2015

9. تحقيق: القدّيسة المعادلة للرسل مريم المجدليّة - الأب جورج (برباري) – العدد الثالث سنة 2015

 

القدّيسة المعادلة للرسل مريم المجدليّة

الأب جورج برباري

 

مريم المجدليّة هي المرأة التي سمّيت »رسولة الرسل«، جارة يسوع على ضفاف بحيرة طبريّة، تبعت المعلّم طيلة رحلته الطويلة من الجليل إلى أورشليم. تردّد اسمها في طيّات الإنجيل وأسبغ عليها الناس صفات شخصيّات أخرى قد لا تمتّ إليها بصلة. حامت حولها الأساطير، فهذه القدّيسة التي أهّلها المسيح لرؤيته قائمًا من بين الأموات كانت مصدر حكايا وروايات ووحي لا ينضب للأدباء، للفنّانين ولآخرين رأوا فيها الخاطئة القدّيسة، المرأة العاشقة، الغنيّة بالمال والفقيرة إلى النصيب الصالح، حاملة الطيب إلى القبر وإلى قدمي السيّد، شاهدة لقيامتين، قيامة ألعازر وقيامة يسوع. أمّا للمؤمنين، فتبقى المرأة التي رافقت المخلّص ولم تتركه ولو تركه الجميع. وإذا قال بطرس للمسيح إلى من نذهب وعندك الحياة، بقيت هي من القلّة التي أبت أن تذهب لأنّها لم ترَ حياة إلاّ في يسوع المسيح ولو كان على الصليب، ولو وضع في القبر، فاستحقّت أن ترى في البستان الحياة تشعّ فيه للعالمين، وبدا البستان عدن التي كانت مغلقة، والبستاني ليس سوى زارع يزرع كلمته فتثمر حياة لا يعتريها ذبول.

مريم المجدليّة في الكتاب المقدّس

كثر هنّ المريمات الوارد ذكرهنّ في العهد الجديد، تأتي أوّلاً والدة الإله، وهناك مريم زوجة كليوبّا(1)، ومريم أخت ألعازر ومرتا من بيت عنيا. لكنّ مريم المجدليّة بين تلك المريمات، وبين سائر نساء العهد الجديد كانت الأكثر تميّزًا بعد والدة الإله، وتبدو أهمّيّتها من تكرار اسمها كثيرًا ومن ذكرها أوّلاً في غالبيّة اللوائح.

تميّزت بدورها: تُذكر مريم المجدليّة في العهد الجديد في ثلاثة أحداث بشكل عامّ، فأوّل ذكر لها كان عند لوقا إذ قال إنّ من النسوة اللواتي تبعن يسوع مريم المجدليّة التي أخرج منها سبعة شياطين (لوقا 8: 2؛ ومرقس 16: 9)، ثمّ نجدها في حادثتي الصلب والقيامة. ويتردّد اسمها في رواية كلّ من الإنجيليّين الأربعة ولكن بتفاصيل متمايزة بين إنجيليّ وآخر.

يبدأ القدّيس لوقا (8: 2) بأنّ عددًا من النسوة تبعه وهنّ اللواتي قد شفاهنّ يسوع وأخرج منهنّ الأرواح الشريرة، وهو بعد في الجليل(٢) أي قبل سفره إلى أورشليم التي تبعد عن الجليل نحو 120 كلم. رافقنه في عمله البشاريّ، وكان يأتي أوّلاً ذكر مريم المجدليّة وتأتي سائر النسوة اللواتي سمّين بحاملات الطيب اللواتي نعلم منهنّّ مريم التي لكليوبّا أمّ يعقوب ويوسي (مرقس 16: 1، لوقا 24: 10)، يوانّا زوجة خوزي وكيل هيرودس (لوقا 24: 1)، سوسنة (لوقا 8: 3)، وصالومي (مرقس 16: 1) أمّ يعقوب ويوحنّا زوجة زبدى، ونساء أخريات (لوقا 24: 1) قد تكون بينهنَّ مريم ومرتا أختا ألعازر من بيت عنيا. واضح أنّها كانت ذات ثراء فقد كانت مع سائر النساء اللواتي تبعن الربّ، يخدمنه أيضًا بأموالهنّ (مرقس 15: 10- 11؛ ولوقا 8: 2- 3)...

ثباتها وشجاعتها: أصرّت مريم المجدليّة على مرافقة يسوع مع سائر النسوة. لا في جولته من الجليل إلى أورشليم بل حتّى الصليب، بقيت مخلصة لمعلّمها. وهذا لم يكن بالأمر الهيّن. والدليل على ذلك أنّ تلاميذه المقرّبين أسلموه، أنكروه، وفي أفضل الأحوال تركوه واختبأوا في العلّيّة »خوفًا من اليهود«.

أمّا مريم ورفيقاتها اللواتي لم نسمع صوتهنّ في الإنجيل، فلم يتركنه حتّى في الوقت الذي وصل فيه المسيح إلى قمّة الجلجلة، قمّة الضعف البشريّ: بَكَين عليه عند درب الصليب، لم يفارقنه عند صلبه، عند دفنه وما بعد الدفن.

والذي جرى أنّه في العادة، بحسب القانون الجزائيّ الرومانيّ، يبقى المحكومون بالصلب على الصليب ليسلموا الروح، ويبقوا معلّقين على الصليب لكي تأتي الطيور والحشرات وتنهش جثثهم.

المسيح مات سريعًا قبل عيد الفصح عند اليهود. فلئلاّ يبقى جسده معلّقًا، فيتنجّسوا برؤيته في العيد، قرّروا أن يكسروا القانون الرومانيّ ويدفنوا المسيح. دفن جسد يسوع يوم الجمعة قبل الغروب، أي قبل الدخول في غروب الفصح في السبت.

بسبب العجلة لكي يُدفن قبل العيد، لم تطيّب النسوة جسده. السبت لم يستطعن المجيء إلى القبر لأنّه ممنوع العمل في السبت فكيف إذا كان السبت فصحًا، وبقي يسوع هناك يومًا ثانيًا. وعند الغروب اشترت النسوة الأطياب وأتين صباح الأحد وهو اليوم الثالث لبقائه في القبر، وهناك تلقّفت مريم المجدليّة أوّلاً بشرى القيامة الثلاثيّة الأيّام.

هل توقّعن أنّ المسيح سيقوم؟ كلّ الدلائل في الإنجيل تشير إلى العكس: جلبن الطيب للمائت وليس للحيّ، همهمنّ »من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر«، جزعت المجدليّة من أن يكون قد سرق وهربت ورفيقاتها من القبر لأنّ ما حصل لم يتوقّعنه.

ولكنّ رسولة الرسل بثباتها وشجاعتها كانت أوّل من رأى القبر فارغًا وأوّل من ظهر لها يسوع ناهضًا من القبر، وأوّل من أرسلها لإعلان قيامته (متّى ٢٨- ١؛ مرقس 16: 1و9؛ لوقا 24: 10؛ يوحنّا 20: 1).

تميّزت بتسميتها: فهي الوحيدة التي كانت لها كنيتها بين النسوة. فقد سمّيّت بالمجدليّة نسبة إلى موطنها الأصليّ في المجدل على الساحل الغربيّ لبحر الجليل، على بعد ثلاثة أميال إلى الشمال من طبريّة. و»مجدل« معناها في اليونانيّة »برج مراقبة«، ولعلّها سمّيت كذلك لوجود أكواخ صغيرة. ويقول ألفرد إدرشيم (١٨٢٥-١٨٨٧) إنّ المدينة القديمة كانت تشتهر بنسج الصوف وصباغته، وبالتجارة وبناء السفن والصيد وحفظ الأسماك والزراعة، ما أدّى إلى ثراء المدينة وفي الوقت ذاته إلى تفشّي الفساد فيها.

يواجهنا عند البحث عن المجدليّة في الكتاب المقدّس نوعان من المشاكل، أوّلاً »التعابير« التي ارتبطت بهذه المرأة:

فعند قيامة المسيح لاقاها عند القبر وقال لها »لا تلمسيني، لأنّي لم أصعد الى أبي بل أمضي إلى أخوتي وقولي لهم إنّي صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم« (يوحنّا 20: 17). فما الرابط بين اللمس والصعود إلى الآب؟ ولماذا يرد في الإنجيل عينه أنّ يسوع طلب من توما لمسه عشيّة اليوم الثامن؟

أعطي الكثير من التفاسير:

١- التفسير الكلاسيكيّ هو أنّه قال لها لا تلمسيني، ليعبّر عن نوعيّة جديدة من العلاقة بعد القيامة بين المسيح وأحبّائه.

٢- مفسّرون ربطوا بين كلمات مريم وكلمات العروس في نشيد الأناشيد ليخلصوا إلى أنّ قول يسوع، وهو ما تظهره الأيقونة بحركة يدي المجدليّة ويد المعلّم، وكأنّ رؤية القائم ستكتمل في سعي دائم من أحبّائه للوصول إلى مجد اللَّه الآب »لقد وجدت من تحبّه نفسي... أهرب يا حبيبي على جبال الأطياب« (3: 4 و8: 14).

٣- مفسّرون ربطوا بين يسوع »حمل اللَّه« وقوله لها »لا تلمسيني«: فالمسيح الذي قدّم ذاته ذبيحة من أجلنا نحن الخطأة على الصليب ربط ذاته بذبيحة العهد القديم إذ أكملها وكانت تلك صورة للذبيحة الحقيقيّة. فرض العهد القديم أن يقدّم الكاهن ذبيحة التكفير للَّه في قدس الأقداس على أن تذبح وتقدم كلّها للَّه (لاويّين 4: 13- 21)، وكان يسوع في العهد الجديد هو الكاهن والذبيحة في آن، أي كان هو المقرِّب والمقرَّب. »المسيح وهو قد جاء رئيس كهنة... ليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرّة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبديًّا... فكم بالحريّ يكون دم المسيح الذي بروح أزليّ قدّم نفسه للَّه بلا عيب« (عبرانيّىن 9: 11- 14). وكان عدم اللمس بعد قيامة يسوع تعبيرًا عن أنّ ذبيحته هي كليًّا للَّه،... من أجل أحبّائه.

ومن التعابير الصعبة في سيرة المجدليّة قول الإنجيليّين (لوقا ومرقس) إنّ المسيح أخرج منها سبعة شياطين، فيحار المرء في  هذه الشياطين السبعة نوعيًّة وفاعليّة : هل هي روح الزنى كما تظنّ غالبيّة الناس؟ هل هي حالة عصبيّة هستيريّة تملّكت زمنًا القدّيسة؟ هل هي تملك التجارب السبع (كما يحصيها آباؤنا القدّيسون) للإنسان ولتبيان ضخامة التجربة أعطاها الإنجيليّ صفة الشيطان لما لهذه التجارب السبع التي هي الكبرياء، الشراهة، الزنى، البخل، الحسد، الغضب والكسل من قوّة لشلّ قدرة الإنسان على السعي نحو المسيح؟ القدّّيس ثيوفيلاكتس يقول الشياطين السبعة هي الرذائل، فإنّ الإنسان الخالي من نعم الروح القدس السبعة سيمتلئ من الشياطين السبعة، فالنفس غير الخاشعة غير الحكيمة غير المدركة ستتعارض مع عمل الروح القدس في النفس. بحسب غالبيّة الآباء، أخرج منها سبعة شياطين معناه أنّها كانت مريضة والربّ شفاها، ولكنّها لم تكن إحدى الغانيات المنبوذات اجتماعيًّا.

وهنا ننتقل إلى نوع آخر من التحدّيات التي تواجهنا في تأمّل سيرة مريم المجدليّة، ويعود سبب ذلك إلى المزج بين المجدليّة ونساء أخريات: مثل مريم أخت مرتا وألعازر (المذكورة بوضوح في لوقا 10: 38- 42؛ يوحنّا 12: 1... ومن دون ذكرها الصريح في متّى 26: 6؛ ومرقس 14: 3)، والمرأة الخاطئة التي سكبت الطيب على قدميه (لوقا 7: 36)، وأحيانًا المرأة التي أمسكت وهي تزني فقال يسوع مدافعًا عنها »من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر« (يوحنّا 8: 7)... وهنا يفسّرون أنّ تسمية مريم بالمجدليّة لا يعود إلى القرية التي ولدت فيها بل إلى جدائل شعرها التي تثبت أنّها امرأة زانية.

الجمع بين الشخصيّات الأربع أتى من معطيات عدّة:

١- غموض التعبير أنّ المسيح أخرج من المجدليّة سبعة شياطين، فاعتُبر أنّ شياطين الشهوات تملّكتها.

٢- أوّل ذكر عند لوقا الإنجيليّ لمريم المجدليّة أنّه أخرج منها سبعة شياطين (لوقا 8: 2)، وقد ورد ذكرها مباشرة بعد حادثة المرأة الخاطئة التي سكبت الطيب على قدمي يسوع (لوقا 7: 36). فاعتبر البعض المجدليّة والخاطئة امرأة واحدة.

٣- جُمعت المرأة الخاطئة الواردة عند القدّيس لوقا مع مريم أخت ألعازر (متّى 26: 6؛ مرقس 14: 3؛ ويوحنّا 12: 1) لأنّ القواسم المشتركة بين الروايتين عديدة فكلتاهما سكبتا الطيب على قدمي يسوع، وجرى ذلك في بيت سمعان، وهناك اعتراض من الموجودين.

٤- جمعت المجدليّة مع أخت ألعازر لأنّهما تحملان الطيب واسم مريم، وذلك يضاف إلى ما سبق من عوامل الجمع.

٥- وتمّ أخيرًا الجمع بين الشخصيّات الثلاث الوارد ذكرهنّ أعلاه مع المرأة التي أمسكت وهي تزني، وحُدّدت تاليًا خطيئة المرأة الخاطئة بأنّها زنى.

الردّ على هذه الحجج الخمس يبرز ضعفها:

أوّلاً، أن لا شيء يدلّ على أنّ الشياطين السبعة هي تعبير عن خطيئة الزنى فليس في الكتاب المقدّس ما يشير إلى ذلك. الشياطين قد تشير إلى الجنون، إلى الصرع، وليس إلى الزنى.

ثانيًا، لو كانت المجدليّة هي نفسها المرأة الخاطئة، لكان الإنجيليّ ذكر هذا الأمر وما كان اعتبر الأولى كنكرة والأخرى كامرأة تخدم المسيح بحياتها ومالها. لا سيّما أنّ من تمّ تعدادهنّ مع المجدليّة شفين من الأمراض ذاتها وكنّ من أقرباء يسوع في الجسد.

ثالثًا، رغم تشابه الحادثتين بين الخاطئة ومريم أخت ألعازر إلاّ أنّ ظروف المكان والزمان تختلف بينهما. فالاولى حصلت في الجليل في بدء رسالة المسيح. أمّا الثانية، فحصلت في بيت عنيا قرب أورشليم مباشرة قبل صلب المسيح. فيستنتَج أنّ الشخصيّتين منفصلتان.

رابعًا، يفصل الإنجيليّون تمامًا بين كلا المريمين، فإذا كانتا واحدة لا مبرّر لأنّ يفصلوهما هم وإن كانتا اثنتين لا مبرّر لأن نجمعهما نحن.

خامسًا، الجمع بين المرأة التي أمسكت وهي تزني والنساء الثلاث ضعيف ولا قواسم مشتركة تبرّره.

إذًا، النساء الأربع لسنَ امرأة واحدة، هنّ تبعًا للتراث الكتابيّ والتقليد الكنسيّ ومفسّري الكتاب المقدّس أربع شخصيّات، إلاّ أنّ التراث الغربيّ(٣) اعتمد في القرن السادس على كتابات أبوكريفيّة وبدأ آباء الكنيسة الغربية(٣) يجمعون بين النساء الأربع فآثروا التأمّل في جسامة الخطيئة وروعة التوبة المتمثّلة بالتضادّ بين الماضي المظلم والحاضر المستنير بنور المسيح. فماذا في التقليد؟

التقليد

تكرّم كنيستنا مريم المجدليّة بمفردها في 22 تمّوز، فضلاً عن تكريمها في أحد حاملات الطيب.

يحكى في التراث، إنّ مريم المجدليّة بعد صعود المسيح سافرت إلى روما وعرضت شكواها على الإمبراطور طيباريوس قيصر في شأن الظلم الذي ألحقه بيلاطس البنطيّ بيسوع. وفي حضرة الإمبراطور أعلنت أنّ المسيح قد قام وحملت في يدها بيضة. سخر منها الإمبراطور قائلاً إنّ إمكانيّة قيامة إنسان من بين الأموات هي مثل تحوّل لون هذه البيضة إلى الأحمر.

هذا ما حصل فعلاً. فقد تحوّل لون البيضة إلى الأحمر. وتابعت المجدليّة إعلان البشرى السارّة إلى الحاشية الإمبراطوريّة. لذا في بعض الأحيان ترسم مريم المجدليّة في الأيقونة حاملة في يدها بيضة حمراء، وشاع هذا التقليد بين المؤمنين أن يصبغوا البيض باللون الأحمر.

كذلك ورد أنّها بشّرت بالكلمة في بلاد الغال (فرنسا) ثمّ انتقلت إلى مصر وفينيقيا وسوريا وبمفيليا وأماكن أخرى. وبعدما أمضت بعض الوقت في أورشليم، انتقلت إلى أفسس لتعيش مع والدة الإله(٤) وهناك أنهت سعيها بنعمة اللَّه.

قيل إنّها ووريت الثرى عند مدخل المغارة التى قضى فيها فتية أفسس السبعة المعيّد لهم في 4 آب. هناك فاضت عجائب جمّة إلى أن جرى، في العام 899م، نقل رفاتها إلى القسطنطينيّة بهمّة الإمبراطور لاون السادس الحكيم ومن ثمّ تمّ نقل الرفات إلى روما ففرنسا. يذكر أنّ اليد اليسرى للقدّيسة هي اليوم في دير سيمونو بتراس في جبل آثوس وتفوح منها رائحة عطرة.

أمّا التراث الغربيّ، فقد اعتبر مريم المجدليّة ومريم أخت ألعازر والمرأة الخاطئة شخصيّة واحدة، مع البابا غريغوريوس الكبير (591م) الذي قال في عظة رقاد السيّدة: »نحن نؤمن بأنّ هذه المرأة (مريم المجدليّة) هي التي دعاها لوقا بالمرأة الخاطئة، وهي التي يدعوها يوحنّا مريم (التي من بيت عنيا)، والتي يقول عنها مرقس مريم التي أخرج الربّ منها سبعة شياطين«. ودعا البابا هذه الشياطين السبعة بـ»كلّ الرذائل«، والتي قصد بها الخطايا السبع الرئيسة، بما فيها الشهوة والتي كانت تفهم بالرغبة الجنسيّة غير المحظورة أو غير المكبوتة. وكان يصف الخطايا السبع بالشياطين السبعة التي أخرجها الربّ من مريم المجدليّة. وقال إنّ الدهن الذي استخدمته المرأة الخاطئة في إنجيل لوقا، والتي قال إنّها مريم المجدليّة، ومسحت به قدمي المسيح كانت تستخدمه من قبل »تطيّب جسدها للأعمال الممنوعة«، وقال: »إنها حوّلت كلّ جرائمها إلى فضائل ككفّارة لكي تخدم اللَّه كلّيّة«.

وبعده فرضت مدرسة باريس اللاهوتيّة العام 1521 القول بشخصيّة واحدة.

مع كلام البابا الصريح، أخذ الغرب ما يتعلّق بحياة مريم أخت ألعازر وضمّها إلى سيرة مريم المجدليّة وروى التراث الغربيّ أنّه في العام 45 ثار اليهود على المسيحيّين فأمسكوا بألعازر ومرتا ومريم وأمسكوا معهم مكسيموس أحد التلاميذ السبعين ومركلاّ إحدى جواري مرثا، فأنزلوهم في قارب صغير في البحر وتركوهم تحت رحمة الأمواج حتّى تبتلعهم وتمحو آثارهم. لكنّ الربّ قادهم بسلام إلى مرسيليا (فرنسا) وهناك أخذوا يبشّرون بالإنجيل.

وتقول »أعمال القدّيسين في تولون« إنّهم هدوا إلى الإيمان سكّان تلك البلاد وأصبح لعازر(٥) أسقفًا على مرسيليا، ومكسيموس أسقفًا على مدينة إيكس Aix أمّا مريم فيقال إنّها آثرت حياة الخلوة، واعتزلت المدن وقضت بقيّة زمان حياتها منفردة ناسكة في كهف على رأس جبل، حيث مارست أعمال النسك الشديد بالصوم والصلاة القلبيّة وتلاوة المزامير ولبس المسح، إلى أن رقدت رقاد القدّّيسين.

جعل هذا التقليد مريم المجدليّة مكرّمة في فرنسا وتدعى مادلين (وهذا إدغام لكلمة مجدليّة). بنى الفرنسيّون على اسمها في جنوب البلاد كنيسة جميلة.

لكن رغم وحدة الشخصيّات الثلاث السائد في الغرب بتشجيع من البابويّة، عاد الفاتيكان عن هذه الوحدة في العام 1969 نزولاً عند آراء مفسّري الكتاب المقدّس، وقال بوجود شخصيّات ثلاث المجدليّة وأخت ألعازر والزانية ثمّ أخذ بإعادة قراءة النصوص الليتورجيّة والتعليميّة والفنّيّة وإعادة النظر بالروزنامة الكنسيّة للتمييز بين النسوة الثلاث.

المجدليّة في الأبوكريفا

الأبوكريفا هي الكتب التي رفضتها الكنيسة إمّا لتناقضها مع الواقع وإمّا لتعارضها مع إيمان الكنيسة، بخاصّة في حقبة لجأ فيها الهراطقة، بعد العصر الرسوليّ (أي ما بين القرنين الثاني والرابع وأحيانًا بعد ذلك)، إلى شخصيّات كتابيّة لتنسب إليها كتبًا من أناجيل ورسائل ونبوءات ورؤًى. وتحسب هذه الكتب تبعًا لنسبها من عداد الكتب المقدّسة ويسهل عندها تبنّي المؤمنين عقائد الهراطقة. وفي نضال الكنيسة ضدّ الاعتقادات المنحرفة والهرطقات رفضت الكتب التي وضعت لنشر هذه الهرطقات.

لعلّ أهمّ هرطقة واجهتها المسيحيّة في نشأتها كانت الغنوصيّة. وتميّزت الهرطقة الخطرة هذه بوضعها الكثير من الكتب وكان من بينها إنجيل مريم المجدليّة الذي وُجد في نجع حمادي بين كتب أخرى منها ما ذكرها وأسبغ عليها صفات وروايات جديدة (مثل إنجيل فيليبّس) وبعضها أغفل ذكرها.

ذكر إنجيل فيليبّس ثلاث مريمات كنّ يرافقن يسوع أمّه وأخت أمّه والمجدليّة وقد نعت الأخيرة برفيقته (إنجيل فيليبّس المنحول 22)، وأنّ المخلّص أحبّها أكثر من جميع التلاميذ وأعتاد أن يقبّلها غالبًا على رأسها. أمّا باقي التلاميذ، فانزعجوا وقالوا له »لماذا تحبّها أكثر منّا جميعًا؟ أجاب المخلّص وقال: »لماذا لا أحبّكم مثلها؟« (إنجيل فيليبس 43، راجع: توما 61: 2- 5)

إنجيل مريم المجدليّة:

في هذا الإنجيل تفسير لمعنى الشياطين السبعة بما يتناسب مع العقيدة الغنوصيّة التي تعني التدرج للتخلّص من المادّة، فيقول الإنجيل المزيّف إنّ المجدليّة بعدما تخلّصت من الروح الثالثة واصلت الروح صعودها وأدركت القدرة الرابعة وكان لها سبعة مظاهر: المظهر الأوّل الظلام، الثاني الشهوة، الثالثة الجهل، الرابع الغيرة القاتلة، الخامس ملكوت الجسد، السادس حكمة الجسد، السابع الحيلة الغضوب (إنجيل مريم المجدليّة المنحول، الصفحة 16: 1- 11).

لا شيء في الأناجيل القانونيّة ولا في التقليد الشرقيّ والغربيّ ولا حتّى في الأبوكريفا يشير إلى زواج يسوع من المجدليّة، وهذه أقصى كلمات توصّل إليها الإنجيل المنحول: »عندئذٍ تكلّم أندراوس وتوجّه إلى إخوته: »حدثوني، ما رأيكم بما قالته لنا (المجدليّة)؟ أنا من جهتي، لا أصدّق أنّ المعلّم تحدّث هكذا؛ هذه الأفكار تخالف التي عرفناها«. وأضاف بطرس: »هل يعقل أن يكون المعلّم قد تحدث هكذا، مع امرأة، عن أسرار، نحن نجهلها؟ هل يتوجّب علينا تغيير عاداتنا؛ والاستماع إلى هذه المرأة؟ هل انتقاها حقًّا وفضّلها علينا؟«. عندئذ بكت مريم. وقالت لبطرس: »ما الذي في رأسك، يا أخي بطرس؟ وهل تعتقد أنّي وحدي، من مخيّلتي، أخترعت هذه الرؤيا، أو أنّي أتفوّه بأكاذيب عن معلّمنا؟«. عندئذ تحدّث لبّاوس فقال: »لقد كنت دائمًا أحمق يا بطرس؛ وها أنذا أراك تتحامل على المرأة، كما يفعل خصومنا. ولكن، إن كان المعلّم قد جعلها جديرة، فهل بوسعك أن ترفضها؟ من المؤكّد أنّ المعلّم يعرفها جيّدًا...وقد أحبّها أكثر منّا« (إنجيل مريم المجدليّة).

هذه العبارات بأنّ المسيح أسرّ إليها بأقوال وتعاليم لم يُسرّ بها الآخرين، وفضّلها على التلاميذ الآخرين، جعل البعض لاحقًا يظن بأنّها كانت زوجته، في حين أنّ لا كلام واضح حول الأمر، لا سيّما وأنّ الغنوصيّة التي وضعت هذه الكتابات لا تحبّذ الزواج.

وفي الأبوكريفا هذه لا تماه بين المجدليّة وأخت العازر والخاطئة والزانية.

في الأيقونة والليتورجيا

تظهر مريم المجدليّة في أربع أيقونات رئيسة، بالإضافة إلى أيقونتين فرديّتين.

الأيقونة الأولى هي عند الصلب تقف مع مريم أمّ يسوع والتلميذ الحبيب وقائد المئة وأحيانًا تقف إلى جانبها سائر النسوة حاملات الطيب.

الثانية هي أيقونة إنزال المصلوب حيث نشاهد يوسف ونيقوذيموس وأمّ يسوع والمجدليّة ويوحنّا الحبيب.

الثالثة أيقونة »لا تلمسيني« المأخوذة من إنجيل يوحنّا 20 حيث يظهر أمام القبر الفارغ المسيح القائم والمجدليّة وحدها.

الرابعة أيقونة »سلام لكما« المأخوذة من إنجيل متّى 28: 9 حيث يظهر المسيح الناهض من القبر واقفًا وتسجد أمامه امرأتان المجدليّة ومريم الأخرى التي هي بحسب التفسير الكتابيّ مريم أمّ يعقوب ويوسي(٦). لكنّ الأيقونة بغالبيّة نسخها تظهر مع المجدليّة والدة الإله وتكون هي مريم الأخرى المذكورة في الإنجيل إذ حسب القدّيس غريغوريوس بالاماس مريم العذراء هي أوّل من تلقى بشرى القيامة لكن متّى لم يوضح ذلك لسببين: 1) لئلاّ يعرّض حياة والدة الإله للخطر و2) لئلاّ يعطي مجالاً للأثمة للاشتباه بها(٧).

أمّا الأيقونتان الفرديّتان، فتظهر في الأولى مريم المجدليّة بشعرها المنسدل حاملة في يد قارورة طيب لا لأنّها سكبت الطيب على قدميه بل لأنّها جلبته إلى القبر، وفي اليد الثانية تحمل صليبًا علامة لشهادتها من أجل المسيح.

وفي الأيقونة الثانية نجدها حاملة بيضة حمراء في عودة إلى الرواية التي ذكرناها سابقًا عن زيارتها لطيباريوس الإمبراطور.

وفي جبل الزيتون في القدس كنيسة روسيّة على اسم القدّيسة مريم المجدليّة بنيت في القرن التاسع عشر على النمط السلافيّ (القبب البصليّة) تحوي الكثير من الأيقونات الروسيّة التي تروي سيرة القدّيسة.

هكذا تعبّر الكنيسة الأرثوذكسيّة عن إكرام المجدليّة عبر الأيقونة. أمّا في الصلاة التي تقيمها الكنيسة في الأحد الثاني بعد الفصح لحاملات الطيب وفي عيد المجدليّة في 22 تمّوز فتشدّد على طهارة المجدليّة وعفّتها(٨) وذلك بالتناقض مع الغرب الذي يشدّد على خطيئتها وفسقها قبل التعرّف إلى المسيح. ويصل إكرام الكنيسة الأرثوذكسيّة إلى حدّ القول إنّ المجدليّة حافظت على عفّتها إلى أن توجّس الشرّير من أن تحمل هي في أحشائها كلمة اللَّه لذا أرسل السبعة شياطين(٩) لتسكن فيها ويمنعها من ذلك.

في الوجدان البشريّ: الفنّ، الأدب.

الشهرة التي اكتسبتها المجدليّة في فنون الغرب الذي تحلو له الخاطئات ولو تبنَ ويطيب له رومنطيقيًّا مشهد تلك التي دهنت المسيح بالطيب أو بالدموع، مردّها إلى التخالط القائم في الفكر الغربيّ منذ القرن السادس بين النساء الثلاث.

ففي الرسم والنحت تأتي مريم المجدليّة في الدرجة الرابعة بعد المسيح ووالدة الإله ويوحنّا المعمدان من حيث الكمّيّة. وتتأرجح نوعيّة اللوحات المرسومة بين التعبير عن الخبرة الشخصيّة التي عاشتها مريم بين الخطيئة والتوبة وبين الفنّ الكثير الابتذال، الذي يعتمد على الكثافة الجسديّة دون التورية. وقد حذا حذو النوع الأخير من الفنّ المرسوم الأدب المكتوب.

»مريم«، بهذا الاسم نادى المسيح الناهض من القبر المجدليّة بصوت مفعم بعذوبة المعلّم. وهي مثل كلّ نفس متلهّفة في البحث »عمّن تحبّه نفسي«، تقول »قد أخذوا سيّدي ولا أعلم أين وضعوه« و»إن كنت أخذته فقلّ لي وأنا آخذه«. ما برحت تبحث عنه إلى أن تلقّفت البشرى، وتعلّمت أنّ البحث عن حضور الربّ ولقياه لا ينفصلان عن دعوته لنا بأن نعلن لأخوته بشرى القيامة. وإذا جمع التقليد الغربيّ بالمجدليّة ثلاث شخصيّات فالتقليد الشرقيّ يدعونا إلى أن نقتفي آثار المجدليّة في ثلاث محطّات »البحث واللقاء وإعلان البشرى« من دون تململ إلى المنتهى. l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search