يوميّات قبرصيّة
الأب نايف (إبراهيم إسطفان)
سمعتُ عن قبرص الكثير، وقرأت عنها في أهمّ المراجع. أعرف عن قبرص عبر مطالعة الكتاب المقدّس، وما سمعته أنّ معاوية في زمن الفتح وكان في لاذقيّة العرب حيث قال »كيف لا أفتح قبرص وأكاد أسمع صياح الدِّيكَةِ منها«. وما سمعته أيضًا إبّان الحربين العالميّتين، وهروب الناس إلى ما وراء البحار، كان إذا مات أحدهم في البحر يدفنونه في قبرص إذا كان قريبًا منها. وسمعت أيضًا أنّ العديد من العائلات الأرثوذكسيّة فيها نزحت عنها واستوطنت سواحل سورية ولبنان، وأعرف أيضًا أنّ العديد من مطارنة الكرسيّ الأنطاكيّ تحدّروا منها، ولكن شتّان ما بين القراءة والمشاهدة.
كانت المرّة الأولى التي وَطِئَتْ بها قدماي أرض قبرص عشيّة السبت في ١/١١/٢٠١٤ بمعيّة سيّدنا باسيليوس (منصور) المدعوّ إلى هناك لإلقاء محاضرة، لأنّ الأبرشيّة المضيفة قد نظّمت أسبوعًا ثقافيًّا لمناسبة مرور أربعين سنة على تقسيم قبرص. وصلنا مساءً إلى مطار لارنكا، وإذا بسيّارة فارهة أرسلها راعي الأبرشيّة المطران باسيليوس (كاراينّس)، لكي تُقلّنا إلى فندق »ساحل الجزيرة«، أفخم المرافق السياحيّة في قبرص. لنلتقي بسيادته صبيحة الأحد في 2/١١/٢٠١٤ في القدّاس الإلهيّ. وفي اليوم التالي انطلقنا إلى دار المطرانيّة في باراليمني المحاذي للكنيسة حيث استقبلنا راعي الأبرشيّة مع لفيف من الإكليروس ببشاشة وترحاب. جموع غفيرة جاءت للصلاة، كهنة الأبرشيّة بِحِلَلِهم الكهنوتيّة مع الشمامسة يحفّون بسيادته، وكان القدّاس الإلهيّ كما أسلفت لمناسبة مرور أربعين سنة على تقسيم قبرص، وقد مثّل وزير الثقافة رئيس الجمهوريّة مع عدد من الشخصيّات الرسميّة والعسكريّة. كان الشمامسة والكهنة مع السادة الأحبار يؤدّون دورهم أثناء القدّاس الإلهيّ كعقارب الساعة بانتظام وهدوء واحترام. وعند نهاية القدّاس الإلهيّ انطلق الجميع لافتتاح معرض الكتاب المجاور للكنيسة مع قرع الأجراس في مشهد مهيب لم أرَهُ في حياتي. وأُلقيت خلال الافتتاح بعض الكلمات، وفور الانتهاء دعانا سيادته إلى حفل غداء على شرف سيادة مطران عكّار.
المكان الذي تقع فيه دار المطرانيّة يضمّ ثلاث كنائس. كنيسة القدّيسة حنّة يعود بناؤها إلى القرن الرابع عشر، وكنيسة القدّيس جاورجيوس القديمة يعود بناؤها إلى القرن الثامن عشر وكنيسة القدّيس جاورجيوس الحديثة يعود بناؤها إلى السنة ١٩٦٣. ويصلح أن أقول إنّه كلّما كبُرت الرعيّة بالسكّان كثُرت الكنائس بالعمران والإيمان.
بعد قيلولة الظهيرة انطلقنا من الفندق إلى الكنيسة لإقامة صلاة الغروب والانطلاق بعدها في مسيرة حاشدة في شوارع المدينة احتفاء بنقل رفات القدّيس جاورجيوس من آسيا الصغرى إلى مسقط رأسه اللدّ في فلسطين. كانت المسيرة مهيبة، حامل الصليب يتقدّمنا ثمّ الفرقة الموسيقيّة فالشمامسة والكهنة فالمطارنة ثمّ الشعب. تارةً تدقّ الفرقة الموسيقيّة وطورًا ينطلق المرتّلون بالصلاة. دامت المسيرة حوالى نصف الساعة، بعدها قبّل الجميع أيقونة القدّيس جاورجيوس التي طافوا بها. بعد الانتهاء انطلقنا إلى منزل عائلة رئيس البلديّة المتوفّى لإقامة القدّاس الإلهيّ لراحة نفسه، ولنتناول لقمة الرحمة عن روحه وتعزيتهم. بعد تعزية أولاد رئيس البلديّة، دعينا إلى العشاء، بعدها عدنا إلى الفندق مساءً. رئيس البلدية هذا كان مؤمنًا جدًّا ومعطاءً ومحسنًا للجميع، فقد قدّم دارًا للمطرانيّة لتستعمله في خدمة الرعيّة، سمّاه صاحب السيادة بالواهب الكبير.
في صبيحة يوم الإثنين، انطلق سيّدنا باسيليوس إلى الكاتدرائيّة لإقامة القدّاس الإلهيّ لمناسبة ذكرى نقل الرفات. لا وجود للفراغ في الكنيسة، لقد امتلأت بالمؤمنين. هدوء، خشوع، لقد حضر راعي الأبرشيّة من دون أن يبدّل ثيابه. فور الانتهاء انطلقنا بدعوة من الرعيّة إلى الغداء في مطعم تراثيّ، لفت انتباهي وجود بعض الأدوات التراثيّة كالجاروش والنورج والمحراث، فقلت في نفسي إنّ قبرص باب الشرق. وفي الساعة السابعة مساء، حان وقت المحاضرة لسيّدنا باسيليوس، بحضور حشد كبير من المؤمنين، ألقاها باليونانيّة تحت عنوان »الاضطهادات في التاريخ« قوطعت مرارًا بالتصفيق الحادّ وهو إذا تكلّم أفاد وإن تحدّث أجاد. دعانا سيادة راعي الأبرشيّة بعدها إلى العشاء.
في اليوم التالي الثلاثاء في ٤/١١/٢٠١٤ آخر أيّام الزيارة، قمنا بزيارة لارنكا حيث كنيسة القدّيس أليعازر الرباعيّ الأيّام، المبنيّة السنة ٨٥٠م. تقدّسنا بزيارتها. ولفتني أمران، أوّلهما أنّ جمجمة القدّيس أليعازر الرباعيّ الأيّام ما زالت محفوظة في صندوق، وثانيها وجود نواويس حجريّة عدّة تحت الهيكل وبعضها محطّم، ثمّ تابعنا سيرنا إلى دير جبل الصليب المطلّ على لارنكا. بنظري إلى الدير في أساسه قلعة رومانيّة، قال لنا أحد الرهبان إنّ الدير قائم على معبد وثنيّ وفي السنة ١٦٨٣م جاء الرهبان وسكنوا فيه، على كلّ آثاره تدلّ على قِدَمه. يضمّ الدير أربعين راهبًا وهم مشغولون اليوم بقطاف الزيتون ولحسن حظّنا تشرّفنا بتقبيل يد رئيسه الأرشمندريت أثناسيوس الذي ناف على التسعين من عمره. هناك وثائق محفورة على الأحجار ترقى إلى زمن القدّيسة هيلانة السنة ٣١٣م. يوجد في الدير مطاحن حجريّة وأعمدة وجواريش ومحادل وغير ذلك من الآثار. تركنا الدير لوداع راعي الأبرشيّة، ثمّ انطلقنا إلى لبنان طالبين السلامة بإذن اللَّه.
صور عديدة نوّرت مخيّلتي في هذه الرحلة المباركة، لقد أكََلَت الغيرةُ أهل قبرص في حبّ بيت اللَّه، أصلّي لكي تأكلنا الغيرة نحن الأنطاكيّين أيضًا. أودّ في الختام أن أقول إنّ اللَّّه لا شريك له في قبرص في كلّ الأيام بخاصّة في الآحاد والأعياد.
سأبارح ربوع قبرص وقد تركت فيها أشياء من نفسي وجوارحي وفؤادي وعسى أن أعود ثانية لنلتحم من جديد ونسبّح الربّ في كلّ حين.
ستبقى كنيسة قبرص القلعة الأرثوذكسيّة المحصّنة، والقلعة الحصينة تحمي من حولها. أسأل اللَّه أن تزول الشدّة عن كنيسة أنطاكية التي تعاني ما تعاني من آلام.l