جدّتي
أسعد قطّان
»وله انحناءات الخريف
له وصايا البرتقال
له القصائد في النـزيف
له تجاعيد الجبال«
محمود درويش
حين كانت جدّتي تصلّي، كانت الملائكة تصغي، لتتعلّم. ألم يكتب بعض الأكابر أنّ الملائكة تتشهّى الطهارة في قلوب البشر اللحميّة، لأنّ اللحم أضحى، منذ تجسّد الكلمة، مسكن الألوهة وأداة الخلاص؟
وحين كانت جدّتي تقرأ الكتاب المقدّس، كانت الملائكة تشخص بذهول. فهذه، من فرط انشغالها بالتسبيح، لا وقت لديها لتعلّم القراءة. وهي لا تعرف ما يتولّد في قلوب البشر من لذّة وهم يرون الكلمات تتقافز على الصفحات المكتوبة ثمّ تسكن الذاكرة والقلب معًا، وتعود لا تفارقهما.
ولقراءة الكلمة عند جدّتي طقوس، لأنّ المناسبات الكبرى في حياتنا لا تستقيم بغير رموز تؤطّرها وتومئ إلى معانيها. هكذا لا ينجرح المعنى ولا يتحوّل إلى درر ملقاة للخنازير. فقوّة الرمز تكمن في قدرته على كشف المعنى وحجبه في آن.
وجدّتي تحجب شعرها المسترسل على كتفيها بمنديل أبيض، تضع نظّارتين سميكتين على عينيها، تقعد في زاويتها المفضّلة على الصوفا التي كان أهلي يسمّونها »الحمراء«، ولا نعرف لها وصفًا سوى أنّها »أبديّة« و»لا تخرب«. تستلّ »التوراة«، كما كانت تسمّي الكتاب المقدّس في نسخته العربيّة التي ترجمها المرسلون البروتستانت في أواسط القرن التاسع عشر مؤثرين بساطة العبارة على بلاغة الأُسلوب القرآنيّ، وتلتهم كلمة اللَّه بنهم. وعندها أنّ هذه التوراة ابتاعها أبوها، وكان يحملها معه في حلّه وترحاله. وحين يمتطي فرسه، ما كانت التوراة تفارقه. لعلّي كنت أُصدّق هذه الأخبار وأنا في حضن جدّتي أعيش من حكاياها، وأحنّ إلى كلماتها أكثر من حنيني إلى الخبز. ولكنّي ما إن غادرتُ الطفولة، رغم أنّها لم تغادرني، وخضتُ غمار الشكّ المنهجيّ الذي يحفر عقولنا متى طعنّا في السنّ، وتبحّرنا في العلم، وبتنا نُلمّ بنـزعات البشر إلى اختراع الأخبار وتصديقها، حتّى ساءلتُ نفسي مرارًا عن تاريخيّة حكاية التوراة والفرس. ألم يكن من المستحيل أن يمتطي نصرانيّ في السلطنة العثمانيّة الفرس منفردًا؟ أليس هذا ما ساق رسّّامي الأيقونات في بلادنا إلى الانتقام من ذلّ نظام الملل عبر تصوير القدّيس جاورجيوس يمتطي فرسًًا ويقتل تنّين الماء؟ وهل كان التحوّل المجتمعيّ الذي أحدثته »تنظيمات« العثمانيّين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عظيمًا بهذا المقدار إلى جعل جدّي يمتطي فرسًًا ويصطحب معه كتابًا مقدّسًًا أينما حلّ؟
تعلّمت جدّتي القراءة والكتابة في مدينة اللَّه أنطاكية. كانت تعتزّ بأُصولها الأنطاكيّة، وتقول لِمَن يزورها من خوارنة الروم، وهم ما كانوا يفعلون ذلك إلاّ لمامًا، إنّها من »الكرسيّ«. ولكنّ الكرسيّ لم يسلم من الزلازل حتّى بعدما تسمّت المدينة على اسم اللَّه طمعًا في أن يجنّبها اللقب خراب الهزّات الأرضيّة. وكانت جدّتي تحفظ ذكرى إحداها، وتعرف عن ظهر قلب قصيدةً غير موزونة كتبها أخوها في رثاء المدينة المنكوبة بالزلزال. قالت إنّها في العاشرة من عمرها ختمت كليلة ودمنة. ولعلّ حبّ الكلمات الذي فُطرت عليه جعلها تعرّج على تعليم العربيّة في ما بعد. ولكنّي عدتُ لا أذكر إذا كان هذا في مدرسة أو لدى عائلة من عليّة القوم أرادت أن يستدخل أطفالها أسرار اللغة التي كانت جدّتي تلمّ بها.
واسم جدّتي له قصّة أيضًا. »حُسني« كان اسمها. ما هذا الاسم الغريب، سألتها. ولكنّها صمتت على غير عادتها. لعلّ أباها، صاحب الفرس الوهميّة، كان معجبًا بذاته إلى درجة أنّه أطلق على ابنته اسمًا لا ينفكّ يذكّره بجماله هو: حُسني. أويكون الإنسان مغرورًا إلى هذا الحدّ، قلتُ في ذاتي. ولكنّي سرعان ما أدركتُ أنّ لهذا الاسم وجهًا آخر. فكلّ مَن ينادي جدّتي باسمها، كان يقول »حُسني«. الحسن، إذًا، قائم في الناس جميعًا، وفي مَن يعرفون جدّتي ويهتفون باسمها على وجه الأخصّ. لم يكن العُجب، إذًا، هو سبب التسمية. كانت جدّتي مرآة الحسن الذي زرعه اللَّه في الآخرين، في البشر كافّةً.
تعمّدت حُسني على الأُرثوذكسيّة في مدينة اللَّه. ولـمّا انهارت السلطنة العثمانيّة، واندثر عالم الروم كما ورثوه من بيزنطية، وقامت الأُمم الضيّقة مقام الأمبراطوريّات الفسيحة، حلّت في شمال لبنان، ثمّ في بيروت. وساقها طلب الحقّ إلى شهود يهوه، فعمّدوها ثانيةً. لكنّها سرعان ما غادرتهم لأنّهم أصرّوا على تزويج بناتها برجال من »الشهود«، وكانت جدّتي تعرف أنّ الحبّ متفلّت ويمجّ التزمّت، حتّى في الدين. وفي أواخر أيّامها، عرّجت على المعمدانيّين، وأحبّت جدّيّتهم ومثابرتهم على الوعظ وقراءة الكلمة، فعمّدوها مرّةً ثالثة. ولـمّا عثر أحد قسّيسيهم في مكتبة بيتنا القديم، من باب المصادفة، على كتاب من كتب شهود يهوه عنوانه »ليكن اللَّه صادقًا«، استأذنها بأخذه وإتلافه قائلاً إنّ حرقه حلال، لأنّ فيه تجديفًا كثيرًا على أُلوهيّة السيّد.
طعنت جدّتي في السنّ، وعادت قواها لا تسعفها على ستر شعرها بالمنديل الأبيض والقعود في الصالون وحيدةً تتلفّظ بصلاتها المسائيّة. فكانت تنصرف، قبل النوم، إلى الدعاء الموصول من سريرها الحديديّ الثقيل مردّدةً صلوات تعلّمتها في طفولتها الأنطاكيّة مثل »قدّوس اللَّه«. وحين تقاتل شباب الميليشيات المسيحيّة في خضمّ الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وثقب الرصاص رؤوسهم أمام بوّابة بيتنا القديم، خافت جدّتي خوفًا عظيمًا، وماتت سريعًا وهي تستشرف التسعين. ثمّ دُفنت في الكنيسة الأُرثوذكسيّة على رجاء القيامة من بين الأموات والحياة الأبديّة.l