تسلّم الأسقف أنطونيو (شدراوي) المعتمديّة في المكسيك العام 1966. الوضع العامّ هناك كان سيّئًا، وأملاك الكنيسة كلّها باسم جمعيّة التعاون الأرثوذكسيّ لصفتها العلمانيّة. فدستور الدولة كان ضدّ الكنيسة وأيّ شيء باسم الكنيسة كان عرضة للمصادرة. ولكن منذ العام 1991، وبعد أن أعلن رئيس البلاد الانفتاح على الكنائس وعدّل الدستور، أعطى الكنيسة شخصيّتها القانونيّة واعترفـت الدولة بالكنيـسة الأرثـوذكـسيّة الأنطـاكيّة وجعـلتهـا فـي المرتبـة الثانيـة، وذلـك بفضل العلاقات الوثيقة بين السلطات المكسيكيّة وسيادة الأسقف أنطونيو. وهكذا انتقلت كلّ الأملاك إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة.
وفي 12 حزيران 1996 تحوّلت المعتمدية إلى أبرشيّة بقرار من المجمع الأنطاكيّ المقدّس الذي عقد في دير النبيّ إلياس شويّا وأصبح الأسقف متروبوليتًا.
وفي العام 1985 على أثر الزلزال الذي ضرب مدينة مكسيكو شيّدت مطرانيّة جديدة بمساعدة سيادة المطران فيليبّس (صليبا) والجمعيّات الأرثوذكسيّة الموجودة في المدينة.
في العام 1992 باشر سيادة المطران بإنشاء إرساليّة جديدة في مدينة ماريدا (المكسيك)، وقد تمّ بناء كنيسة على قطعة أرض مساحتها أربعة آلاف متر.
في فنزويلاّ الرعيّة كانت مشرذمة، وفي العام 1975 تمكّن سيادته من شراء منزل للكاهن. وبعد ثلاث سنوات قامت الكنيسة بجانب البيت، وهي تحمل اسم القدّيس أنطونيوس الكبير، ودشنت العام 1978.
عدد المؤمنين في هذه الأبرشيّة يبلغ ما يقارب سبعين ألف نسمة، وهم منتشرون بين المكسيك بعاصمتها وسائر أنحاء الجمهوريّة، مع أميركا الوسطى (هندوراس، غواتيمالا، وبورتوريكو)، وفنزويلاّ وجزر الكاريبي. وليس بالإمكان إحصاء كلّ العائلات الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة بسبب اتّساع رقعة الأبرشيّة.l
المراجع
- مختصر تاريخ أبرشيّة أوستراليا ونيوزيلندا (معهد الدراسات والتوثيق الأنطاكيّ _ جامعة البلمند).
- مختصر تاريخ الأبرشيّة الأنطاكيّة المسيحيّة الأرثوذكسيّة في أميركا الشماليّة.
- مختصر تاريخ أبرشيّة البرازيل.
- مختصر تاريخ أبرشيّة التشيلي.
- السفر المفيد في العالم الجديد، لمؤلّفه الدكتور طانيوس عبده (البسكنتاويّ).
- العرب في أميركا الجنوبيّة، يعقوب عودة.