2015

4. دراسة كتابيّة: "هلمّ أيّها الروح من الرياح الأربع" (حزقيال ٣٧: ٩) - د. نقولا أبو مراد – العدد الثالث سنة 2015

 

 ‫  هلمّ أيّها الروح من الرياح الأربع

نقولا أبو مراد

 

نبيّ الروح هو حزقيال. يبدأ كتابَه بـ»عنصرة« غريبةٍ، في أرض غريبةٍ، وفي توقيتٍ غريبٍ. لا نعرف، ولن نعرف إلى أيّ حدثٍ يشير عندما يقول، »في السنة الثلاثين، في الشهر الرابع، في الخامس من الشهر« (1: 1). نعرف فقط أنّه لم يكن هناك أيّ قوام سياسيّ ودينيّ لليهود، »في الخامس من الشهر، وهي السنة الخامسة من سبي يهوياكين الملك« (حزقيال 1: 2). ولكنْ، رغم السبي، أو مع السبي، وخارج الأطر الدينيّة التي جُعِل فيها اللَّه في مملكة يهوذا الساقطة، خارج الهيكل الذي بُنيَ له، والكهنوت الفاسد الذي فُرِضَ عليـه، وبعيدًا عن إثم المدينة، التي ادّعت اتّباعه، التي »خالفت أحكامي بأشرّ من الأمم، وفرائضي بأشرّ من الأراضي« (حزقيال 5: 6)، ظهر الربّ لحزقيال في »ريح عاصفة... سحابة عظمة ونار متواصلة، وحولها لمعان ومن وسطها كمنظر النحاس اللامع من وسط النار« (حزقيال 1: 4). في العبريّة، كما في العربيّة، لا فرق بين الريح والروح. عبـارة واحـدة، تشير إلى ما لا قدرة لك على السيطرة عليه، أو القبـض عليه، أو التحكّم بهبوبه ومسيره وشدّته. »إلى حيث يكون الروح ليسير«، تسير المركبة ذات الوجوه الأربعة التي رآها حزقيال. لا يعرف متى يسير، وكيف يسير، وإلى أين يسير، بل »إلى حيث يسير الروح كانت تسير إلى حيث الروح ليسير« (حزقيال 1: 20). في حركيّة الروح هذه، التي باتـت، بعد غياب كلّ قطب، قطبَ كلّ شيء، كان مجد الربّ، وكان الربّ يتكلّم. في هذا كسرٌ للنظم الإنسانيّة التي حدّت اللَّه في أطرـ إذ أسهل على الناس أن يكون اللَّه في إطـارٍ، كلاميًّا كـان، أو جغـرافيًّا، أو تاريخيًّا، أو سلوكيًّا، لعلّهم يبرّرون ذواتهم. غير أنّ اللَّه في حزقيال، في روحه العاصف وحدّة النار، يستعيد حرّيّة مطلقة، ليختارَ هو، لا عابدوه، زمنَ ظهوره، ومكان ظهوره، ومتكلّميه، ونوعيّة كلامه.

في هذا اليوم، يتكلّم اللَّه إلى حزقيال »بالروح«، ولن يفهم حزقيال الكلام إلاّ »بالروح«، »فقال لي يا ابنَ آدمَ قم على قدميك فأتكلّم معك، فدخل فيّ روح لمّا تكلّم معي، فسمعت صوتَ المتكلّم معي« (حزقيال 2: 1). في حرّيّة الكلام الذي سيكون للَّه من اليوم فصاعدًا، لن يُسمَع إلاّ بالروحِ، أي بلا توقّع لما سيقول، باستعداد كامل، مطلق لأن نسمعه ونصغي إليه ونطيعه، حين يقول ما يقول. هنا »ينزّل« اللَّه على حزقيال كتابًا، دُرجًا، سفرًا، أي »كتابًا مقدّسًًا«، يطعمـه إيّاه، يأمـره بألاّ يتكلّم إلاّ بمـا فيه، غير أنّ ما فيه إنّما هو »مراثٍ ونحيب وويل« (حزقيال 2: 10) على أمّة متمرّدة، لا تشاء أن تسمع له، بل إلى ما سوى نفسها لا تسمع. ألعلّهم كتبوا كتابه بما يرضيهم، أو سمعوا فيه ما يبرّرهم ويعلّيهم؟ أو قـرأوا فيه تزكيتَهم؟ ألعلّ كهنتهم قدّسوا أنفسهم به وهم صانعو مكرهات ورجاسات، وعبدة أصنام؟ لكي يعرف حزقيالُ الجوابَ، رفعه الروحُ إلى باب الهيكل الشرقيّ، المتّجه نحو الشرق وأراه الكهنة والرؤساء وهم في تفكيرهم الأثيم، ومشورتهم الرديئة (حزقيال 11: ١- ٣)، وأراه شيوخهم وهم يعبدون الرسومات والأصنام التي جعلوها على حائط قدس أقداس الهيكل (حزقيال 8: ٥- ١٢)، وفي المشهدين ثمّة على رأس الشيوخ والرؤساء وفي وسطهم مَن اسمه »يازنيا«، وفي العبريّة تجانس لهذا الاسم مع لفظة »زنى«. عندما تبادر إلى ذهن الناس أنّ »الربّ لا يرانا« (حزقيال 8: 12)، »لم يشدّدوا يد الفقير والمسكين، وتكبّروا، وعملوا الرجس«، و»شبعوا من الخبز وسلام الاطمئنان« (حزقيال 16: ٤٩- ٥٠). غير أنّهم حسبوا بناء هيكلٍ ضخم منّة لهم على اللَّه. وظنّوا أنّ العبادة وطقوسها الشكليّة الفارغة هي اتّباعُه، فيما هم في هذا، لا يعبدون إلاّ صنميّتهم، شهوتهم، كبرياءهم، نظرتهم إلى إلهٍ صنعوه في فكرهم والرغائب. غير أنّ الربّ الذي شاء أن يظهر لحزقيال »بالروح« هدم الهيكل، كسر الكهنوت وكلامه والرئاسات وسلطانها، أزال العبادة، والمعنى أنّ كلّ هذا سقط أمامه، أصبح كلا شيء، وهو لا شيء. أخذ من الناس الصنم الذي نصبوه له، صنم الشكل، والكلام، والفعل، والتفكير، ورماه في هوّة اللاشيئيّة. قال للناس، لست إله أبنيتكم الحجريّة، أو طقوسكم، أو أعيادكم، أو تقدماتكم، أو بلدانكم، أو ملوككم، أو جيوشكم، أو حروبكم، بل أنا الإله الذي أوصاكم بأن تحبّوا القريب كأنفسكم (لاويّين 19: 18)، وألاّ تنتقموا وتحقدوا بل أن تجروا العدل بين الناس، ولا تظلموا الغريب واليتيم والأرملة ولا تسفكوا دمًا زكيًّا ولا تسرقوا ولا تقتلوا ولا تزنوا (إرميا 7: 6).

وكما مات آدمُ لمّا شاء أن يكون سيّد حياته من دون اللَّه، هكذا غدا الشعب عظامًا يابسة لا حياة فيها. غير أنّ اللَّه الذي كان »روحه« يرفرف على المياه الطاغية والذي جعل من الأرض الخربة الخالية خليقة حسنة جدًا، يعود بـ»روحه« هذا فيخلق من العظام الرميم حياةً كما يشاء، ويجدّد الشعب، ويقيم هو لنفسه هيكلاً كما يشاء، في مدينة يبنيها هو كما يشاء، وفي هذه الجدّة يكون هو الوسط وكلمته تفيض إلى المتحلّقين حوله وسامعي صوته ومن هناك تخرج وتملأ الأرض، فتتحوّل أورشليم من مدينة أرضيّة استولى عليها ملك وأرادها أن تكون مدينة كسائر المدن، حتّى في دينها وإلهها، إلى مدينة سماويّة غير مصنوعة بيد إنسان، هي حضور اللَّه الحرّ الدائم، وسكنى الروحِ، معلّمة الأمم كلام اللَّه، وهي بهذا تستحقّ اسمها الجديد، »الربّ هناك« (حزقيال 48: 35).

أورشليم السماويّة هذه تحقّقت يومَ الخمسين، حين »صار بغتة صوت من السماء كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كلّ البيت حيث كانوا (الرسل) جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنّها من نار واستقرّت على كلّ واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس واببتدأوا يتكلّمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا« (أعمال 2: ١- ٤). غدا الرسلُ هم، بما أعطاهم الروح أن ينطقوا، أورشليم السماويّة، حضورَ الربّ، كما غدا حزقيالُ، بالروح نفسه، حضورَ الربّ وهيكل الربّ. في المشهد تتراجع أورشليم المدينة الأرضيّة وتبهت حتّى الزوال، وكذلك الكهنوت، والرئاسات، ولا يبقى غير الرسل الناطقين بالروح وكلامهم عن يسوع المسيح الذي مات وقام وغدا حياةً للأرض كلّها، وغدت الأناجيل الرسوليّة الأربعة، بالرموز التي أعطيت لها من وجوه مركبة حزقيال، وجه إنسان، ووجه ثور، ووجه نسر، ووجه أسد، هي مركبة مجد اللَّه التي تسير إلى حيث الروح، في الجهات الأربع، أي في كلّ العالم، حيث يريد الروح أن يهبّ بين الأمم. وبدل أورشليم الأرضيّة التي كانت تقلّد الأمم في الدين والسياسة، أتت الأمم كلّها لترى في الرسل الناطقين »الربّ هناك«، أي حضور الربّ، الذين منهم خرج الإنجيل في أورشليم والسامرة وأقاصي الأرض، إذ صاروا شهودًا للذي تألّم ومات وقبر وقام في اليوم الثالث حياةً للعالم. والأمم التي تبلبلت لغاتها يومَ بنت بابلَ (تكوين 11) مدينة متكبّرة، علامة لابتعادهم عن اللَّه واكتفائهم بذواتهم، عادت واتّحدت في لغة واحدة وفهم واحد في خروج كلّ واحد منهم من بابله إلى »الربّ هناك«، ليرَ كلمة اللَّه، يسوعَ الذي شاء بموته أن يخرجنا من آثامنا إلى اللَّه في الروح، روح عنصرة لا تتوقّف. l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search