المطران قسطنطين باباستيفانو
وجه المحبّة
الأرشمندريت يوخنّا التلّي
كمالُ الحديث عن أشخاص هو عندما تطال سيرة أحدهم مسيرة الكنيسة، والكنيسة يُفهم بُعدها المقدّس عندما يتجسّد الكلام الذاتيّ ليرتقي إلى دور كنسيّ، فيه تحلّ النعمة لتمسّ قداستها عمل هذا الإنسان وشخصه.
وكما قذف اللَّه (يونان) من بطن الحوت إلى الشاطئ بسلام ليُكمل رسالته الموكلة إليه، أيضًا قذف إلى مدينة دمشق مولودًا من مواليد دمشق لأسرة من مخلّفات الدولة البيزنطيّة قادمة من أزمير في تركيا، في العقد الثاني من القرن العشرين، لاضطهاد عرقيّ ومذهبيّ آنذاك. فكان هذا الآتي هو الابن الثالث من أصل خمسة إخوة لهذه العائلة التي بدأت تتعلّم العربيّة إضافة إلى يونانيّتها، وتمّت ولادته في دمشق في 29/12/1924.
ترعرع هذا الابن الذي كان اسمه في الدنيا كوستا تصغيرًا لقسطنطين، وتعلّم في مدرسة الجالية اليونانيّة مرحلته الابتدائيّة، ثمّ تابع المرحلتين الإعداديّة والثانويّة في مدرسة الآباء العازريّين.
عمل مساعدًا لأخيه الأكبر في محلّ تجاريّ بعضًا من الوقت، ثمّ عمل موظّفًا في مطار دمشق آنذاك. تحلّى والداه بأخلاق محافظة مقرونة مع إيمان كنسيّ وصدق ودماثة أخلاق. وانتمى كوستا إلى أنشطة الكنيسة وصلواتها، فتعلّم الترتيل إلى جانب المرتّل الكبير (بروتوبسالتي) الكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس إيليّا سيمونيذس. أمّا أنشطته، فكانت تتمّ في النادي اليونانيّ بدمشق واسمه نادي أبّولون. ورغم تعدّد أنواع الأنشطة فيه كانت حفلات العزف الموسيقيّ، وحفلات الرقص التي تجمع أعضاء الجالية وأصدقاءهم ناشطة وأحد ألمع شبّانها كوستا.
وفي ذات ليلة من ليالي نادي أبّولون، جلس المدعوّ كوستا على الكرسيّ وراء البيانو، بعد تعب الرقص الذي كان يجيده بأناقة ورشاقة مميّزة. تابع دوره كعازف على البيانو، ولكنّ فكره كان منسجمًا مع معزوفة الخلود التي انتابته في تلك الليلة. كان شابًّا في النصف الثاني من العقد الثاني، في ريعان إطلالته الشبابيّة، وكان الحضور يموج مع الموسيقى كأناس معاصرين لزمانهم يرقصون ويمرحون، وكانت العيون متّجهة إليه، في ذروة هذا المزيج ومع حركات مفاتيح البيانو حدث ما ليس بالحسبان.
واحد فقط تحرّكت لديه أنوار آتية من خارج النادي، كشهب متناغمة ومضاءة بنور الروح، تشابه ذلك النور القويّ الذي داهم شاول ليصير بولس المدعوّ بلسان الربّ، وهنا تفجّر المكان المتألّق بضياء الدنيا وأهلها ليُرى كوستا بشخص قسطنطين ملبّيًا الصوت، لا الآتي من البيانو بل الآتي من السماء على أنّه نور من السماء يستدعيه. وللحال ومن دون تردّد ترك كوستا مكانه متّجهًا مثل ذاك الذي اتّجه إلى بيت حنانيا، أمّا هو فاتّجه إلى بيته، وكلا البيتين كانا في دمشق. فاستقبلته أمّه النقيّة المؤمنة بشيء من الخوف لئلاّ يكون أصابه مكروه لعودته الباكرة. وسقط الغشاء لا من عينيه مثل بولس، بل عبر كلمات ذهبيّة من فمه أعلنها لوالديه بقوله: »آن أوان التزامي في الكنيسة وتكريس حياتي لها، فهي عرسي وعريسي«. فشكر والداه الربّ يسوع، وباركا لابنهما رغبته وقراره، وكان ذلك في مطلع 1948. ومن ثمّ أعلن للبطريرك ألكسندروس (طحّان) أنّه ابنٌ للطاعة وعبدٌ للمسيح، وقدّم استقالته كموظف في مطار دمشق.
احتضنه البطريرك ألكسندروس وسامه أيبوذياكونًا ثمّ شرطنه شمّاسًًا إنجيليًّا بتاريخ 1/8/1948 وعيّنه في الكاتدرائيّة المريميّة بدمشق. وبقي أكثر من عام يخدم في الدار البطريركيّة بدمشق وبخاصّة كمرتّل في الكنائس. كان خلالها يعمل بجدّ ونشاط في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة مع متابعي العمل، بعد الدور الذي بدأه بعض المؤسّّسين بتقطّع مثل المطران جورج (خضر) والأستاذ جبرائيل سعادة والأستاذ ألبير لحّام وشقيقه الدكتور إدوار لحّام، وأخصّ بالذكر الدمشقيّ الدكتور فؤاد أيّوب، ومن ثمّ لسنوات لاحقة مع عدد من أبناء دمشق، أمثال الدكتور جوزيف كسّاب وأخيه جان كسّاب، وديمتري هواوينيّ وسهيل مالك وجورج نشواتي وإلياس زيّات.
كان العمل هبّة روحيّة لا مقرّ لها سوى غرفة للقندلفت في المريميّة وباقي الاجتماعات في البيوت.
هذا الإرث الحركيّ الذي انخرط فيه المطران إلياس (قربان) وقسطنطين باباستيفانو بدمشق مقرونًا بدورهما الإكليريكيّ، الذي كان سندًا لهذه النهضة والدور الترتيليّ الذي كان أداة النشاط الكنسيّ، وكان لمرتّلها الأوّل الأستاذ إيليّا الرومي الدور الكبير.
ومع بدء العام الدراسيّ السنة 1949 أرسله البطريرك ألكسندروس إلى مدرسة البلمند الإكليريكيّة ليدرِّس اللغة اليونانيّة والموسيقى فيها، فنال محبّة الإدارة والطلاّب وتقديرهم. وعند الضيق المادّيّ للمدرسة وقف مع الأب إستفانوس (حدّاد)، بعد فشل المعالجة، وقفة احتجاج، وتعاون معهم الأستاذ سعيد بولس أحد العاملين بالنهضة الروحيّة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة فغضب البطريرك عليه، ولكن بعد شهور عدّة أعاد له البركة، وأعاده من منفاه في دير مار إلياس شويّا، عائدًا إلى دمشق ليبدأ من جديد نشاطه في حقل الحركة.
سيم كاهنًا بتاريخ 4/3/1951، وعُيّن مع عمله الإكليريكيّ كاهنًا في دمشق وموفدًا بين حين وآخر إلى كنائس ريف دمشق. ثمّ أصبح مديرًا للمدرسة الإكليريكيّة في البلمند. وفي مطلع العام الدراسيّ 1954 ذهب إلى أثينا لدراسة اللاهوت وعاد منها متخرّجًا العام 1958 ليعمل في مكتب البطريرك ثيوذوسيوس.
الآن صار المطران قسطنطين حاملاً وديعة غنيّة: المعرفة اللاهوتيّة، والأهمّ أفكارًا نهضويّة مرتكزة على الكنيسة واصطحبها معه من اليونان، مقرونة بمعرفته السابقة وأهمّ ما فيها شخصيّة البطريرك المسكونيّ أثيناغوراس، والأستاذ الدكتور ترامبيلاس ومنظّمة الزويي، التي أُعجب ليس فقط بقواها الروحيّة، بل أيضًا بدقّة تنظيمها، فكلّ ما تعمله حسب قوله بـ»لياقة وحسن ترتيب«. وكان أيضًا ينوس بين نقطتين: الإنجيل والتقليد، يسوع والآباء، الليتورجيا والحياة في المسيح. أمّا السلوك فكان شاملاً يبدأ بالمسيح ويمرّ بالقدّيسين وعلى كلّ إنسان أن يقلّده حسب مقولة بولس الرسول: »اقتدوا بي كما أنا بالربّ«، فاستيقظت في داخله أسس النهضة التي شكّلت حافزًا على النشاط الروحيّ وعلى الاهتمام بأعضاء الكنيسة في كلّ أعمارها وبخاصّة الشباب والأولاد. وكان نشاط الحركة قد توقّف لأسباب عديدة وما بقي مَن يهتم بالعمل الحركيّ، فأعاد نشاطه بدءًا من العام 1959، وعمل جادًّا مع الشبيبة الدمشقيّة التي كان ينتمي إليها، مؤسّّسًا جوقة بأعداد كبيرة جعلها قوّة امتداد لريف دمشق فنظّم زيارات ليتورجيّة في أكثر من اثنتي عشرة قريّة تخدمها هذه الجوقة بأقسامها التي يقودها هو والشمّاس إلياس (قربان)، بشكل منظّم ومتقطّع، ويرافق كلاًّ منهما الشمّاس ملاتيوس (صويتي) وأيضًا الشمّاس إيليّا (صليبا). وتابعت السيّدة فريدة نشواتي إحدى تلميذات المطران قسطنطين، تأسيس جوقة في الثمانينات من القرن المنصرم والخدمة عبرها، وبقيت لسنوات طويلة. كما تأسّّست جوقات عدّة أهمّها جوقة مدراس الأحد بمركز دمشق.
وأيضًا ازدادت الرحلات وكثر النشاط وصارت مشاركات في اجتماعات الأمانة العامّة والتعرّف إلى النهضويّين في لبنان. ولم ينسَ اليوم عدد من المشاركين يومها تلك الرحلة التي تمّ خلالها زيارة آل بندلي في طرابلس والتعرّف إلى الأستاذ كوستي، وأستاذ الفيزياء المطران بولس (بندلي) قبل ارتدائه الثوب الكهنوتيّ، وكانت تضمّ ثلاثة شمامسة صاروا مطارنة في ما بعد، هم السادة إلياس (قربان) وقسطنطين وإيليّا (صليبا).
رغم انتقال المطران قسطنطين إلى رئاسة دير القدّيس جاورجيوس الحميراء، إلاّ أنّه بقي رئيسًا لمركز دمشق الذي خلال فترة قصيرة أعاد نشاطه باستئجار بيت في دمشق، شارع حلب ليكون هو المركز. وفي تلك الفترة تنظّم ليصير له مجلس مركز ومجلس إرشاد تعمل خلاله أُسر الطفولة والاستعداديّين والثانويّين والجامعيّين والعاملين...
وتشكّلت حينها دعوات كهنوتيّة أذكرها حسب التسلسل الزمنيّ: - الأب أثناسيوس (بيطار) والأسقف المثلّث الرحمة ديمتري (حصني) والأرشمندريت يوحنّا (التلّيّ) والأب جورج (عطيّة) والأب فايز (منصور). ثمّ تبعهم كُثر.
ثمّ في العام 1969 انتخب بتاريخ 7-10 مطرانًا على بغداد والكويت، ووسّّع الأبرشيّة في الخليج لتضمّ رعايا جديدة في: دبي وأبوظبي والبحرين وعُمان والمنامة ومسقط وقطر وغيرها.
الحديث عنه كمطران للكويت وبغداد وللتوسّع الذي أحدثه، يحتاج إلى موضوع خاصّ نتناول فيه حياته ونشاطه وفكره وعمله خلال هذه الفترة.
بقي أن نقول إنّ المطران قسطنطين أحدث نهضة حقيقيّة في دمشق وريفها واسمه لا زال ألمعيًّا بالروح حتّى اليوم. وما زلتُ أذكر وجهه وفكاهة حديثه ووداعته، فهو إنسان الطيبة والتقوى، ولا يستطيع الإنسان عند تعرّفه إليه إلاّ أن يحبّه، وأن تستمرّ هذه المحبّة في حياته طالما أنّه حيّ. بخاصّة بعد وفاته استيقظ الحديث عن اسمه لأنّ العائلات التي تشكّلت لدى مشاركتها باجتماعاته لا زالت تحمل ليس فقط الذكريات الطيّبة التي عاشوها معه، والأهمّ أيضًا هو مواظبتهم على حضور الصلوات وبخاصّة القدّاس الإلهيّ الذي كان في أيّامه هو البرهان على صحّة الالتزام الحركيّ.
إنّه وجه الأخلاق والتهذيب، كما أنّه وجه الابتسامة لوجه لم يجرح لسانه المحمول في وجهه إنسانًا ما، لذا المحبّة الفيّاضة هي الباقية من هذه الذكرى الطيّبة. كان يتحسّس آلام العائلات وأفراحها ويتحلّى باسم جذّاب. وبكونه محبوبًا كانت علاقته مع الشبيبة التي تعمل تحت جناحيه في ذلك الحين كأخ لأخوته.
وهناك حدث مقرون باسمه وهو أنّ الأب حبيب (خشّة) الدمشقيّ والمعروف بقداسته، ولا زال المجتمع، الذي تناول القدسات على يديه، ينتظر بصلاة أن يسمع إعلانًا من المجمع المقدّس بقداسته، كان قد توفّي في بورسعيد العام 1948 وأوصى بمكتبته بأن تُقدّم إلى مكتبة حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وسُلّمت إلى المطران قسطنطين سنة رسامته كاهنًا، وأُودعت مكتبة الحركة ولا زال محبّو الأب حبيب (خشّة) متمنّين أن تسمّى هذه المكتبة باسمه ولم يكن المطران قسطنطين ممانعًا ذلك. إنّما أحداث الحركة والتقلّبات التي حصلت لها واقترنت بتغيير اسمها في سورية من حركة شبيبة إلى اسم مدارس أحد، ومن ثمّ سفر المطران قسطنطين جعل تنفيذ التسمية في عالم النسيان.
وأتابع مع المطران قسطنطين الذي كنا نقلّد لغته العربيّة المقرونة بلكنة يونانيّة ونضحك بحبّ لشخصه الذي بسبب محبّتنا له كنّا نكتسب تقليد شخصيّته المحبّبة لنا كشبيبة تلتفّ حوله. أمّا الناحية الأهمّ، وهي تلك التي كان يفقد فيها هدوءه، فكانت درسًًا ومدرسة لنا. فتحكّمه في هدوئه مقرونًا بضرورة ضبط النفس للتمسّك بهذا التحكّم الذي كان يخرج منه عندما يكون في الحديث مساس بالعقيدة، أو بالفهم الإيمانيّ الخاطئ لتعاليم السيّد المسيح حتّى السلوكيّة منها، أو عند الإحساس بأيّة شائبة تتعلّق بحياتنا في الكنيسة، حينها كان »يُخرج السوط«. بمعنى أدقّ هو إنسان لا يُسمع صوته إلاّ في الملمات والقضايا الحرجة. وما عدا ذلك فالصمت رفيقه.
لم نسمعه يومًا يتحدّث عن آخر بالسوء، كان يناشدنا بالتستر على الآخرين. وعند انتقاله بقي (ستر القرابين) هو غطاء وجهه. لقد ستره اللَّه بستر القداسة كمتناول دائم للقرابين المقدّسة التي كانت محطّ أنظاره، ومركز بشارته عبر حياته التي عاشها خلال تسعة عقود ونيّف.l
المطران قسطنطين باباستيفانو
وجه المحبّة
الأرشمندريت يوخنّا التلّي
كمالُ الحديث عن أشخاص هو عندما تطال سيرة أحدهم مسيرة الكنيسة، والكنيسة يُفهم بُعدها المقدّس عندما يتجسّد الكلام الذاتيّ ليرتقي إلى دور كنسيّ، فيه تحلّ النعمة لتمسّ قداستها عمل هذا الإنسان وشخصه.
وكما قذف اللَّه (يونان) من بطن الحوت إلى الشاطئ بسلام ليُكمل رسالته الموكلة إليه، أيضًا قذف إلى مدينة دمشق مولودًا من مواليد دمشق لأسرة من مخلّفات الدولة البيزنطيّة قادمة من أزمير في تركيا، في العقد الثاني من القرن العشرين، لاضطهاد عرقيّ ومذهبيّ آنذاك. فكان هذا الآتي هو الابن الثالث من أصل خمسة إخوة لهذه العائلة التي بدأت تتعلّم العربيّة إضافة إلى يونانيّتها، وتمّت ولادته في دمشق في 29/12/1924.
ترعرع هذا الابن الذي كان اسمه في الدنيا كوستا تصغيرًا لقسطنطين، وتعلّم في مدرسة الجالية اليونانيّة مرحلته الابتدائيّة، ثمّ تابع المرحلتين الإعداديّة والثانويّة في مدرسة الآباء العازريّين.
عمل مساعدًا لأخيه الأكبر في محلّ تجاريّ بعضًا من الوقت، ثمّ عمل موظّفًا في مطار دمشق آنذاك. تحلّى والداه بأخلاق محافظة مقرونة مع إيمان كنسيّ وصدق ودماثة أخلاق. وانتمى كوستا إلى أنشطة الكنيسة وصلواتها، فتعلّم الترتيل إلى جانب المرتّل الكبير (بروتوبسالتي) الكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس إيليّا سيمونيذس. أمّا أنشطته، فكانت تتمّ في النادي اليونانيّ بدمشق واسمه نادي أبّولون. ورغم تعدّد أنواع الأنشطة فيه كانت حفلات العزف الموسيقيّ، وحفلات الرقص التي تجمع أعضاء الجالية وأصدقاءهم ناشطة وأحد ألمع شبّانها كوستا.
وفي ذات ليلة من ليالي نادي أبّولون، جلس المدعوّ كوستا على الكرسيّ وراء البيانو، بعد تعب الرقص الذي كان يجيده بأناقة ورشاقة مميّزة. تابع دوره كعازف على البيانو، ولكنّ فكره كان منسجمًا مع معزوفة الخلود التي انتابته في تلك الليلة. كان شابًّا في النصف الثاني من العقد الثاني، في ريعان إطلالته الشبابيّة، وكان الحضور يموج مع الموسيقى كأناس معاصرين لزمانهم يرقصون ويمرحون، وكانت العيون متّجهة إليه، في ذروة هذا المزيج ومع حركات مفاتيح البيانو حدث ما ليس بالحسبان.
واحد فقط تحرّكت لديه أنوار آتية من خارج النادي، كشهب متناغمة ومضاءة بنور الروح، تشابه ذلك النور القويّ الذي داهم شاول ليصير بولس المدعوّ بلسان الربّ، وهنا تفجّر المكان المتألّق بضياء الدنيا وأهلها ليُرى كوستا بشخص قسطنطين ملبّيًا الصوت، لا الآتي من البيانو بل الآتي من السماء على أنّه نور من السماء يستدعيه. وللحال ومن دون تردّد ترك كوستا مكانه متّجهًا مثل ذاك الذي اتّجه إلى بيت حنانيا، أمّا هو فاتّجه إلى بيته، وكلا البيتين كانا في دمشق. فاستقبلته أمّه النقيّة المؤمنة بشيء من الخوف لئلاّ يكون أصابه مكروه لعودته الباكرة. وسقط الغشاء لا من عينيه مثل بولس، بل عبر كلمات ذهبيّة من فمه أعلنها لوالديه بقوله: »آن أوان التزامي في الكنيسة وتكريس حياتي لها، فهي عرسي وعريسي«. فشكر والداه الربّ يسوع، وباركا لابنهما رغبته وقراره، وكان ذلك في مطلع 1948. ومن ثمّ أعلن للبطريرك ألكسندروس (طحّان) أنّه ابنٌ للطاعة وعبدٌ للمسيح، وقدّم استقالته كموظف في مطار دمشق.
احتضنه البطريرك ألكسندروس وسامه أيبوذياكونًا ثمّ شرطنه شمّاسًًا إنجيليًّا بتاريخ 1/8/1948 وعيّنه في الكاتدرائيّة المريميّة بدمشق. وبقي أكثر من عام يخدم في الدار البطريركيّة بدمشق وبخاصّة كمرتّل في الكنائس. كان خلالها يعمل بجدّ ونشاط في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة مع متابعي العمل، بعد الدور الذي بدأه بعض المؤسّّسين بتقطّع مثل المطران جورج (خضر) والأستاذ جبرائيل سعادة والأستاذ ألبير لحّام وشقيقه الدكتور إدوار لحّام، وأخصّ بالذكر الدمشقيّ الدكتور فؤاد أيّوب، ومن ثمّ لسنوات لاحقة مع عدد من أبناء دمشق، أمثال الدكتور جوزيف كسّاب وأخيه جان كسّاب، وديمتري هواوينيّ وسهيل مالك وجورج نشواتي وإلياس زيّات.
كان العمل هبّة روحيّة لا مقرّ لها سوى غرفة للقندلفت في المريميّة وباقي الاجتماعات في البيوت.
هذا الإرث الحركيّ الذي انخرط فيه المطران إلياس (قربان) وقسطنطين باباستيفانو بدمشق مقرونًا بدورهما الإكليريكيّ، الذي كان سندًا لهذه النهضة والدور الترتيليّ الذي كان أداة النشاط الكنسيّ، وكان لمرتّلها الأوّل الأستاذ إيليّا الرومي الدور الكبير.
ومع بدء العام الدراسيّ السنة 1949 أرسله البطريرك ألكسندروس إلى مدرسة البلمند الإكليريكيّة ليدرِّس اللغة اليونانيّة والموسيقى فيها، فنال محبّة الإدارة والطلاّب وتقديرهم. وعند الضيق المادّيّ للمدرسة وقف مع الأب إستفانوس (حدّاد)، بعد فشل المعالجة، وقفة احتجاج، وتعاون معهم الأستاذ سعيد بولس أحد العاملين بالنهضة الروحيّة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة فغضب البطريرك عليه، ولكن بعد شهور عدّة أعاد له البركة، وأعاده من منفاه في دير مار إلياس شويّا، عائدًا إلى دمشق ليبدأ من جديد نشاطه في حقل الحركة.
سيم كاهنًا بتاريخ 4/3/1951، وعُيّن مع عمله الإكليريكيّ كاهنًا في دمشق وموفدًا بين حين وآخر إلى كنائس ريف دمشق. ثمّ أصبح مديرًا للمدرسة الإكليريكيّة في البلمند. وفي مطلع العام الدراسيّ 1954 ذهب إلى أثينا لدراسة اللاهوت وعاد منها متخرّجًا العام 1958 ليعمل في مكتب البطريرك ثيوذوسيوس.
الآن صار المطران قسطنطين حاملاً وديعة غنيّة: المعرفة اللاهوتيّة، والأهمّ أفكارًا نهضويّة مرتكزة على الكنيسة واصطحبها معه من اليونان، مقرونة بمعرفته السابقة وأهمّ ما فيها شخصيّة البطريرك المسكونيّ أثيناغوراس، والأستاذ الدكتور ترامبيلاس ومنظّمة الزويي، التي أُعجب ليس فقط بقواها الروحيّة، بل أيضًا بدقّة تنظيمها، فكلّ ما تعمله حسب قوله بـ»لياقة وحسن ترتيب«. وكان أيضًا ينوس بين نقطتين: الإنجيل والتقليد، يسوع والآباء، الليتورجيا والحياة في المسيح. أمّا السلوك فكان شاملاً يبدأ بالمسيح ويمرّ بالقدّيسين وعلى كلّ إنسان أن يقلّده حسب مقولة بولس الرسول: »اقتدوا بي كما أنا بالربّ«، فاستيقظت في داخله أسس النهضة التي شكّلت حافزًا على النشاط الروحيّ وعلى الاهتمام بأعضاء الكنيسة في كلّ أعمارها وبخاصّة الشباب والأولاد. وكان نشاط الحركة قد توقّف لأسباب عديدة وما بقي مَن يهتم بالعمل الحركيّ، فأعاد نشاطه بدءًا من العام 1959، وعمل جادًّا مع الشبيبة الدمشقيّة التي كان ينتمي إليها، مؤسّّسًا جوقة بأعداد كبيرة جعلها قوّة امتداد لريف دمشق فنظّم زيارات ليتورجيّة في أكثر من اثنتي عشرة قريّة تخدمها هذه الجوقة بأقسامها التي يقودها هو والشمّاس إلياس (قربان)، بشكل منظّم ومتقطّع، ويرافق كلاًّ منهما الشمّاس ملاتيوس (صويتي) وأيضًا الشمّاس إيليّا (صليبا). وتابعت السيّدة فريدة نشواتي إحدى تلميذات المطران قسطنطين، تأسيس جوقة في الثمانينات من القرن المنصرم والخدمة عبرها، وبقيت لسنوات طويلة. كما تأسّّست جوقات عدّة أهمّها جوقة مدراس الأحد بمركز دمشق.
وأيضًا ازدادت الرحلات وكثر النشاط وصارت مشاركات في اجتماعات الأمانة العامّة والتعرّف إلى النهضويّين في لبنان. ولم ينسَ اليوم عدد من المشاركين يومها تلك الرحلة التي تمّ خلالها زيارة آل بندلي في طرابلس والتعرّف إلى الأستاذ كوستي، وأستاذ الفيزياء المطران بولس (بندلي) قبل ارتدائه الثوب الكهنوتيّ، وكانت تضمّ ثلاثة شمامسة صاروا مطارنة في ما بعد، هم السادة إلياس (قربان) وقسطنطين وإيليّا (صليبا).
رغم انتقال المطران قسطنطين إلى رئاسة دير القدّيس جاورجيوس الحميراء، إلاّ أنّه بقي رئيسًا لمركز دمشق الذي خلال فترة قصيرة أعاد نشاطه باستئجار بيت في دمشق، شارع حلب ليكون هو المركز. وفي تلك الفترة تنظّم ليصير له مجلس مركز ومجلس إرشاد تعمل خلاله أُسر الطفولة والاستعداديّين والثانويّين والجامعيّين والعاملين...
وتشكّلت حينها دعوات كهنوتيّة أذكرها حسب التسلسل الزمنيّ: - الأب أثناسيوس (بيطار) والأسقف المثلّث الرحمة ديمتري (حصني) والأرشمندريت يوحنّا (التلّيّ) والأب جورج (عطيّة) والأب فايز (منصور). ثمّ تبعهم كُثر.
ثمّ في العام 1969 انتخب بتاريخ 7-10 مطرانًا على بغداد والكويت، ووسّّع الأبرشيّة في الخليج لتضمّ رعايا جديدة في: دبي وأبوظبي والبحرين وعُمان والمنامة ومسقط وقطر وغيرها.
الحديث عنه كمطران للكويت وبغداد وللتوسّع الذي أحدثه، يحتاج إلى موضوع خاصّ نتناول فيه حياته ونشاطه وفكره وعمله خلال هذه الفترة.
بقي أن نقول إنّ المطران قسطنطين أحدث نهضة حقيقيّة في دمشق وريفها واسمه لا زال ألمعيًّا بالروح حتّى اليوم. وما زلتُ أذكر وجهه وفكاهة حديثه ووداعته، فهو إنسان الطيبة والتقوى، ولا يستطيع الإنسان عند تعرّفه إليه إلاّ أن يحبّه، وأن تستمرّ هذه المحبّة في حياته طالما أنّه حيّ. بخاصّة بعد وفاته استيقظ الحديث عن اسمه لأنّ العائلات التي تشكّلت لدى مشاركتها باجتماعاته لا زالت تحمل ليس فقط الذكريات الطيّبة التي عاشوها معه، والأهمّ أيضًا هو مواظبتهم على حضور الصلوات وبخاصّة القدّاس الإلهيّ الذي كان في أيّامه هو البرهان على صحّة الالتزام الحركيّ.
إنّه وجه الأخلاق والتهذيب، كما أنّه وجه الابتسامة لوجه لم يجرح لسانه المحمول في وجهه إنسانًا ما، لذا المحبّة الفيّاضة هي الباقية من هذه الذكرى الطيّبة. كان يتحسّس آلام العائلات وأفراحها ويتحلّى باسم جذّاب. وبكونه محبوبًا كانت علاقته مع الشبيبة التي تعمل تحت جناحيه في ذلك الحين كأخ لأخوته.
وهناك حدث مقرون باسمه وهو أنّ الأب حبيب (خشّة) الدمشقيّ والمعروف بقداسته، ولا زال المجتمع، الذي تناول القدسات على يديه، ينتظر بصلاة أن يسمع إعلانًا من المجمع المقدّس بقداسته، كان قد توفّي في بورسعيد العام 1948 وأوصى بمكتبته بأن تُقدّم إلى مكتبة حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وسُلّمت إلى المطران قسطنطين سنة رسامته كاهنًا، وأُودعت مكتبة الحركة ولا زال محبّو الأب حبيب (خشّة) متمنّين أن تسمّى هذه المكتبة باسمه ولم يكن المطران قسطنطين ممانعًا ذلك. إنّما أحداث الحركة والتقلّبات التي حصلت لها واقترنت بتغيير اسمها في سورية من حركة شبيبة إلى اسم مدارس أحد، ومن ثمّ سفر المطران قسطنطين جعل تنفيذ التسمية في عالم النسيان.
وأتابع مع المطران قسطنطين الذي كنا نقلّد لغته العربيّة المقرونة بلكنة يونانيّة ونضحك بحبّ لشخصه الذي بسبب محبّتنا له كنّا نكتسب تقليد شخصيّته المحبّبة لنا كشبيبة تلتفّ حوله. أمّا الناحية الأهمّ، وهي تلك التي كان يفقد فيها هدوءه، فكانت درسًًا ومدرسة لنا. فتحكّمه في هدوئه مقرونًا بضرورة ضبط النفس للتمسّك بهذا التحكّم الذي كان يخرج منه عندما يكون في الحديث مساس بالعقيدة، أو بالفهم الإيمانيّ الخاطئ لتعاليم السيّد المسيح حتّى السلوكيّة منها، أو عند الإحساس بأيّة شائبة تتعلّق بحياتنا في الكنيسة، حينها كان »يُخرج السوط«. بمعنى أدقّ هو إنسان لا يُسمع صوته إلاّ في الملمات والقضايا الحرجة. وما عدا ذلك فالصمت رفيقه.
لم نسمعه يومًا يتحدّث عن آخر بالسوء، كان يناشدنا بالتستر على الآخرين. وعند انتقاله بقي (ستر القرابين) هو غطاء وجهه. لقد ستره اللَّه بستر القداسة كمتناول دائم للقرابين المقدّسة التي كانت محطّ أنظاره، ومركز بشارته عبر حياته التي عاشها خلال تسعة عقود ونيّف.l