الحرّيّة الأخلاقيّة والضمير
الأب يوحنّا ياسمين
أهمّ ميّزات الآداب هي الحرّيّة الأخلاقيّة. ولمّا كان مدير الحرّيّة الأخلاقيّة هو القانون الأخلاقيّ، فإنّ أداة القانون الأخلاقيّ تتمثّل بالضمير.
العالم الوثنيّ قليلاً ما تكلّم على الضمير، شيشرون وفريزي هما أوّل من استعمل كلمة ضمير، وبرأي أحد الفلاسفة: الضمير هو التذكارات عن الخير والشرّ. يقول شيشرون في الضمير ما معناه: »توجد عناصر تحرّضنا لنعيد انتباهنا لكلّ هفوة«، وهل هذه الهفوة هي ضدّ القانون؟ أم لا؟ وهنا يعمل الضمير، فإمّا يبكّت على شرّ أو يمدح بفرح يظهر على وجهه المحسن حسب أعمال كلّ فرد.
لم يتكلّم الآباء المسيحيّون، أمثال القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، في الشرق وأغوسطينوس وإيرونيموس في الغرب على الضمير إلاّ قليلاً. أمّا السكولاستيكيّون، فقد اعتبروا الضمير مدبّرًا للإنسان بوجه الخطأ. أحد الآباء الجزويت يعتبر الضمير محرّضًا للإنسان على عمل الخير، حسب الإرادة الإلهيّة. أمّا الفيلسوف »كانت« فيقول: »الضمير لا يحاكم الهفوات، وهذا من عمل العقل، فالضمير هو عقل تمرينيّ يذكّر الإنسان دائمًا بواجباته«، ويسمّيه حاكمًا داخليًّا للإنسان، والضمير لا يخطىء أبدًا حسب قول الفيلسوف كانت.
يسمّى الضمير أيضًا مشترعًا وحاكمًا ومعطي الصلاح، حسب رأي البعض، وله مكان بين العقل والإرادة. والبعض الآخر يقول إنّه صوت اللَّه في الإنسان، وهو الذي يخبرنا عن القانون الأخلاقيّ، فما هو الضمير إذًا؟
الضمير، حسب مفهوم الكتاب المقدّس، شهادة أو معرفة، هو نور داخليّ يجعلنا نرى ذواتنا على حقيقتها، وأنّ ما نسمّيه صوت اللَّه فهو كذلك، لأنّ الإنسان، لمّا ابتعد عن اللَّه، راح اللَّه يتتبّع تصرّف الإنسان وكان يناديه أحيانًا: أين أنت؟ (تكوين 3: ٨- 10). ليس الضمير قوّة نفسيّة مستقلّة، لأنّ روح الإنسان واحدة وفيها المعرفة التي تضيء كلّ المظاهر. الإرادة مصدر كلّ المفاعيل، والمشاعر صفات كلّ الأوضاع بغضّ النظر عن مصدرها.
كلمة ضمير لا نجدها في العهد القديم، بل نجد كلمة قلب، تستعمل للتعبير عن الضمير. أمّا في العهد الجديد، فقد استعملت أكثر من ثلاثين مرّة. السيّد عندما تكلّم على العين الداخليّة عنى بذلك الضمير، يوحنّا اللاهوتيّ، وبطرس وبولس كثيرًا ما استعملوا كلمة ضمير، (الرسالة الأولى ليوحنّا 3: 20-21)، (بطرس الرسول في رسالته الثانية 2: 19)، و(رومية 13: 5).
الضمير له صلة وثيقة بالإيمان، وهدف البشارة المحبّة من كلّ القلب والضمير الصالح والإيمان الحقيقيّ (١تيموثاوس1: 5) والضمير الطاهر حافظ أسرار الإيمان.
الحرّيّة الأخلاقيّة:
قال سولوفيوف أحد الفلاسفة الكبار: إنّ أهمّ شيء في الإنسان هو الحرّيّة الأخلاقيّة أو الإرادة الحسنة، وكل ما يقال عن القانون الأخلاقيّ، والشعور بالواجب، والضمير لا قيمة له إذا لم يملك الفرد الإرادة. كلّ الهفوات أو الحسنات لها أهمّيّة عندما يعترف بها. فالحرّيّة الأخلاقيّة هي العنصر المهمّ في حياة الفرد للحصول على الكمال الأخلاقيّ.
نريد الكلام على حرّيّة الإنسان أيضًا لا على حرّيّات أخرى وبمفاهيم ثانويّة، مثال حرّيّة الحيوان أو الطير الذي يذهب حيث يشاء، أو حرّيّة المياه التي تنساب كما تشاء. كلّ هذه الحرّيّات طبيعيّة، وحرّيّة الإنسان شغلت آراء العلماء والمفكّرين، فمنهم من أقرّها، ومنهم من حدّدها. فالبعض عدّها مقيّدة ببعض متطلّبات الإنسان الضروريّة. و بعضهم قال عنها مقيّدة نسبيّة.
يقولون إنّ الإنسان يعمل ما يريد فقط، ولكن هذا غير صحيح إلى درجة ما. فإن تمّ ذلك، يكون لبعض الضروريّات والمتطلّبات الحاضرة إلزامات تلزم الإنسان أن يعملها.
يعلّمنا الكتاب المقدّس أنّ الإنسان يملك الحرّيّة الأخلاقيّة التي تجعله يعمل ما يشاء حسب صوت الضمير. وأن الإنسان، كان يملك، في البدء، كامل الحرّيّة، ولكن بعد الخطيئة وجد الشرّ الذي طغى على عمل الحرّيّة وسعى إلى تغيير اتّجاهها، وكلّ منّا مدعوّ إلى مقاومة هذا الشرّ.
يستطيع الإنسان أن يحدّد مكانه الأخلاقيّ حسب إتمامه الوصايا الإلهيّة. فالحرّيّة الشكليّة أعطيت للإنسان، ولكنّه مال عنها إلى جهة الشرّ منذ حداثته، فقايين قتل أخاه هابيل، ولم يجد رادعًا أو قانونًا يجعله يعتبر القتل عملاً شرّيرًا. يترك اللَّه للإنسان حرّيّة الاختيار إمّا الحياة وإمّا الموت (تثنية 30: 15- 19). أمّا العهد الجديد، فأرجع للإنسان الحرّيّة الأساسيّة إنّما بشرط الحفاظ على الإيمان والمحبّة والأعمال، وأعاده إلى طريق الخير (يوحنّا 8: 32- 36). والإنسان، في الإنجيل، يصبح مؤهّلاً لعمل الخير، فالحرّيّة أعيدت للإنسان نتيجة دفاعه ضدّ القوى الشرّيرة. والتغلّب عليها بفضل نعمة السيّد المسيح، وعمل الفداء كما جاء واضحًا في مثل الابن الشاطر.
رجوع الحرّيّة الشكليّة إلى الإنسان التي أضاعها في السقوط، أصبح ممكنًا في جهاده الدائم ضدّ الخطيئة بمساعدة النعمة الإلهيّة. هذا الجهاد يقرّر مصيره الفرد، لأنّ الخير والشرّ لهما مصدر أساس في حرّيّتنا، فإن بقي فينا يكون ذلك بملء إرادتنا، وليس لأحد أيّ تدخل في هذا، (المجمع المسكونيّ السابع). فإذا سار مزاجنا وإرادتنا متّفقين مع القانون الأخلاقيّ، فالنتيجة تكون الأعمال الصالحة والخير، وإذا عاكس القانون الأخلاقيّ، فعمل الشرّ والعيب تكون النتيجة.
يرى آباء الكنيسة في مفهوم الصلاح تعبيرًا مسيحيًّا محضًا، ففي الصلاح يظهر ميل بشريّ دائمًا في النفس نحو إتمام القانون الأخلاقيّ بمساعدة النعمة الإلهيّة. فالخير هو دائمًا حسب إرادة اللَّه، والشرّ ضدّ هذه الإرادة. القدّيس يوحنّا السلّميّ يقول في هذا الصدد: »المسيحيّ هو ذاك الذي يقلّد المسيح بأقواله وأعماله وأفكاره قدر المستطاع، لأنّ الصلاح هو الابتعاد عن كلّ ممنوع« (يوحنّا 3: 18- 21). l