الموت غير الرحيم
د. ناظم باسيل
هناك وقت لنعيش ووقت لنموت، هذا ما قاله الفيلسوف. كيف نحيا هو أمر متروك لفلسفة كلّ منّا، أمّا كيف نموت. فاللَّه أعلم! الموت عدوّ الإنسان الأخير، مؤلم، هو في ضمير الشعب المؤمن شرّ لا نبتغيه ولا نطلبه وإن لا بدّ منه! »الموت هو الحقيقة الوحيدة الثابتة في هذا العالم«، وما دام هو باقيًا كذلك، فهل من الممكن، على ضراوته، أن يكون رحيمًا؟.. وكيف يكون الموت غير رحيمٍ طالما أنّ إلهنا، قاهر الموت، إله رحيم؟!
لدى إطلالات الحياة على مشارف الشيخوخة أو المرض، تواجه العائلة مع الطبيب قرارات مصيريّة جمّة في أكثر من موقف، إذ تتعلّق بأمد حياة المريض أو المسنّ، وبنوعيّتها على المدى المنظور والطويل. في هذا السياق، تتجلّى أشكال الموت غير الرحيم وصوره بإساءة معاملة المريض أو المسنّ في آخر حياته، إن عن تشدّد في الاهتمام ومبالغة في العلاج، أو عن غير احتراز وإهمال لأحوال المريض الجسديّة والنفسيّة، وهي تجلّيات لا تقلّ قسوةً وشجبًا عن الموت الرحيم. ما هو القرار الصائب في مواجهتنا المرض والموت؟؟ من يأخذه وكيف؟؟
الإهمال الجسديّ والنفسيّ موت غير رحيم:
إهمال المرضى أمر شائع حتّى في الأوساط المتديّنة، ويُقصد بالإهمال إغفال العلاج والدواء والمشورة الطبّيّة طبعًا، ولكن أيضًا إهمال حالة المرضى النفسيّة وعدم الاكتراث لمخاوفهم ومشاعرهم، ولعلّ الوجه الأكثر إيلامًا هو ذاك الذي يجتمع فيه الإهمال بوجهيه... ومن ضروب الإهمال إغفال استشارة طبيب مختصّ بالحالة المرضيّة وإجراء الفحوصات والتحاليل في أوانها، والتغاضي عن نظافة المريض وعن حالته النفسيّة والروحيّة وعن مواقيت المراجعات الطبّيّة...
أمّا عن الإهمال في العناية بالمسنّ، فحدّث بلا حرج... إذ من غير المقبول أن يُترك مسنّ من دون دواء أو اهتمام أو معاينة طبّيّة دوريّة قد تقيه مخاطر الحوادث المميتة كالجلطات والتعرّض للكسور والنزف، ومن غير الإنسانيّ أيضًا أن يبقى عرضةً لسوء التغذية وسوء النظافة، سيّما متى كان غير قادر جسديًّا على أداء وظائفه اليوميّة.
لا يظنّن أحد أنّ إهمال المسنّ لا يأتي من أقربائه وعائلته أو حتّى من المؤسّّسة المولجة بالاهتمام به، بل غالبًا ما يأتي من أقرب مقرّبيه! من هنا، إهمال علاج المسنّ أو عدم مداواته أو عدم نقله إلى المستشفى عند الحاجة أو استدعاء طبيب لمعاينته وتقويم حالته الصحّيّة هي أكثر وجوه الموت غير الرحيم شيوعًا، وإن في مجتمعنا المتديّن! أمّا أكثر الحجج شيوعًا - وهي طبعًا حجّة باطلة - فهي التذرّع بالمشاكل المادّيّة وضيق الحال الذي يمنع استدعاء الطبيب أو دخول المستشفى لأنّ في الأمر كلفة! أو التعلّل بعلل الخطايا - بأنّ حالة المريض الصعبة تستدعي إراحته من عذاب إطالة أمد التداوي وتلافي العلاجات حتّى تلك التي تقتصر منها على المضادّات الحيويّة الضروريّة أو مسكّنات الألم التي تقيه ألم الموت البطيء! ألا يُفترض بالمؤمن أن يعي أنّ الإهمال بحجّة شحّ المال وقلّة الموارد أو بعلّة عدم تعذيب المريض هو خطيئة مزدوجة، وجريمة مزدوجة، إذ يفضح كسل مرتكبها عن السعي الصادق الدؤوب في حفظ الأمانة المسلّمة إليه من الربّ، أي المريض، كما يعكس توانيه وتكبّره في استغنائه عن طلب المساعدة ممّن يستطيع، أو في ولوج باب المؤسّّسات والمستشفيات الحكوميّة أو المستوصفات الخيريّة المجّانيّة وغيرها؟
يا جماعة! لا يكفي أن نسلّم المريض أو المسنّ لدار عناية متخصّص أو لمستشفى، لنبرّئ أنفسنا من القتل غير الرحيم! فالتقصير في الزيارة وفي الاستفهام والاستعلام والرقابة والمتابعة والاهتمام والصلاة معه ولأجله هي أيضًا من صور التسبّب بالموت غير الرحيم...
إهمال المسنّ قد يكتسب أيضًا طابعًا نفسيًّا-سلوكيًّا كسوء معاملته وعدم مشاركته أو الأخذ برأيه في أدنى الأمور، أي باختصار، يتجلّى الإهمال في كلّ عمل سلبيّ أو إيجابيّ من شأنه تعنيف المسنّ أو تغييبه أو معاملته كمائتٍ قبل أوانه!
الإهمال »تمويت« إيجابيّ، وسلبيّ أيضًا، يضرب نفس المريض وجسده في آن، ويضرب بالمريض عرض الحائط إذ ينزع عنه كرامة الحياة ويحرمه من محبّة الآخر التي قد تكون له دواء، أو قد تغنيه أحيانًا عن دواء...
المالبغة الطبّيّة في التداوي والعلاج موت غير رحيم:
مواقف كثيرة تعبّر عن أنانيّتنا ونظرتنا الخاطئة إلى الحياة، إذ قد يدفعنا رفضنا الواقع وتعلّقنا الغريزيّ بالمسنّ أو المريض إلى حدّ المبالغة في ابتغاء العلاجات والسعي وراءها، فيما نلغي إرادة المريض صاحب الشأن ونجرّه الى دوّامة التداوي والتتطبّب التي قد لا يتحمّلها جسده المريض أو نفسيّته المثقلة بالأتعاب... المبالغة في العلاج، كالإهمال على حدّ سواء، تؤذي المريض بدلاً من أن تعافيه أحيانًا، أو أنّها قد تطيل عمره إلى أجل محدود، فيما تكبّده بالمقابل آلامًا نفسيّة وجسديّة تجعل من العمر الزائد همًّا ووجعًا وقلقًا وثقلًا لا راحة وفرحًا ومشاركة.
من الوجوه العمليّة للمبالغة أن تتراكض العائلة ابتغاءً للمشورات الطبّيّة من كل حدب وصوب، أو أن تجرّب كلّ جديد وقديم من ضروب التداوي، أو أن تسعى إلى إطالة عمر المريض بعمليّات جراحية تعقّد حياته وحياة العائلة من دون أن تقدّم لهم شيئًا يذكر، كبعض حالات التغذية من البطن والتنفّس الاصطناعيّ والإنعاش وغيره...
لا بدّ من أن نفهم، في هذا السياق، أنّ التعلّق المرضيّ بالمريض لا يريحه ولا يعافيه، بل إنّه، وإن زاد في أيّامه كمًّا، يلقي في القلق والألم من يبالغ في العناية كما ومن يتلقّاها على حدّ سواء، وفي ذلك خسارة للطرفين!
المبالغة في توخّي العلاج والتداوي هي موت مؤلم وبطيء قد لا يقدّم للمريض ولأهله أيّ تعزية، كما أنّه قد لا يقيهم شرّ التداعيات الآتية بفعل العوارض الجانبيّة السلبيّة للعلاجات وتعدّد الأدوية سيّما متى نتجت من عدم تنسيق عن قصد أو عن غير قصد بين الأطبّاء، كلّ بحسب اختصاصه..
المريض وديعة في يد الطبيب وأمانة حيّة، إذ يقع على عاتقه واجب المحافظة على صحته النفسيّة والجسديّة والروحيّة بالتشاور والتنسيق مع العائلة، سيّما متى كان المريض غير قادر على اتّخاذ القرارات المختصّة به. ومن المؤسف أن تتدخّل العائلة في قرارات المريض، غالبًا بدون علمه ورضاه، رغم قدرته العقليّة الكاملة على اتّخاذ القرار، لا لشيء إلاّ لكونه ضعيفًا جسديًّا! هذا لا يعني طبعًا أنّه يجب إحاطة المريض علمًا على الدوام بكلّ تفصيل طبّيّ دقيق متعلّق بحالته، ففي بعض الأحيان من دواعي احترام إرادة المريض ألاّ يُحاط علمًا بكلّ تفاصيل حالته أو بعضها، سيّما إذا كانت حالته النفسيّة لا تسمح بذلك. بالمقابل، المريض القادر والراغب في اتّخاذ القرار هو إنسان حرّ تمامًا كالإنسان الصحيح الجسم والعقل، ويجب أن نشركه في كلّ القرارات المتعلّقة بصحّته ومصيره مع ضرورة إحاطته بالعناية والدعم اللازمين من الناحية الجسديّة والنفسيّة والمعنويّة والروحيّة والإنسانيّة.
يبقى أنّه من حقّ المريض أن يموت أيضًا، أن ينتقل إلى وجه ربّه بما له من كرامة وبأفضل طريقة ممكنة، سيّما إذا كان الطبّ البشريّ لا يقدّم له شفاءً أو علاجًا يحسّن في نوعيّة حياته، ولا يطيلها الى أجلٍ فحسب، هذا لا يعني على الإطلاق أنّ الموت الرحيم مقبول، إلاّ أنّه يعني أنّ الموت السلاميّ قد يكون أحيانًا أرحم للمريض من التداوي المؤلم الذي لا يقدّم له حياةً محترمة كمًّا ونوعًا.
بعد شجبنا كلّ أنواع التدخّل في الموت، الرحيم منه أو غير الرحيم، نتساءل أخيرًا، هل من المفترض بالموت أن يكون رحيمًا؟ نعم، لأنّ الهنا إله رحيم! ولأنّنا بالموت الذي ارتضاه الربّ لنفسه- ننتقل إلى »الرحمة«، إلى رحمته تعالى... ما هو القرار الصائب إذًا؟
القرار الصائب هو ذاك الذي لا نبتغي بالضرورة عبره أن نحقّق مشيئتنا الذاتيّة، أو مصلحتنا المادّيّة والمعنويّة، أو أن نفرضها على المريض الواعي أو غير الواعي، أو على محيطه وعائلته، كما والذي لا نهدف به إلى إرضاء المجتمع فحسب، إذ إنّ الاعتبار الأهمّ هو أن تتماشى قراراتنا مع مشيئة اللَّه، وألاّ تتعارض مع الكرامة الإنسانيّة وحقّ المريض والمسنّ الواعي في ممارسة حرّيّته المقدّسة التي يذهب بها إلى الأبديّة ذهابًا جميلاً مريحًا محفوفًا بالمحبّة التي يحاكي بها من خدمه اللَّه نفسه، المزمع على استقباله في المقلب الآخر بالرحمة والمحبّة الكاملة التي يصبو إلى الاتّحاد بها كلّ حيّ.
نعم! الاهتمام بالمريض والمسنّ صعب جدًّا. نعم! المحبّة مكلفة جدًّا جدًّا، فهي قد لا تستدعي صرف المال والوقت فحسب، بل تستدعي أحيانًا بذل النفس حتّى الأخير، تمثّلاً بمحبّة السيّد.
القرار الصائب هو قرار »ثالوثيّ« يتمّ بالمشاركة وبالاشتراك بين العائلة والطبيب واللَّه! وهو لا يأتي إلاّ بمحبّة المريض وبالكثير من الصلاة لأجله!l