هيرودوس الكبير
د. جان يازجي
والده أنتيباتر الأدوميّ، والدته قبرودس ابنة ملك عربيّ (نبطيّة على الأرجح).
الأدوميّون هم من نسل عيسو بن إسحق، عاشوا في المنطقة الواقعة إلى الجنوب من فلسطين نحو الشمال من الجزيرة العربيّة. غزا بلادهم يوحنّا هركانس المكّابيّ، وأجبرهم على اعتناق اليهوديّة وممارسة الختان. ورغم هذا كان اليهود ينظرون إلى الأدوميّين بعين الريبة، ويدعونهم »أنصاف اليهود«.
المرجّح عن هيرودس أنّه وُلد نحو العام 73 ق.م.، والده أنتيباتر الأدوميّ، كان واحدًا من رجال القصر، وعندما نشب الخلاف بين أرستوبّولس ويوحنّا هركانس الثاني، الذي حكم بين ٦٣-٤٠ ق.م.، تدخّل أنتيباتر إلى جانب يوحنّا هركانس، مُدخلاً الذراع الرومانيّة الناشئة في ذلك الوقت إلى قلب الصراع على السلطة، ففصل الرومان في النزاع إلى صالح هركانس وقضوا على استقلال اليهود نهائيًّا.
إذًا، تربّى هيرودس في البلاط، وتشرّب حنكة أبيه ودهائه، وميله إلى الاستقواء بالحكم الرومانيّ. وقد استفاد من متغيّرات الأوضاع السياسيّة في روما: الانتقال من يوليوس قيصر إلى أغسطس قيصر، والصراع مع كليوباترا في مصر وفلسطين، فانتزع اعترافًا من أغسطس قيصر كملك لليهود، وإفساح المجال له للتوسّّع شرقًا، ونحو الشمال الشرقيّ من بحر الجليل (الجولان وحوران).
قام هيرودوس بتشييد مدن عدّة وتجديد مدن أخرى كالسامرة، وأعاد بناء الهيكل في أورشليم ووسّّعه، حيث بدأ العمل فيه في العام 20 ق.م.، ولم ينتهِ هذا العمل إلاّ في عهد الحاكم الرومانيّ ألبينيوس (٦٢-٦٤)م. كذلك بنى في أورشليم قلعة أنطونيا، كما بنى مدينة قيصريّة على البحر المتوسّط، وأجرى فيها ألعابًا سنويّة ومسرحًا. وفي قيصريّة فيليبّس (بانيون) شيّد معبدًا لروما وللأمبراطور، وأقام حصونًا عديدة في مختلف أنحاء المملكة لمنع الثورات.
سُمّي هيرودوس الكبير (العظيم the great) لا بسبب شخصيّته القويّة، بل بسبب سياسته الملتوية، التي استفادت من كلّ الظروف، وبسبب نشاطه العمرانيّ وفخامة مُلكه، بالإضافة إلى أنّه حكم رعاياه بيد من حديد، فيقول يوسيفوس إنّ هيرودوس كان يلبس ثياب مواطن عاديّ، ويختلط بالجماهير ليعلم ما يقولون عنه، وأيّة مؤامرة كانت تقابَل بسرعة وشدّة بالغة.
يُلخِّص يوسيفوس سياسة هيرودوس فيقول: »لقد ضمن خضوع الشعب بطريقتين: الخوف إذ كان عنيفًا في عقابه، وإظهار العطف الشديد في حالات الأزمات«.
في العقد الأخير من حياته أصبح أكثر توتّرًا، وصعبَ التعاملُ معه إلى حدّ أنّه أمر بقتل ابنه، ونصلُ معه إلى مذبحة أطفال بيت لحم التي أمر بها في آخر حكمه. كما توصّل إلى أنّه دعا وجهاء الأمّة لمقابلته في أريحا، عندما أحس بدنوّ أجله، فلمّا جاؤوا أمر بحبسهم في ميدان السباق، وبقتلهم جميعًا في لحظة موته، ليكون هناك نوح عامّ عند موته، لكنّ هذا الأمر الفظيع لم ينفّذ. مات هيرودوس الكبير في 4 ق.م.
هيرودوس الكبير من وجهة النظر المسيحيّة:
وُلد الربّ له المجد بالجسد في عهد الملك هيرودس الكبير نحو العام ٧-٦ ق.م.
١- هيرودوس الأدوميّ نال المُلك باعتراف سلطة روما، وتنصيبٍ من قيصر »أغسطس«، فهو لم يكن عبرانيًّا، أي لم يكن بأيّ شكل ممّن يحقّ لهم التملّك على »شعب اللَّه«. ونصّبته ملكًا سلطةٌ ليست بأيّ حال سلطةً مُعبّرةً عن إرادة الربّ.
٢- نُصِّب ملكًا على اليهود، ولملك اليهود سمة ومعنى خاصّان يرتبطان بكون اليهود »شعب اللَّه«. يرتبط هذا الشعب بالربّ بشريعة واضحة ورجاء واحد بوعد واضح: »أتّخذكم لي شعبًا وأكون لكم إلهًا« (خروج 6 : 7).
٣- عُرف عنه حبّه للمظاهر والفخامة وأشكال القوّة والمجد العالميّ.
٤- عُرف عنه ميله الوثنيّ الهيلّينيّ.
٥- دهاؤه السياسيّ وقسوة قلبه جعلاه مثالاً واضحًا عن رجلٍ تحرّكه أهواؤه.
٦- كان حكمه دمويًّا منذ بداءته وحتّى نهايته. لم يوفّر في ذلك عدوًّا أو صديقًا أو قريبًا.
٧- يقف هيرودوس مقابلاً واضحًا ومعاكسًا للتمجيد الإلهيّ الذي أعلنه الملاك للرعاة: المجد للَّه في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة.
٨- ظهر هيرودوس معاديًا لمخطّط اللَّه عبر بحثه عن الطفل يسوع ليقتله، فقط، لأنّه دُعي »ملك اليهود«.
سأحاول في هذا البحث أن أظهر دور هيرودوس الكبير أداة للشيطان ورمزًا له، يمكننا الاستفادة منه دائمًا لتمييز عمل إبليس في العالم.
صفات الشيطان:
الشيطان هو المعاند والمقاوم والمشتكي. والشيطان »رئيس هذا العالم« (يوحنّا ١٢: ٣١)، يقيم مُلكه دائمًا إزاء ملكوت اللَّه (يوحنّا 15 : 18- 19). ويحاول دومًا استخدام ما يمكنه معلنًا سلطانه على الخليقة بدلاً من اللَّه.
ويظهر هيرودوس متمّمًا جميع هذه الصفات، نرى ذلك عند دراسة تطوّر إعلانات الدولة الرومانيّة عن نفسها، وتدرّجها نحو أمبراطوريّة تشمل العالم »المتحضِّر المعروف«، وتتابع نهج الحضارة الهلّينيّة بحضارة رومانيّة عالميّة. وهنا تتقدّم هذه الحضارة »التي تسود العالم« لتُعطي مُلكًا لهيرودوس على »شعب اللَّه«. وهذا المُلك له صفات شخصيّة وصفات عامّة تختصّ بانتساب الملك إلى شعب اللَّه ومركزه كممسوح من رئيس الكهنة.
فمن حيث صفات هيرودوس الشخصيّة نراه: ماكرًا، حقودًا، قاسيًا، قاتلاً، نهِمًا، طمّاعًا، غايته تبرّر كلّ الوسائل لا يقيم وزنًا لإنسانٍ ما خلا ذاته وثنيّ التفكير والهوى.
أمّا من حيث انتسابه إلى الشعب، فهو مُلحقٌ إلحاقًا بالقوّة، من دون أيّ تبنٍ لإيمان هذا الشعب، مع إحاطته التامّة بكامل عقيدة الشعب، فهو الذي تربّى في بلاط المملكة اليهوديّة الحشمونيّة، وهي سلالة ملوك كهنة.
أي أنّنا نراه تحقيقًا مشوّهًا لنبوءة الربّ على لسان النبيّ موسى »يقيم لك الربّ إلهك نبيًّا من وسطك من أخوتك مثلي له تسمعون« (تثنية الاشتراع 18: 15) »أقيم لهم نبيًّا من وسط أخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلّمهم بكلّ ما أوصيه به« (تثنية الاشتراع 18: 18).
هذا الرجل أقامته روما »سيّدة العالم«، في زمن ولادة »المسيّا«، ملكًا على اليهود »شعب اللَّه«. أي أقامته ملكًا سلطةٌ تدّعي السيادة على العالم، من قيصرٍ عُبدَ كإله.
وأقامته ملكًا يرث حكم الحشمونيّين الذين كانوا ملوكًا كهنة، طبّقها بأن بنى معابد وثنيّة، وأقام ألعابًا، الأمورَ التي ناهضها اليهود قبل قرنين (ثورة المكّابيّين). وطبعًا نلاحظ أنّه لمكره أعاد بناء هيكل سليمان، مزيّنًا مجيدًا بالمجد العالميّ، وهذا قلّل أهمّيّته الربُّ يسوع »أيّها الجهّال والعميان أيُّما أعظم الذهب أم الهيكل الذي يقدّس الذهب...« (متّى 23: 17). فهنا نلاحظ السمة الشيطانيّة التي كرّرها الشيطان في تجربة يسوع على الجبل، وهي سمةٌ واضحة ومؤثّرة، وأعني عدم إظهار العداء للَّه بل استخدام ما يختصّ باللَّه بطريقة جديدة دخيلة، وتطبيع ذلك، بحيث يبدو تشارك ما للَّه مع ما هو للعالم (للشيطان) طبيعيًّا، نازعًا بهذا الفعل سمة التخصيص: »يكونون شعبي وأكون إلههم«. فهو مقاومٌ لتدبير اللَّه.
لكنّه أيضًا المشتكي، فهو يشتكي على الإنسان في حالات سقوطه، فحين توضع الإغراءات أمامنا، لنختار بينها، يصبح خيارُنا إمّا سبب حياتنا أو هو سقوطنا... »أمّا أنا، فلست أدين أحدًا« (يوحنّا 8: 15). وهيرودوس حين يفتح المجال لتقديم القرابين في السامرة، أو في هياكل وثنيّة، مع هيكل سليمان، حيث تنصّ الشريعة، إنّما يضع كلّ شخص في »رعيّته« أمام خيارات لم تكن موجودة لو تمّ التزام الشريعة.
هذا فعله أيضًا مع المجوس، إذ أراد منهم أن يجدوا الصبيّ و»يعودوا إليه« كي يذهب هو أيضًا ليسجد، فيتحمّلوا وزر إرشاده إلى مكان الصبيّ. فلو عادوا وأعلموه، لوقعت تبعة قتل الصبيّ على رؤوسهم. والرجوع إلى الشيطان هو دائمًا مسؤوليّة الإنسان، الذي يرشده اللَّه بطرائق شتّى كيلا يتبع الشيطان، فيدلّه إلى طريقٍ آخر »إلى بلاده« كما الابن الضالّ إلى أبيه.
قام هيرودوس »ليسجد« فأمر بقتل أطفال بيت لحم. واضح هنا أنّ تدبير اللَّه لا يمكن إيقافه، لكنّ خيارات الإنسان قد تكون سببًا في حياته أو سببًا في سقوطه. وهيرودوس كإنسان لم يقف لحظة عند معنى ولادة »ملك اليهود«، وبالنسبة إليه لم يكن ذلك إلاّ تهديدًا لملكه الشخصيّ، إنّها الكبرياء ذاتها التي أسقطت آدم.
أمّا هيرودوس، كشيطان، فذهب إلى أبعد ما يستطيع، ها هو يشتكي على اللَّه نفسه: أليس من القسوة أن يسمح اللَّه بقتل أطفال بيت لحم؟ ألم يكن بإمكانه إنقاذ الطفل يسوع من دون هذا الثمن الباهظ؟ إنّها تجربة جديدة نحياها نحن »ملوك الأخلاق« في عالم ساقط يزداد بُعدًا عن سبب حياته. لنتمعّن معًا بما يلي:
أوّلاً: الشيطان (وكلّ من يضرب بسيفه): »كان قتّالاً منذ البدء ...« هكذا وصفه يسوع، لذلك يصبح قتله أطفال بيت لحم أمرًا مفهومًا. وكلّ من يجيز القتل إنّما يكرّر أفعال الشيطان.
ثانيًا هو »كذّاب وأبو الكذّاب«، فهيرودوس أمر بقتل الأطفال ونحن نلوم اللَّه. وهنا نبرّر أنفسنا بالقول »إنّ اللَّه أقـدر علـى منـع هـذه المجـزرة«، وهذا نصف الحقيقة، فنجعل اللَّه مسؤولاً عنها، كما فعل آدم: »المرأة التي جعلتها معي... أعطتني فأكلت...« (تكوين 3: 12). أليس هذا المكر بعينه؟
ثالثًا: وهذا المهمّ، فالشيطان أعمانا عن حقيقة مهمّة وهي أنّ الموت هو حدث طارئ، فهؤلاء الأطفال هم شهودٌ لولادة يسوع في بيت لحم اليهوديّة، وهم معه في الملكوت »الذين أعطيتني لم أهلك منهم أحدًا« (يوحنّا 18 : 9). »لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكنّ النفس لا يقدرون على أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر على أن يُهلك النفس والجسد كليهما في جهنم« (متّى 10 : 28).
يستخدم الشيطان كلّ الوسائل التي نزوّده بها، لإحكام سيطرتـه على عقـولنا وقلـوبنـا، فـلا نـرى إلاّ ما يريد لنا أن نراه »دخله شيطان« (يوحنّا 13 : 27). فنصلب ربّ المجد من دون أيّ تردّد، لنرتمي بعدها في لجّة الندم كيهوذا. ونأتي أفعـالاً نبـرّرهــا بضعـفنــا البشريّ فننكره، آملين أن نقف بعدها موقف بطرس الباكي بكاء مرًّا، هذا إن سنحت الفرصة.
يقف هيرودوس مثالاً بارزًا، على عمل الشيطان في مقاومة تدبير اللَّه من أجل حياة العالم. من يهرب منه كالمجوس يربح نفسه ويقيمه الربّ في مأدبته. من يذهب ضحيّة له، يقتنِ لنفسه مكانًا شريفًا إلى جانب يسوع. من ينساق وراءه، يحصد الموت في كلّ مجالاته.
إنجازات هيرودوس كلّها ذهبت أدراج الرياح، فهو اغترّ بدهـائه وفي نهـايـة عمـره فقـد عقله. سعى إلى الملك والعظمة فوصل به الأمر إلى قتل ابنه وزوجته. بنى المدن والحصون والقلاع لكنّه عاش محاصرًا بالارتياب والشكّ. ولم يبق من آثاره سوى أطلال تجهل من بناها وصيت يخاف الناس ذكره.
اليوم وإلى الدهر نذكر المجوس وأطفال بيت لحم مباركين ومقتدين، ونذكر هيرودوس مصلّين إلى اللَّه أن يحمينا من مصيره. فأيّ شيء أسوأ من هذا الموت؟l