يسوع والفرح
جوزف الحاج
من الصعب أن نتطرّق إلى موضوع الفرح في زمن الضيقة الكبرى هذا، زمنٍ يُعَنوِن فيه الحزن كلّ مقال. يحيط بنا الألم من كلّ صوب، كأنّ كلّ ما عداه انقرض، ويتمدّد الخوف غامرًا كلّ الأرجاء. رغم ذلك، سنتحدّث عن الفرح، إذ ما نفعُ مسيحيّتنا إن لم تكن مدعاة فرح؟ ما نفع إيماننا بربّ القيامة إن لم يكن ليدرّ علينا كلّ السرور وكلّ الفرح؟
نجد أولى تباشير الفرح مع ميلاد يسوع في المذود، وذلك على لسان الملاك مخاطبًا الرعاة في القفر: »إنّي أبشّركم بفرح عظيم« (لوقا 2: 10). تأتي هذه البشارة لتقول للمزمعين على أن يؤمنوا بيسوع إنّ فرحًا عظيمًا ينتظرهم. تعلّمنا منذ نعومة أظفارنا أنّ كلمة إنجيل تعني البشرى السارّة والخبر المُفرِح. إذا كان العنوان العريض لحلول يسوع بيننا هو بشارة الفرح، فما حال التفاصيل؟
يكلّل يسوع مهمّة مجيئه حين يقول: »أتيت لتكون لهم حياةٌ ولتكون لهم أفضلُ« (يوحنّا ١٠: ١٠). كلّ عمله بين الناس كان في سبيل بلوغهم الأفضل الذي يريده لهم. حرَصَ خلال جولاته التبشيريّة على أن يلفت سامعيه إلى موضوع الفرح. لم يكن شخصًا متجهّم الوجه. نستشفّ هذا عبر بعض المواقف التي اتّخذها في حياته. فهو، مثلاً، لبّى دعوةً إلى العرس، وفرح مع الحاضرين. ولئلاّ تحلّ عليهم الخيبة بنفاذ النبيذ، أوجده بكثرة. كانت أولى معجزاته معجزة فرحٍ بامتياز. تتالت الأحداث بعدها من شفاءات وعجائب، حتّى اقترن اسم السيّد بالفرح. أينما حلّ، تحلّ على البشر نعمة الارتياح، وتنبسط الأسارير. كثيرًا ما اتّخذ يسوع موقفًا شخصيًّا من الحزن، وكأنّه أراد إلغاءه، حتّى صار الناس يفتّشون عنه، ويمسكون به، لئلاّ يذهب عنهم، ويرجونه أن يكون معهم، ليطرد عنهم الكَدَر. كيف لا يلزمونه أن يبقى بينهم وهو الخبير في تحويل مآتمهم إلى أعراس، وفي إعادة الاعتبار إلى كلّ إنسان مهما قلّ شأنه؟ لا يفصّل لنا الإنجيل الأحداث التي تلت إقامة الأشخاص. ولكن ليس صعبًا أن نتصوّر موجات الفرح التي اجتاحت نايين وكفرناحوم وبيت عنيا بعد عودة شبابها إلى الحياة. أمّا علّيّة الاجتماع، حيث كان التلاميذ مساء ذلك الأحد الربيعيّ الجميل، فموضوع آخر. تخيّلوا حال التلاميذ حين وقف معلّمهم، المصلوب والمائت قبل يومين، بينهم وأهداهم سلامه. تخيّلوا حالهم وقد رأوا آثار الجروح على شخص أودعوه قبرًا قبل برهة قصيرة وهو الآن يكلّمهم ويناقشهم، ويطلب منهم مأكولاً.
هذا الفرح المباشر بوجود يسوع بالجسد بين الناس تغيّر شكله بعد ارتفاع المسيح بالصعود. غادر الربّ أحبّاءه شكليًّا، ولكنّه وعدهم بأن يكون معهم إلى انقضاء الدهر، وبألاّ يتركهم يتامى في وحشيّة هذا العالم. يريد المؤمن، الذي لا يرى يسوع اليوم بعين جسده، أن يكسب فرح سيّده الذي لا ينزعه منه أحد. يريد أن يغلب بهذا الفرح كلّ أحزان عالمه ومآسيه.
في الأحاديث الخاصّة مع تلاميذه، كان يسوع واضحًا جدًّا بقوله لهم إنّ الحزن ينتظرهم، لأنّهم اختاروا طريقًا صعبة. ولكنّه وعدهم بشيء أفضل إن هم ثبتوا فيه. هذا الوعد بالأفضل حدا التلاميذ، وأتباع يسوع في ما بعد، إلى أن يقبلوا كلّ ما يجري لهم بفرح مذهل، حتّى اعتبرهم المراقبون مجانين. كيف لشخص يُساق إلى الموت أن يكون فرِحًا، ضاحكًا، منشدًا كأنّه ذاهب في نزهة؟ نستطيع أن نفهم هذا المشهد إن أدركنا ما قاله يسوع لتلاميذه حين كان يودّعهم »لكنّي سأراكم أيضًا، فتفرح قلوبُكم، ولا ينزع أحد فرحَكم منكم« (يوحنّا 16: 22). وحدَها رؤية المخلص تجلب الفرح لأنّ كلّ ما سواها سراب ونسج ريح عند أتباع يسوع. إلاّ أنّ هذه الرؤية هي وعدٌ مستقبليّ مرتبط بالمجيء الثاني، الذي ينتظره المؤمن، ليعاين وجه يسوع الغالب، ويستحضره في كلّ ذبيحة إلهيّة، حيث اللقاء بجسد الحبيب ودمه وحيث الاتّحاد به. غير أنّ البشر يميلون إلى الآنيّة، ولا يقدرون بسهولة على عيش المستقبل. يريدون الأمور الآن وهنا، حتّى تطمئنّ قلوبُهم. ألم يتذمّر تلميذٌ على معلّمه، حين كان الأخير يحدّثه عن علاقة الابن بأبيه، فقال له: »أرنا الآب وكفانا« (يوحنّا 14: 8)؟ يجاري يسوع عقولنا في التفكير، ويقبل أن يخاطبنا كما نحن نفهم، لأنّه يحبّنا.
لا يصعب على باحثٍ أن يفهم ارتباط الفرح بالسلام الذي يعطيه يسوع. انطلاقًا من هذا، تصبح نظرة المؤمن إلى الفرح بيسوع مختلفةً عن مفهوم الفرح الذي يقدّمه العالم. فالأوّل ليس قائمًا إلاّ لكون طالبه يطلب يسوع شخصيًّا. أمّا الثاني، فهو محاولة الإنسان أن يفرح بأشيائه وممتلكاته وعنديّاته، وهذه غالبًا ما تضمحلّ بسرعة أو تصير عاجزةً عن توليد الفرح.
أدرك الساعون وراء فرح يسوع على مرّ أجيال أنّ اقتناء هذا الفرح مشروع عمرٍ. فسعوا في جميع الأحوال يحرّكهم، في هذا، قولُ معلّمهم: »سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب« (يوحنّا 14: 27). ثمّ يتابع قائلاً: »إن حفظتم وصاياي، تثبتون في محبّتي. كما أنّي أنا قد حفظت وصايا أبي، وأثبت في محبّته. كلّمتكم بهذا لكي يثبت فرحي فيكم، ويَكمُل فرحُكُم« (يوحنّا ١٥: ١٠- ١١). إذًا، يقتني أتباع يسوع الفرح عبر الثبات غير المشروط في محبّته بعد أن يقبلوا سلامه. لا يمكن دخول فرحه من دون دخول سلامه. ولا يمكن دخول سلامه من دون دخول محبّته. هكذا يولد في حياة المؤمن ثالوثٌ لا يتحقّق أقنوم من أقانيمه إلاّ بتحقّق الآخر. فينشأ شخص لا يغلبه جبّار، ولا تهزمه نائبة مهما عظم شأنها. حتّى الموت، العدوّ الأعظم، نراه مكسور الشوكة أمام المؤمن الكبير. لا يخاف، يحبّ، يسعى دومًا إلى الأفضل، ولا يشتهي إلاّ أن يسمع في يومٍ يريده سريعًا: »أدخل أيّها الحبيب إلى فرح ربّك«.l