واقع جديد
الأب إيليّا متري
»عدت لا أحتمل نفسي أمشي، آكل، أو أشرب. صورة أيّ إنسان، شرّده ظلم »إنسان« آخر في العراق أو في سورية أو فلسطين...، تصيبني بإحباط شديد، وتعكّر عليَّ ما تبقّى من صفو حياتي«.
هذا الموقف المؤلم نقلته إليَّ سيّدة جمعتني بها، منذ مطلع التزامي، صداقة جديدة. لم أشأ، توخّيًا للصدق، أن أخفي الإشارة إليها، وأنسب إلى نفسي وحدي ما قالته لي في جلسة طويلة لم تنتهِ من دون بكاء مرّ. كدت أفعل. كتبت سطوري الأولى، ثمّ وضعت لها مزدوجين. لم أهرب من صيغة المتكلّم المفرد، (فها أنا أستعملها)، بل رأيت أن يعلن اثنان أنّهما متألّمان ربّما صدى صوت الألم يكون أقوى!
ألستم متألّمين؟ تُرى، أين تصرخون؟ ليس كلّ صمت فضيلة. العالم غيّرته الكلمة، كلمة الكلمة المتجسّد. لا يكفي أن نصمت، لا يكفي أن ننتقد في سرّنا أو ضمن مجموعات مغلقة، بل ينبغي لنا أن نخلع الوجوم، أن نضجّ العالم بكلام فاعل. أن نسأل؟ كلّ سؤال، تطرحه دوافع صادقة، شرعيّ، وربّما يكون مفيدًا، بل سيكون إن رافقت طرحَه استعداداتُ خدمة. فالعالم إصلاحه يفترض تضحياتٍ تفوق ما فيه من ظلم المفاسد. نحن قوم، في طبيعتنا، لا نكتفي بانتقاد العالم، بل نعمل من أجل خلاصه، بل قبل أن نعمل، نلوم أنفسنا. لا نريد من هذا اللوم أن نزداد مرارة، بل أن نصلح كلّ خلل فينا أوّلاً.
لو كنّا نحبّ أكثر، لكان العالم أفضل!
سمعت أشخاصًا عديدين يجزمون أنّ مشاكلنا، في هذا العالم العربيّ، لا نهاية لها. لا أعرف إن كان هذا التحليل، الذي يخطف الأنفاس، صحيحًا. لكن، يمكنني أن أعرف أنّ ثمّة مشاكل أخرى، قديمةً وحديثة، قد انتهت. بلى، ليس صحيحًا دائمًا أنّ المشاكل، التي تواجهنا، تنتهي من دون أثر يبقى. الموت. الجروح. هتك الأعراض. فقدان المنازل والممتلكات. النزوح. والهجرة. الآلام النفسيّة والتعقيدات لا ترافق هذه المشاكل فقط، بل تبقيها لعنةً تبدو أمامنا أبديّةً أيضًا! هل أستبعد قدرة اللَّه على تجديدنا؟ حاشا! فاللَّه فطرنا على أن نكون أقوى من الآن الضبابيّ أو الرماديّ أو الأسود، بل وعدنا بأن يكون معنا، في غير حال، إلى انقضاء الدهر. هذا، إن رفعنا عينينا وفمنا إليه، يمكننا أن نسمعه يدوّي في آننا عينه.
العالم لا ينقذه سوى الصلاة. هذا كلام لا يوجد، في الكون، أقدس منه. هذا كلام أمّي وأبي، وقبلهما كلامُ الذين لهم الفضل الأعلى في بقائنا أحياء في كنيسة تستقبح الموت وكلّ مظاهره اللعينة! لكنّ الصلاة، الصلاة الحقيقيّة، ليست كلماتٍ فقط. المسيحيّون، ليكونوا مسيحيّين حقًّا في كلماتهم ومواقفهم، يعوزهم أن يبقوا على علم أنّ الصلاة رفيقة الإنسان في غير آن. وإن قلنا مسيحيًّا: إنّها عملنا كلّنا بأجمعنا، نقولها فيما نعمل. أعتقد أنّ أعظم معنى لصلاة المسيحيّين المؤمنين بحقّ العمل أنّها تعلن إصرارهم على أن يكون اللَّه، في غير أمر، سندهم ومرجعهم والعامل معهم وفيهم. المسيحيّ لا يعتقد أنّ أمور الأرض تنتهي إذا صلّى فيما يقعد عاطلاً من العمل. لا يحلّ الكلام، الذي خلقت حناجرنا لتطلقه، محلّ احتضان العالم بالعمل وبكلّ أنواع الإسعاف الذي جعله الربّ سبيلاً إلى دخول أبده.
هذا يدفعني إلى أن أقول إنّنا، في هذا المدى، مدعوّون جميعنا، مسيحيّين ومسلمين، إلى أن نرى أنّ اللَّه لا يرغب لنا في شيء مثل أن نعتبر الإنسان، أيّ إنسان، مرقاتنا إليه. أعلم أنّه، إن جُرح جاري أو خطف ابنه أو هاجر أو صار إلى كان، ألمه عليه سيكون أقوى بكثير من ألمي. ولكنّ اللَّه يريد منّي هذا الشيء الثابت! يريدني صادقًا في وعيي أنّ أيّ إنسان، أُصيب بآلام معقَّدة، هو نفسه معبري إليه.
أعرف كثيرين يعتقدون أنّ العلاقة باللَّه أهون من العلاقة بالناس، قريبين أو بعيدين. من السهل، إن أردت أن تصلّي، أن تصلّي. من السهل، إن أردت أن تصوم، أن تصوم. ومن السهل أن تلتزم قراءة الكلمة، وأن توزّع بعض أموال على الفقراء، وأن تفعل أيّ ما تعلم أنّه يرضي اللَّه إلهك، ويفرحه. ولكن، من الصعب، أحيانًا أو في معظم الأحيان، أن ترى الناس الذين يختلفون عنك في التربية أو العادة أو الثقافة أو الدين، وإن كنتم تحيون متجاورين متلاصقين، أن تراهم »لحمًا من لحمك وعظمًا من عظمك«. ما نراه اليوم يرتكب باسم باللَّه أو العلاقة باللَّه، يبكي السماء قبل الأرض. ماذا جرى للناس في هذا العالم؟ كيف هبط علينا هذا الوجع المخيف؟ مَن تركنا نغفل عنه؟ كيف تسرّب إلينا؟ هذا، الذي تربطه بالناس علاقات ودّ وقربى، ما الذي جعله قادرًا على أن يفكّ رباطه بهـم، بـل قـادرًا على إلغائهـم؟ هـل حياتــه وعلاقاته كانتا كذبـة؟ هـل الخبز، أو الملـح والزيت، الـذي نتقاسمه لم يتحوّل فيه إلى ما يتحوّل في سواه؟ هل العالم لا يريدنا معًا أو يخاف أن يرانا معًا؟ هل غدونا لعبةً في أيدي الأقوياء في الأرض؟!
هذه السيّدة، التي ذكرتها، صورة عن هذا المدى بيتًا بيتًا. فنحن غدونا نحيا في بحر من الدموع، بل باتت عيوننا تساعد السماء بما تنزله علينا من مطر. أجل، بتنا نشرب من مياه عينينا! هل هذا دليل على شركة جديدة؟ واحدة من دعوتنا أن نبكي معًا. ولكنّ دعوتنا الكاملة أن نفرح معًا أيضًا. كيف نسترجع وجوهَنا وأفرحَنا؟ كيف يعود الصفاء إلى حياتنا؟ كلّنا، إن أردنا، يمكننا أن نعرف كيف. هذا الطريقُ إليه واحد: المحبّة التي نحملها. هذه، إن تابت قلوبنا إليها، هي التي تزهر في هذه الأمداء واقعًا جديدًا.l