حين يهرب العيد:
تأملات في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة اليوم (١)
أسعد قطّان
لقد هرب منّي عيد الحركة هذه السنة. يمّمتُ وجهي شطر بيروت والشباب يستعدّون له. وغادرت الشرق وهم لم يعيّدوه بعد. تشاركنا في بعض صلوات الصوم الكبير، التي كثيرًا ما نفتقدها في الغرب. ثمّ تفجّرت القيامة من عتمة القبر الفارغ، فظهر الحقّ »من زوايا القبور«، كما كتب أحد الشعراء في بلادي، وسرى نسغ الربيع في عروق الطبيعة المنكمشة. كلّ هذا كان مبعثًا للتأمّل: لو تأسّّست الحركة اليوم، ماذا كان سيشغل المؤسّّسين؟
في ذكريات المطران جوج (خضر) عن تأسيس الحركة، كتب ذات يوم أنّ الشباب في الأربعينات اكتشفوا أمرين: الكلمة والكأس. الناس اليوم، بعد انقضاء نيّف وسبعين عامًا على هذا الاكتشاف، يصطفّون زرافاتٍ لتناول القرابين الإلهيّة. هذا الذوق الجديد أنّ الحياة المسيحيّة لا تستقيم إلاّ باللقاء المتواتر مع يسوع اخترعته الحركة. أمّا هاجس الكلمة الإلهيّة، فلا ريب في أنّك تلاحظه حاضرًا في أنطاكية كما لا تراه في أيّ كنيسة أخرى من كنائس العالم الأرثوذكسيّ. معظم الأرثوذكس في العالم لا يمارسون. ومَن يمارس بينهم، تشغله الطقوسيّات. هذا ليس سيّئًا بالضرورة. فالأرثوذكسيّة تقوم، بمعنَى ما، على الليتورجيا. وهذه تضطلع بوظيفة أساسيّة هي ربط المؤمنين بالكنيسة. ولكنّ هاجس معرفة الكلمة الإلهيّة، كما عبّرت عن ذاتها في الكتاب المقدّس وترسّّبت في التراث، نادر في الأوساط غير الأنطاكيّة. هو، طبعًا، قائم هنا وهناك. ولكنّي أكاد لا أعرف كنيسةً أرثوذكسيّةً يشكّل فيها هذا الهاجس حالةً في الأوساط الكنسيّة كما هو عندنا. فالأنطاكيّون يريدون أن يفهموا الكتاب والتراث حتّى ولو افتقروا، هنا وثمّة، إلى معلّمين. وهاكم بضعة أمثلة: فرقة حركيّة في إحدى البلدات السوريّة تتساءل، مثلاً، عن معنى قول السيّد للمجدليّة »لا تلمسيني«. وحين لا تجد جوابًا، تتواصل، عبر الوسائل الإلكترونيّة، مع أحد المرشدين غير المقيمين في سورية. صبيّة من جبل لبنان تحضّر لائحة بمقاطع كتابيّة صعبة، وتسلّمها إلى أحدهم طالبةً أجوبة. هذا السعي إلى الفهم لا يمكن عزوه إلى عقلانيّة مفرطة، بل هو قائم في تواصل لا ينقطع مع تقليد كنسيّ قديم. فالرهبان كثيرًا ما كانوا يدفعون بتساؤلاتهم عن مقاطع صعبة في الكتاب المقدّس إلى أحد الشيوخ العارفين، ليجيب عنها. هذا الهاجس بأنّنا نحيا من فهم الكلمة الإلهيّة ندين به لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، التي ذكّرتنا بأنّ الكنيسة، في الأصل، كنيسة تتوق إلى مزيد من المعرفة حتّى ولو لم يكن أعضاؤها كلّهم على المستوى ذاته في التضلّع من الكتب المقدّسة. فنحن إذا لم نفهم، كيف لنا أن نقوّم ذواتنا، بحيث يأتي سلوكنا منسجمًا مع إنجيل الربّ. إنّ مَن يتمعّن في هذا كلّه قد يزيّن له أنّ النهضة التي صبا إليها مؤسّّسو الحركة تحقّقت فعلاً. وهي ربّما تكون كذلك بمعنَى ما. طبعًا، لم تغزُ النهضةُ جموعَ الأرثوذكس برمّتها، ولكنّ الحركة أعانتهم على القبض على مفاتيح التجدّد، على تعبير المطران جورج (خضر). هذه الذخيرة ليست ابنة الماضي فحسب، بل هي زاد الحاضر والمستقبل أيضًا، إذ ليس ثمّة حياة كنسيّة يرضى عنها الربّ ما لم نلتصق بكأسه ونفهم إنجيله. نحن، هنا، لا نتعاطى شيئًا تمّ تحقيقه، وكفى، بل مطالبون، كلّ يوم، بأن نستلهم هذه الحياة الجديدة التي كشفها الربّ لنا عبر تجلّياته بيننا: الكلمة والكأس، هذه هي القضيّة كلّها. وهذا ما يبقي الحركيّين اليوم، وكلّ من أحبّ الربّ وطلب أن يطيعه، في تواصل وثيق العرى مع لحظة التأسيس. فالتأسيس لم يكن قيام مؤسّّسة، بل اعتلان الإنجيل بيننا.
ولكنّ هذا التواصل ذاته هو ما يقتضي منّا اليوم أن نعيد طرح السؤال عن كيفيّة ترجمة المعطيات الأساسيّة التي أتت بها الحركة في عالم اليوم. حريّ بنا أن نرصد، أوّلاً، أنّ هذا العالم بات مختلفًا، بما لا يقاس، عن ذلك الذي تأسّّست الحركة فيه في مطلع الأربعينات. يشقيني أن أسمع بعض الحركيّين يلومون الشباب اليوم، أو ينهالون عليهم بنصائح أقلّ ما يقال فيها إنّها لا تقيم وزنًا لتغيّر المجتمع والظروف والناس: »حين كنّا مثلكم، كنّا نتصرّف هكذا. لماذا لا تفعلون كذا وكذا؟ لماذا لا...؟ لماذا لا...؟«. يا »سادتي الأنبياء«، قليل من التبصّر كافٍ ليُستدلّ منه على أنّ خمسينات القرن الماضي وستّيناته ولّت إلى غير رجعة. طبعًا، أنا لا أتحدّث بالضرورة عن وسائل التواصل التي غيّرت وجه عالمنا، وإن يكن لا مناص من أخذ هذه أيضًا في الاعتبار. فإذا كان الشباب اليوم يقرأون أقلّ من الماضي (وأنا لست متأكّدًا من صحّة هذه الفرضيّة)، فلربّما يعود بعض هذا إلى أنّ طرائق التواصل تغيّرت. ولكنّ ثمّة وجوهًا أخرى للتغيّر. فالشباب اليوم، مثلاً، لا يعيشون حالة الرخاء الاقتصاديّ (النسبيّ) التي عاشتها الأجيال الأولى في الحركة في بيروت وطرابلس واللاذقيّة في الخمسينات والستّينات. وكثير منهم مضطرّ إلى المكوث وقتًا إضافيًّا في العمل حتّى يتسنّى له أن يقوم بأعباء الحياة، ولا سيّما أنّ المنافسة في مجتمع تهدّد البطالة شرائحه الشبابيّة باتت أقوى بكثير. يضاف إلى هذا أنّ الشباب مضطرّون إلى صرف وقت لا يقابل بما كان يُصرف في الحقبة »الذهبيّة«، التي يتغنّى بعضهم بها، لا في القدوم إلى مركز العمل فحسب، بل في المجيء إلى بيت الحركة، أو في الانتقال من خليّة حركيّة إلى أخرى، وخصوصًا في المدن المكتظّة بمئات الآلاف من السيّارات، كما هو الحال في بيروت ودمشق مثلاً. أمّا الطامة الكبرى التي تمهر المجتمع بدمغة لا تُمحى، فهي أنّ الشباب يعيش، منذ العام 1975، زمن اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وحتّى اليوم، زمن الحرب في سورية التي لم تنتهِ فصولها بعد، على نحو يكاد لا ينقطع، وضعًا لا يشبه في شيء، من حيث الضغط الأمنيّ والمعيشيّ واللجوء إلى العنف، الأزمنة التي تأسّّست فيها الحركة وشهدت انطلاقتها. هذا على مستوى مجتمعيّ صرف. ولكن ماذا عن المجتمع الكنسيّ؟ لقد تغيّر بدوره. ولكن، ويا للأسف، نحن في غالبيّة الأحيان نجنح إلى التقليل من شأن هذا التغيّر. أوّلاً، ثمّة مَن يتعاطى الشأن الكنسيّ وكأنّ الحياة في الكنيسة تدور في جزيرة منفصلة تمامًا عمّا يعتمل في خضمّ المجتمع من انزياحات وتغيّرات وتحدّيات. ويتوهّم هؤلاء أنّ الحياة الكنسيّة ستكون إيّاها ما عهدوه وتعوّدوه في الماضي، وكأنّ شيئًا لم يتغيّر في عقول الناس منذ تمخّض الزمن العربيّ بثورات لم تنتهِ إلى اليوم، أو ما زلنا نعاني تداعياتها وتقلّب أحوالها وصولاً إلى التطرّف الدينيّ ذي الطابع العنفيّ. وثانيًا، ثمّة نوع آخر من التغيّر هو ابن الالتفاف الذي تقوم به بعض البنى الكنسيّة المهترئة على مغامرة التجديد التي تخوضها الحركة منذ أكثر من سبعين سنة. والحقّ أنّ كثيرًا من كبارنا في الحركة، بسبب ما كانوا عليه من إيمان بأنّ الحقّ لا بدّ من أن يفرض ذاته وصدق يصل أحيانًا إلى حدّ السذاجة، لم يحسبوا حساب هذا الالتفاف الذي نشهده منذ أعوام، والذي لا يتّخذ دومًا شكل حملة منظّمة على الحركة من حيث هي مؤسّّسة، بل كثيرًا ما ينبع أيضًا من بشر مرّوا في هذه الحركة، أو كانوا محسوبين عليها، أو عملوا في صفوفها. وإذا بنا نفاجأ بأنّهم باتوا يقيمون وزنًا لاعتبارات أخرى ليست هي تلك المنبثقة من إنجيل يسوع. هذا يستدعي، بطبيعة الحال، وعيًا بأنّ الخطّ الذي ينبغي رسمه اليوم هو ليس بين الحركة كمؤسّّسة ومَن خارجها، بل بين مَن أخلص لفكر الإنجيل والمبادئ الحركيّة التي هي انعكاس له، بصرف النظر عن مكانه، ومَن عاد لا يقيم اعتبارًا لهذا الفكر أنّى يكن موقعه. كذلك يستوجب هذا الوضع تفكيرًا معمّقًا في كيفيّة ترجمة المعطى الأوّل والثابت الذي أنشأ الحركة، أي الكلمة والكأس، في ضوء هذه السياقات الجديدة. وللحديث صلة...l