2016

1- الإفتتاحيّة – بعض من عطر – أسعد إلياس قطّان – العدد السادس سنة 2016

 

بعض من عطر

أسعد قطّان

 

كان بلحيته البيضاء وقامته الهزيلة كمن اقتدّ من أيقونة بيزنطيّة.

هكذا قال عنه الناس حين زار الولايات المتّحدة. أمّا بالنسبة إلينا، فكان الأسقفَ الشيخَ الذي قرّر أن يغادر أبرشيّة بغداد ردحًا من الزمن، ليحطّ في معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ في البلمند. حضوره آنذاك على التلّة المباركة كان شيئًا من ضمانة لاستمرار هذا المعهد، وذلك بين العامين 1986 و1988، في حقبة لعلّها من أحلك الحقب التي شهدها معهد اللاهوت وأكثرها خطورة. بلى، لا بدّ للمؤرّخ من أن يميط اللثام يومًا عن تضاعيف هذه المرحلة، التي ما زال يكتنفها الغموض والصمت. أمّا كاتب هذه السطور، فلا يهمّه اليوم أن يكتب تاريخًا، بل أن يرسم وجهًا.

كان من غير المألوف في ثمانينات القرن الماضي أن يأتي مطرانٌ معهدَ اللاهوت ليقيم فيه، ويشرف شخصيًّا على شؤونه. في ذلك الزمن، كان الأساقفة يؤمّون المعهد زوّارًا أو أساتذة. فإذا مكثوا، أمضوا بضعة أيّام، ثمّ ارتحلوا إلى أبرشيّاتهم. أمّا هو، المطران قسطنطين، فأتى ليلازمنا. لم نعرف الأسباب. كان رئيس اللجنة المجمعيّة المشرفة. يومها قيل إنّ المعهد، بعد استقالة عميده الأب ميشال (نجم)، ما كان ليستمرّ من دونه. وقيل أيضًا إنّه أتى لا ليملأ فراغًا فحسب، بل أيضًا ليضع بعضًا من أموال أبرشيّته في تصرّف مؤسّسة تعاني من شحٍّ في المال ونقص في الكادر البشريّ. وهذا، لعمري، تعاضد ما زال نادرًا في أوساطنا. وأقول إنّ المال هو ممّا كانت تمتلكه أبرشيّة بغداد، لأنّ التقليد أمر بأن نأخذ المطارنة من صفوف الرهبان حتّى نطمئنّ إلى أنّهم لا يملكون شيئًا.

حين أسافر في الذاكرة إلى ذلك العهد، فإنّ أوّل ما يخامرني هو أنّ الإنسان الذي في المطران قسطنطين كان يحتجب وراء الراهب الذي كانَهُ. هو قلّما أطلق العنان لعواطفه. فعنده أنّ كلمة الربّ هي ما يجب أن يتصدّر في الجماعة. أمّا الإنسان، حتّى ولو كان أسقفًا، فشأنه أن يختفي وراءها. لعلّ هذا كان يترك مسافةً بين الأسقف العميد والطلاّب. ولكنّ العين الثاقبة سرعان ما كانت تلاحظ أنّ وراء الجبّة الرهبنيّة السوداء يختبئ رجل يزوّج اللطف والدعة والاستقامة الخلقيّة باحترام لامتناهٍ لتراث الكنيسة الشرقيّة وفكر آبائها الأبرار.

كان هذا الرجل لا ينقطع عن صلاة. هو في مقدّمة مَن يؤمّون كنيسة الدير القوطيّة العمارة صباح مساء، لأنّه يعرف أنّ السلوك الصالح ليس فرضًا، بل قدوة. يتصدّر القرّاية، ويرتّل بلكنة تمتزج فيها العربيّة الشاميّة باليونانيّة الحاضرة بقوّة في تاريخ عائلته. فإذا أفرط الطلبة في أسئلتهم الموسيقيّة والليتورجيّة مستغلّين وجوده بينهم، وهم يعرفون باعه الطويل في هذه الأمور، امتعض قائلاً إنّه أيضًا يريد أن يصلّي. ولكنّه غالبًا ما كان يسارع إلى الجواب، ولو مكرهًا، لأنّه يعرف أنّ قاعدة المحبّة لا تعلوها قاعدة أخرى. كان المطران قسطنطين يأتي ليتورجيًّا وموسيقيًّا من تراث الكنيسة الأنطاكيّة قبل عهدها بكتب الخالد الذكر متري المرّ. ولقد أسرّ لي يومًا بأنّه لا يحبّ ألحانه كثيرًا، ويفضّل عليها مدوّناتٍ عربيّةً أخرى لم تجد طريقها إلى المطبعة. ولكنّه لم يفرض علينا يومًا نهجًا موسيقيًّا أو مقطوعةً ملحّنة. فهو كان يريدنا كبارًا، نعبّ من كلّ شيء، ونتخيّر الأفضل، كما كتب ذات يوم رسول الأمم.

بعضهم كان يعيب على المطران الشيخ أنّ لغته لم تتعرّب تمامًا. فمَن يتحدّث معه، يلتقط بسهولة لكنةً يونانيّةً في كلماته رغم أنّه تربّى في الشام. أمّا هو، فلم يكن يجد في ذلك حرجًا. كان يعي ذاته أنطاكيًّا في خطٍّ تواصليٍّ لا ينقطع مع ثلّة رفيعة من آباء هذه الكنيسة وضعوا مصنّفاتهم باليونانيّة. وربّما كان، في ذلك، نموذجًا فريدًا. فهو مطران أنطاكيّ إغريقيّ الأصول، ولكنّه لم يأتِ الرعيّة استيرادًا أو فرضًا ككثر من الأحبار الذين استلموا دفّة هذه الكنيسة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بل هي لاحظته وارتأت أنّه يصلح أن يكون »ناظرًا« عليها، وهذا هو المعنى الحقيقيّ لكلمة »أسقف«. فإذا كان الإخلاص لإنجيل الربّ والاستقامة والتعفّف هي النبراس، فمَن تهمّه اللكنة، عربيّةً كانت أو يونانيّة؟ والحقّ أنّ مطران بغداد كان متضلّعًا من العربيّة أيضًا. ولقد شاهدتُ بأمّ العين كيف كان، بعد غياب شمس البلمند، يصرف الليالي الطوال في الترجمة أو إصلاح النصوص الليتورجيّة. ولست أعلم هل تسنّى له، قبل رقاده في الربّ، أن يرى ثمرة جهوده مرتسمةً في عمل مطبوع.

رحل المطران قسطنطين عنّا، نحن طلبة معهد اللاهوت، في مطلع العام 1988، كما أتانا... بصمت ووقار. لم يحدس أحد منّا بساعة سفره. ولعلّه تعمّد أن يحتجب حتّى في الرحيل، لئلاّ يعكّر على مَن سيأتي بعده. رجع إلى أبرشيّته منسلخًا عن شباب أحبّوه رغم ما كان يتبدّى عليه من قسوة، كأنّه لم ينغرس يومًا على التلّة المضيئة. ولكن بقي منه في البلمند صدى مبارك، وبعض من عطر. هذا العطر سيستنشقه هناك مَن ركنوا إلى الصفاء في هدئات الليل.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search