إن سمعتم اليوم صوته فلا تقسّوا قلوبكم
جوزف يزبك
كثيرًا ما قرأتُ الآية »دعوا الأولاد يأتون إليّ لأنّ لمثل هؤلاء ملكوت السماوات« (متّى 19: 14، مرقس ١٠: ١٤، لوقا 18: 16) والآيـة »إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد، فلن تدخلوا ملكوت السماوات« (متّى 18: 3). وكنت أعتبر أنّ في هذا الكلام إشارة إلى بساطة الأولاد وطهارة قلوبهم.
غير أنّ حادثة، على بساطة وقائعها وعُمق معانيها، علّمتني أنّه ليس في إشارة الكتاب إلى الطفولة عبرة بساطة، بل عبرة حكمة. ليس المقصود بساطة الأولاد، بل استنارة بصيرتهم وترفّعهم عن حكمة هذا العالم إلى حكمة اللَّه؛ هم يرونها على صفائها ونحن لا نراها. هم يرونها لأنّهم ما زالوا على العيون التي جعلها اللَّه فيهم. وأمّا نحن، فننظر ولا نرى بسبب ما جعله العالم أمام عيوننا من غشاء حكمةٍ بنيناها بخبرتنا الزائلة لا بخبرة اللَّه.
في الوقائع، كنت خارجًا من القدّاس الإلهيّ يوم الأحد في كنيسة قريتي، وكنت أظنّ أنّني أقود ابني ذا الأربع سنوات بيده. وفي الخارج أمام باب الكنيسة سيّدة افترشت الأرض وهي تستعطي المصلّين. مررت بقربها ولم أكترث لها البتّة. لكنّ يدًا شدّتني إلى خلف. نظرت إلى الوراء فإذا بابني واقف أمامها ينظر حالها ويرفض أن يتحرّك. شددّت بيده إلى الأمام، فأصرّ في ثبات. قال لي: »أريد أن أعطيها مالاً«. الفكرة الأولى التي جالت في فكري هي حسرة على بساطـة هـذا الطفـل. ومـع ذلـك أعطيتـه نقـودًا فناولـها للمرأة، ثمّ تابع المسير بضع خطوات وأجهش بالبكاء. استغربت أمره فاقتربت منه وسألته عمّا به. فعاد بنظره إلى المرأة خلفه، قال: »إنّها وحيدة!«. أجبته أنّ لها عائلة وستذهب إليها بعد قليل طبعًا. فأردف: »ليس لديها سيّارة لتذهب!«. أجبت أنّه »لعلّ بيتها قريب«. أصرّ: »ولكن ليس لديها مال لتأكل!«.
إصرار ولدي حرّك ذاكرتي إلى آية المزمور 95: »إن سمعتم اليوم صوته، فلا تقسّوا قلوبكم« (مزمور 95: 8). نحن الكبار في خبرتنا أنّ الاستعطاء، في حالات، يخفي غشًّا وفي حالات أخرى سببه كسل واستعاضة عن العمل بمردود هيّن يدرّه التسوّل؛ »الكسلان لا يحرث بسبب الشتاء، فيستعطي في الحصاد ولا يُعطى« (الأمثال 20: 4). بنينا على هذه الخبرة تعميمًا يسهّل حياتنا ويرضي أنانيّتنا فكان أن أوقعنا ظلمًا فوق الظلم الذي جعلته الحياة في أناس »كي تظهر أعمال اللَّه فيهم« (يوحنّا 9: 3).
يسوع، عندما شاهد أعمى أريحا يستعطي، شفاه مباشرة وفتح عينيه ولم يأبه لكُثر يدّعون العمى استجداء لعاطفة من الناس تدرّ عليهم أموال غشّ (مرقس 10: 52؛ لوقا 18: 42؛يوحنّا 9: 7)
ابني ذو الأربعة أعوام شاهد حقيقة فقر المرأة. أمّا أنا، فبعيني أنانيّة العالم انحجبت عنّي معاناتها ولم أبصر.
ابني بحكمة يسوع عرف عمل الصواب. أمّا أنا، فبحكمة العالم أوقعت في المرأة ظلمًا.
ابني سمع صوت يسوع فأصرّ وثبت ورفض فرضيّاتي الواهية. أمّا أنا، فقساوة قلبي منعت عنّي حلاوة الربّ.
ابني غلب العالم »لأنّ الذي في الأولاد أعظم من الذي في العالم« (1يوحنّا 4: 4). أمّا أنا، فقد قوي عليّ العالم.
كنت خارجًا من الكنيسة وفي ظنّي أنّي الحكيم وبيدي أقود ولدًا بسيطًا. ثمّ أمام تحدّي ابني لقساوة قلبي، انفتحت عيناي وتيقّنت أنّي أنا المتسوّل أعمى أريحا، وأنّ ابني هو الحكيم البصير وكلماته هي التي كانت تقود.l