قداسة الشخص
د. جورج معلولي
لا ينفصل الحديث عن القداسة في الكنيسة الأرثوذكسيّة عن الحديث عن الاتّحاد باللَّه أو التألّه. يستخدم التقليد استعارات عديدة للتعبير عن هذا الاتّحاد كصورة البلّورة المستضيئة بالشمس أو الجمرة الملتهبة أو الحديد المحمّى بالنار، حيث يبقى الحديد على طبيعته ويتّخذ في الوقت عينه خصائص النار كالإنارة واللهب والحرارة. الإنسان المتألّه، بحسب القدّيس مكسيموس المعترف، هو كالهواء الذي تخترقه النار، يشاركه اللَّه في طاقاته المؤلّهة حيث يغدو اللَّه الكلّ في كلّ شيء. خلق الإنسان مفطورًا على الألوهة، راغبًا في صميم أعماقه في أن يتّحد باللَّه على حدّ قول المغبوط أغسطينوس: »لقد صنعتنا متّجهين نحوك لذلك لا يعرف قلبنا الراحة قبل أن يستريح فيك«. تمثّل هذه الرغبة حالة انتظار تتطلّب نموًّا على نموّ في تآزر مبادرة اللَّه أو نعمته مع حرّيّة الإنسان. يبقى الإنسان في هذا الاتّحاد شخصًا، والأحرى أنّ هذا الاتّحاد يكرّس شخصانيّته أي فرادته المنفتحة، ويطلقها نحو الارتقاء من مجد إلى مجد.
تنازل الابن الإلهيّ هو ما يؤهّل الإنسان لهذا التصاعد في الروح القدس. يتّصل تجسّد الكلمة في فكر الآباء بشكل حميم مع قصد اللَّه بتأليه الإنسان. لذلك ينبغي ألاّ نفصل سرّ الفداء عن التألّه، فالخطر أن يحصر المؤمن رؤية خلاصه في رؤية حقوقيّة سطحيّة مرتبطة بشكل اختزاليّ بخطاياه الشخصيّة. هذا ما يوضحه القدّيس أثناسيوس بقوله: »المسيح، إذ قدّم هيكل جسده للموت، قدّم ذبيحة من أجل كلّ البشر، حتّى يجعلهم أطهارًا وأحرارًا من الخطيئة من جهة، ومن جهة أخرى حتّى يظهر غالبًا الموت وأن يجعل عدم فساد جسده باكورة القيامة العامّة«. تكتمل هنا صورة الخلاص كفداء بصورة أخرى هي تسرّب قوّة المسيح القياميّة إلى البشر. يتلون الخلاص في كتابات الآباء بصور متعدّدة: صورة الراعي الصالح، صورة المسيح المحارب الذي يغلب القويّ ويجرّده من أسلحته، صورة المسيح المحطّم أبواب الجحيم والغارس صليبه كراية انتصار، صورة المسيح الطبيب أو السامريّ الشفوق الذي يقدّم الدواء للبشريّة المخلّعة، وصورة الحيلة الديبلوماسيّة حيث يخترق المسيح نطاق الموت كحصان طروادة أو كحسكة مفجّرًا إيّاه من الداخل. تحرّر هذه الصور الفداء من طابعه الحقوقيّ المحض. يتساءل القدّيس غريغوريوس النازينزيّ بهذا المعنى لمن قدّم يسوع فدية جسده؟ لا يعقل أنّه قدّم نفسه للشيطان. ولا يعقل أن يطلب الآب دم ابنه وهو الذي رفض تضحية إسحق في العهد القديم. من الواضح يكمل القدّيس أنّ الآب قبل ذبيحة الابن ليس بسبب الحاجة ولا بسبب ضرورة قانونيّة، بل تدبيرًا لتتقدّس طبيعة البشر ببشريّة الابن الممجّدة وليحرّرنا بقوّته القديرة من سجن المتسلّط. لذلك ليس الفداء نتيجة قانون انتقام، بل هو سرّ التدبير الذي لا يحصره مفهوم عقليّ. لقد تجسّد الإله ومات ليعيد إحياءنا ويعيد تركيب الكون. الغلبة على الموت، باكورة القيامة العامّة، وتحرير الطبيعة من براثن العدوّ كلّها أبعاد متعدّدة للخلاص الواحد. هو تدبير الثالوث الخالق في مسؤوليّته تجاه خليقته التي أخرجها من العدم لتسير نحوه. وهنا يكتمل تدبير الابن بتدبير الروح القدس الذي لا ينفصل عنه.
يمرّ هذا الخلاص الذي تمّ في جسد الكلمة الممجّد إلى حياة الكنيسة الأسراريّة كما يشرح القدّيس ليون الكبير. هذا الطابع العضويّ في الكنيسة كجسد المسيح في أعضاء كثيرة يظهر في حياتها الليتورجيّة كوحدة سرّيّة. هل يذوب الأشخاص المؤمنون في هذه الوحدة؟ وهل يذوبون في شخص المخلّص؟ بعد أن تحرّرنا من حتميّة الخطيئة وسلطانها، هل نقع في حتميّة أخرى هي ذوبان حرّيّتنا وشخصانيّتنا في هذا الكلّ العضويّ؟ هل تحلّ الحياة الجماعيّة مكان لقاء كلّ شخص مع المخلّص؟ بأيّ معنى نحن جسد واحد وفي الوقت عينه أشخاص مدعوّ كلّ واحد منهم إلى تحقيق الوحدة مع اللَّه في شخصه؟ ليست الكنيسة نسخة عن العائلة أو القبيلة أو الطائفة حيث يفنى الوجود الشخصيّ في الكلّ. وليست تراكم أفراد كما في المجتمعات المتفكّكة أو مؤسّّسات العمل حيث الفرد رقم من الأرقام وحيث الهويّة تتأكّد في الانفصال والمجابهة. ذلك بأنّ انضمام شخص المؤمن إلى جسد المسيح بالمعموديّة لا ينفصل عن تكريس الروح القدس له في كرامته الشخصيّة في سرّ الميرون الحافظ التنوّع. ففي جسد المسيح يظهر الوجود الشخصيّ لكلّ مؤمن وجودًا مشدودًا نحو الآخر، وجودًا من أجل الآخر. ليس الشخص جزءًا من الطبيعة البشريّة. لكنّه هو تحقيق خاصّ وفريد للطبيعة البشريّة في وجود شخصيّ يراه اللَّه ويسمّيه ويكرّسه في فرادة لا ينطق بها. يتّحد المؤمنون في طبيعة المسيح البشريّة الممجّدة بالموت والقيامة التي تنسكب فيها الحياة الإلهيّة. فمبدأ وحدتهم ما بقي آدم القديم المشتّت بل هو آدم الجديد المحقّق في نفسه غاية الخلق. ويُعطى الروح القدس لكلّ مؤمن »كأنّه لا يعطى إلاّ له« كما يقول القدّيس باسيليوس وهو في الآن عينه ساكب النعمة الكاملة للكلّ.
الخليقة الجديدة والإنسان الجديد مرادفات للقداسة. أحبّاء اللَّه يدعوهم بولس الرسول كلّهم قدّيسين (رومية 1: 7). هم ملح الأرض ونور العالم (متّى 5: ١٣- ١٤). وهم كالشهداء أصدقاء العريس المجروحون بحبّه. وإذا كان نداء الإنجيل موجّهًا إلى كلّ إنسان، فكلّ مؤمن قدّيس بحسب الرسول بولس. منذ التجسّد أصبحت الكنيسة »ملأى من الثالوث« كما يقول أوريجنّس. ومنذ العنصرة أصبحت ملأى من القدّيسين. لا تجد القداسة مرجعها في لغة هذا العالم، بل في قداسة اللَّه ذاتها. هذا هو فعل اللَّه الأخير: »لا أعود أسمّيكم عبيدًا بعد، بل أصدقاء« (يوحنّا 15: 14- 15). يظهر القدّيسون مكان كشف إلهيّ. فبعد أن كان في العهد القديم أماكن مقدّسة يكشف اللَّه نفسه فيها، أصبحت الأرض كلّها مجالاً لكشف مجد اللَّه منذ العنصرة حتّى يمدّ القدّيسون تأجّج العلّيقة الملتهبة إلى كامل زوايا المسكونة.
تظهر جدّة القدّيس غريبة عن القديم في هذا العالم، وعن المعتاد. ما يعثّر غير المؤمنين هو أنّ المسيحيّين ليسوا كلّهم قدّيسين. وقد قال أحد الكتّاب إنّ عالمنا المعاصر يحتاج بخاصّة إلى قدّيسين جدد مبدعين ومجدّدين، أي إلى أشكال جديدة من القداسة. ذلك بأنّ مصير العالم مرتبط بموقف كلّ مسيحيّ منه. إلى أيّ مدى يشعر العالم عبر احتكاكه بالمؤمنين بمحبّة اللَّه المحوّلة؟
طلب يسوع من تلاميذه أن يكونوا فرحين فرحًا آتيًا من مجّانيّة محبّته (يوحنّا 14: 28). وحدها هذه المحبّة المجّانيّة المبذولة من دون شروط قادرة على أن تخلّص العالم. ليس أنّ المؤمن يحبّ العالم حتّى يخلّصه. هذه علاقة نفعيّة، فوقيّة لا تعكس مجّانيّة الإله المبذول. بل المؤمن الحقّ يخلّص العالم لأنّه يحبّه. لقد أتت الساعة حيث لا يكفي أن يتكلّم المؤمن على مسيحه، بل أن يصيره هو نفسه، أي مكان حضور له وإشعاع. إبداع المؤمن وفنّه في أن يستنبط كلّ الأساليب والأشكال التي تجسّد حضور يسوع في حضارة اليوم.
قدّيس اليوم هو إنسان ككلّ الناس، ولكنّ كل كيانه قضيّة حياة أو موت يطرحها على العالم. ليس القدّيس أسطورة، لكنّه يتجاوز كلّ أسطورة لأنّه تفجّر الملكوت الآن وهنا. يترجم القدّيس للسماء معاناة إخوته ويترجم للأرض ابتسامة الآب ومحبّته المجنونة. لذلك يعوزنا قدّيسون مجانين. يأخذ القدّيس على محمل الجدّ قول الرسول بولس: »إذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون أيّ شيء، فافعلوا كلّ شيء لمجد اللَّه« (1كورنثوس 10: 31). هذه نكهة الإنجيل في تعاطي أمور العالم. في يد الفلاّح في أرضه أو الباحث في مختبره تنكشف المادّة خليقة جديدة إذا رافقت هذه النكهة كلّ عمل. هذا هو ألم الخليقة الذي ليس هو ألم احتضار، بل ألم مخاض نحو الولادة الجديدة التي يتمّمها أبناء اللَّه (رومية 8).
كسر يسوع في فصحه الحواجز الثلاثة: الطبيعة القديمة، الخطيئة والموت. وأصبحت عناصر الطبيعة المحسوسة تعبّر عن سرّ الملكوت كما في أمثال الملكوت (الخميرة، حبّة الخردل، البذار...). لذلك تخترق القداسة كمدة هذا العالم وتعيد إلى الأرض شفافيّتها الأولى. يظهر القدّيس هكذا كأنّه نفخة هواء منعش في مناخ الضجر الذي يهدّد العالم بالهلاك. في ثمالة الحبّ الخفرة بحسب تعبير القدّيس غريغوريوس النيصصيّ، يتقدّم القدّيس في بساطة يسوع وإبداع الروح، حيث كلّ شيء يصبح ممكنًا وتظهر الحياة تلك العجيبة المستمرّة التي تسند الكون (الأب إلياس مرقص).l
مراجع :
Paul Evdokimov. L’Amour fou de Dieu, Seuil, 1973, 2002
Vladimir Lossky, À l’image et à la ressemblance de Dieu, Aubier Montaigne, 1967
Archimandrite Placide Deseille. L’UNION À DIEU SELON LA TRADITION ORTHODOXE. Bulletin Lumièrede Thabor. Numéro 18 juin 2004