2013

3. من أجل حياة العالم: إن هذا السرّ لعظيم... - الأب جهاد (أبو مراد) – العدد السادس سنة 2013

 

إنّ هذا السرّ لعظيم

الأب جهاد أبو مراد

 

 

الزواج حدث اجتماعيّ، شغل كلّ المجتمعات القديمة، وتصدّر اهتمام العهد القديم،  الذي نسج حوله الأعراف والتقاليد وحصّنه بالشرائع. العهد الجديد تبنّى الزواج، واعتبره سبيلاً للخلاص، وأرسى الأسس الذي سيُبنى عليها. فيسوع نفسه يشارك في أفراح عرس قانا الجليل، ويجري أولى عجائبه (يوحنّا ٢: ١- ١١). وبولس الرسول يذكّر الزوجين بأهمّيّة اتّحادهما بالربّ (1كورنثوس ٧: ٣٩)، مؤكّدًا أنّه »سرّ عظيم« وأنّ العلاقة الزوجيّة شبيهة بعلاقة المسيح والكنيسة (أفسس ٥: ٣٢). وفي الرسالة إلى العبرانيّين يردّد أنّ: »الزواج مكرّم والفراش بريء من الدنس« (١٣: ٤). في أواخر القرن الأوّل، لمّا تكاثر المهتدون إلى المسيحيّة المنتمون إلى أعراق مختلفة وثقافات وتقاليد متباينة، برزت الحاجة إلى اتّخاذ مواقف مسيحيّة واضحة من الزواج يبنى على الكتاب المقدّس والتقليد الرسوليّ، آخذًا بالاعتبار الشرائع الوضعيّة والعادات الاجتماعيّة المحلّيّة التي تحكم العلاقات الأسريّة بشكل عامّ.

الكنيسة الأولى كانت تقبل عقود الزواج التي تتمّ بحسب الشرع الرومانيّ أو اليهوديّ أو القبليّ المحلّيّ، لكنّها، كانت تفرض تعاليمها والمبادئ الإنجيليّة وقوانين مجامعها على المهتدين الجدد وترفض المخالفين. رأت الكنيسة، منذ البدء، أنّ الزواج، كعلاقة بين رجل وامرأة، يثمر ويدوم »بالربّ«، والعائلة تنمو بالقداسة في الكنيسة. لذا احتضنت الزواج، وشجّعت الراغبين في عيش البتوليّة، ووضعت شرائع تحدّ من التطرّف والتفلّت الاجتماعيّ. تكلّمت الكنيسة على أهداف الزواج وموانعه، والطلاق، ومشاركة الأهل، ورأي الكنيسة الممثّلة بالأسقف، وكيفيّة إقامة احتفال العرس، وقدّمت النصح للزوجين من أجل حسن تواصلهما، وإنجاب الأطفال وتربيتهم، والزواج الثاني والثالث، وزواج الإكليروس. هذه العناوين وغيرها، التي كانت محور اهتمام معظم الآباء الرسوليّين، ساهمت في وضع لاهوت الزواج المتكامل بعد المجمع المسكونيّ الأوّل.

في نهاية القرن الأوّل ومطلع عصر الآباء الرسوليّين، كتب إغناطيوس المتوشّح باللَّه (+١٠٧) إلى بوليكربوس أسقف إزمير رسالة يطلب فيها مشاركة الأسقف في زواج المسيحيّين، قائلاً: »يجب على الذين يتزوّجون أن يتمّموا اتّحادهم برأي الأسقف، ليكون الزواج بالربّ، لا بحسب الرغبة« (إلى بوليكربوس 5، 2. الآباء الرسوليّون. تعريب البطريرك إلياس الرابع. ص 140. 1982). إذا كانت الكنيسة الأولى لم تفرض على المهتدين الجدد عقد زواج كنسيّ جديد، يضاف إلى العقد المدنيّ الرومانيّ الإلزاميّ أو العقد اليهوديّّ أو العقود القبليّة والعائليّة، فكيف نقوّم »رأي الأسقف«؟ وما معنى »ليكون الزواج بالربّ وليس بحسب الرغبة«؟  قيل إنّ »رأي الأسقف« ليس نصحًا شكليًّا، بل محاولة لمباركة الزواج في شركة الصلاة . أمّا عبارة »ليكون بالربّ«، فتشير إلى أنّ »اللاهوت الأسراريّ«، بدأ بالواقع يلامس الزواج المسيحيّ في هذا الوقت المبكر. ويرى آخرون أنّه أقدم شهادة على تقديس الزواج بالبركة، وتأكيد أنّ الزواج، كسرّ وممارسة كنسيّة، يعود بأصله إلى العصر الرسوليّ (د. موراييتيس، تاريخ العبادة المسيحيّة. أثينا 1964. ص.86، إ. ثاوذوروس. دروس ليتورجيّة، أثينا 1979، ص.135- 136). أمّا المتقدّم في الكهنة د. كونستانديلو، فيعتقد أنّ إغناطيوس أراد تذكير المسيحيّين بأنّ الزواج، الذي يتمّ في الكنيسة، - برأي الأسقف، مقدّس ومقبول لدى الربّ نظرًا إلى علاقته بالمسيح والكنيسة (الزواج، الجنس والبتوليّة، تسالونيكي 2005، ص.61).

أثيناغوراس »الفيلسوف المسيحيّ الأثينائيّ« (القرن الثاني) المتأثّر بالفلسفة الأفلاطونيّة، وبخاصّة بمقولة احتقار الجسد واعتبار الزواج وسيلة للإنجاب فقط، يؤكّد، في دفاعه عن المسيحيّين الموجّه إلى الإمبراطور ماركوس أوريليوس (176-١٨٠)، أنّ المسيحيّين يعقدون زيجاتهم وفقًا للشرع، من دون أن يأتي على ذكر أيّة بركة أو صلاة كنسيّة خاصّة بالزواج. أمّا كلمة »شرع«، فعنى بها الشرع الرومانيّ، كما يعتقد معظم الشرّاح، وقال بعضهم إنّه عنى ارتباط المسيحيّ بامرأة واحدة، المخالف لعادة تعدّد الزوجات عند اليهود VEP4,308, 33 القدّيس إقليمس الإسكندريّ (150-215) يقول: »إنّ الكاهن يضع يده على رأس العروسين ويباركهما« PG 8, 637B هذه الشهادة التي يعتبرها الأستاذ موراييتس بركة طقسيّة، لا يمكن الركون إليها لتأكيد وجود طقس خاصّ بالزواج. أمّا المطران ستافرينوس فيؤكّد أنّها تشير إلى إرساء اللبنة الأولى في بناء الخدمة الطقسيّة الخاصّة بسرّ الزواج.

ترتليانوس (+240) هو الأوّل بين الآباء الذي يعتبر الزواج سرًّا، كأسرار الشكر والمعموديّة والميرون، وفي كلامه على الزواج الكنسيّ يقول: »إنّ الزواج السعيد هو الذي تعقده الكنيسة، وتؤكّده التقدمةOBLATIO،، وتختمه  البركة BENEDICTIO، وتعلنه الملائكة، ويقرّه الآب السماويّ«  PL1, 1302 A ويتابع: أمّا القران الذي لا تباركه الكنيسة، فهو زنى وفسق« ( المرجع السابق 2، 1038). أقوال ترتليانوس دليل واضح على نشوء مفهوم جديد للزواج يقارب السرّ الكنسيّ، ولكنّها لا تؤكّد نشوء احتفال ليتورجيّ خاصّ بالعرس. هذا الموضوع تداوله الباحثون الليتورجيّون، ومنهم المطران ب. روذوبولس، الذي استنتج أنّ آخر القرن الثاني يجب أن يكون شهد نشوء خدمة طقسيّة  خاصّة بسرّ الزواج، تتمّ في القدّاس الإلهيّ (دراسات قانونيّة، رعائيّة، وليتورجيّة. تسالونيكي 1993. ص. 217). وقال آخرون إنّ تكريس الرباط الزوجيّ في عصر ترتليانوس، كان يتمّ في سرّ المعموديّة أو سرّ الشكر. فالأزواج المهتدون، بعد اقتبالهم سرّ المعموديّة، يشاركون في احتفال سرّ الشكر ويتناولون جسد الربّ ودمه الكريمين. وهذا تكريس لزواجهم بالبركة واعتراف كنسيّ به. في هذا الموضوع، يقول المتقدّم في الكهنة، الليتورجيّ  ك. بابادوبولس: »إنّ الزواج المسيحيّ، الذي يتمّ في المعموديّة أو في سرّ الشكر الإلهيّ، مشروط بالمحافظة على وصايا اللَّه«.  في كتابات أوريجانّس على الزواج (+254)، تتردّد بعض العبارات التي توسّّلها واضعو نصوص أفاشين خدمة سرّ الزواج في أوقات لاحقة. من هذه التعابير: »ضمّهما باتّفاق العزم« وليصيرا »جسدًا واحدًا« (الإفشين الثالث من خدمة الإكليل الحاليّة)، واحفظهما »بالسلامة والاتّفاق« (الإفشين الرابع). فهل هذا يبرّر الاعتقاد بوجود خدمة خاصّة بطقس الزواج في هذا الوقت المبكر؟ الليتورجيّون المعاصرون لا يستبعدون إمكانيّة وجود بعض الأفاشين المكتوبة والمتداولة في بعض الكنائس، أو نشوء صلوات شفهيّة ارتجاليّة  تتلى عند  مباركة الزواج في القدّاس الإلهيّ. إلى ذلك، نشير إلى أنّ الكتب الليتورجيّة التقليديّة القديمة، كتعليم الرسل (القرن الثاني) والتقليد الرسوليّ (القرن الثالث) والأوامر الرسوليّة (القرن الرابع-الخامس) تخلو من ذكر أيّة أفاشين أو طقوس خاصّة بسرّ الزواج، ممّا يدلّ، إمّا على عدم وجودها حتّى القرن الخامس، أو إلى عدم اعتمادها شرعًا في كلّ الكنائس كنصوص صلوات الشكر والمعموديّة. وبما أنّ سرّ الزواج كان يتمّ في القدّاس الإلهيّ، فمن الجائز أنّ كتّاب الليتورجيّات اعتبروا صلوات بركة العرس كملحق للقدّاس الإلهيّ.

يتبيّن، ممّا تقدّم، أنّ الكنيسة، منذ العصر الرسوليّ وخلال عصور الاضطهاد، كانت تعترف بعقود الزواج المدنيّة الرسميّة والعقود التقليديّة العائليّة والقبليّة المقبولة من الشرع المدنيّ، وبالمقابل تنصح المؤمنين بمباركة زواجهم في الكنيسة. لكن مع انتهاء الاضطهاد في مطلع القرن الرابع، ومع تشكّل القناعة بأنّ الزواج سرّ كأسرار الشكر والمعموديّة ووضع الأيدي، بدأت تصرّ على إتمامه في القدّاس الإلهيّ.

كتاب »الأوامر الرسوليّة« (القرن 4-5)، يحذّر المؤمنين من ارتكاب الزنى، إذا لم يعقدوا زيجاتهم بطريقة شرعيّة، ليكونوا بلا عيب. الزواج الشرعيّ هنا هو الزواج المدنيّ VEP2,164. باسيليوس الكبير(+379)، يقول إنّه من الطبيعيّ أن تعقد الكائنات البشريّة زواجًا. لكنّ الزواج ليس رباطًا طبيعيًّا وحسب، بل اتّحاد روحيّ بين رجل وامرأة  تباركه الكنيسة (عظات على الأيّام الستّة. العظة 7، 5  EPE4,286. القدّيس غريغوريوس النزيانزيّ (+390) يذكر »أنّ رهطًا من الأساقفة حضر عرس السيّدة النبيلة أولمبياذا« ويعتذر لعدم تمكّنه من الحضور وضمّ يدي العروسين PG37, 313. سيناسيوس أسقف القيروان (+413) كان كاهنًا متزوّجًا عندما انتخب أسقفًا. وقبل رسامته، طُلب إليه التخلّي عن زوجته، فرفض وطلب إلى المجمع وكلّ الكنيسة احترامها، وقال يومها: إنّ اللَّه أعطاه إيّاها بحسب الشرع، وتسلّمها من يد بطريرك الإسكندريّة الذي اتّحده بها، وليس راغبًا في التخلّي عنها، ولا العيش معها سرًّا كالزناة، ولا يرغب في إرسالها الى أحد الأديار. فاحترم الأساقفة رأيه وتمّت رسامته على هذا الأساس. (الرسائل 105، PG66,1485). تيموثاوس الإسكندريّ (+385) يرفض أن يكون سرّ الزواج الكنسيّ شكليًّا. وجوابًا عن سؤال وُجّه إليه في المجمع المسكونيّ الثاني (381)، قال: إذا دعي الكاهن إلى مباركة زواج ووجد أنّه مخالف للقوانين »فلا يجوز أن يمالئ القوم ويخالف الشريعة (القانون 11. الشرع الكنسيّ ص. 909). 

يوحنّا الذهبيّ الفم (+407) يتساءل، كيف يمكن أن يتمّ الزواج، أو »سرّ المحبّة« كما يدعوه، خارج سرّ الشكر، سرّ المحبّة بامتياز. وكان واضحًا جدًّا في وصف الزواج كسرّ، فهو يطلب دعوة الكهنة إلى الحضور وإعطاء البركة، ويتكلّم على الأفاشين والصلوات التي يتقدّس بها العرس، وهو الأوّل الذي يعطي الإكاليل معاني مسيحيّة، وينتقد احتفالات الأعراس الصاخبة ويشبّهها بالأعياد الوثنيّة، التي تسيء الى »سرّ الزواج المكرّم« (تفسير 1كورنثوس 7: 2. PG51,201.54,443) أوغسطينوس المغبوط يقول إنّ القداسة في سرّ الزواج المسيحيّ أقوى من خصوبة المرأة، والرباط الزوجيّ سرّ لا ينحلّ (ترمبلاس، العقيدة، الجزء 3، ص. 326). أمّا في الغرب، فالكتب الطقسيّة تشير إلى أنّ الاحتفال بالعرس يتمّ في الكنيسة، في خلال قدّاس إلهيّ يترأّسه الأسقف، وفي غيابه يترأّسه الكاهن. لذا فالقدّيس أمبروسيوس (339- 397) يتكلّم على بركة العرس من الكهنة. والبابا سيريكيوس (+417) يقول إنّ الكاهن يضع يده على رأسي العروسين، ويتلو إفشينًا خاصًّا.

الكتاب المنحول والمنسوب إلى ذيونيسيوس الأريوباجيّ (القرن الخامس) القائل: »لا يتمّ احتفال أسقفيّ، خارج سرّ الشكر« (عن الرتب الكنسيّة. 3، 1).

ك. باباذوبولس يقول إنّ سرّ الزواج، في هذه المرحلة، هو مجموعة أفاشين مرتبطة بخدمة القدّاس الإلهيّ، وليس خدمة كنسيّة مستقلّة شبيهة بصلاة السحر والساعات والغروب. (المرجع السابق. ص59-60). الأب كونستانذيلو يشير إلى أنّ الدلائل على وجود طقس مستقلّ للزواج، وإن قليلة، تبدأ في مطلع القرن السابع، وتتكاثر في القرن الثامن، ويروي أنّ بطريرك القسطنطينيّة كيرياكوس (597- 602) بارك زواج ثيوذوسيوس ابن الإمبراطور مافريكيوس العام 601 في احتفال كنسيّ عظيم،  والبطريرك سرجيوس (610- 638) بارك إكليل الإمبراطور هرقل على زوجته الأولى أفدوكيّا، ممّا يدلّ أنّ الكنيسة، آنئذ، كانت أنشأت خدمة كنسيّة خاصّة بالزواج (كوستانديلو م.س. ص64). لكنّ جون مايندورف يلاحظ أنّ الكنيسة لم تستعمل خدمة طقسيّة للزواج مستقلّة عن سرّ الشكر قبل القرن التاسع (الزواج، نظرة مسيحيّة، الطبعة الثالثة 1984، ص. 24).

إنّ وجود بركة خاصّة بالعرس تعطى في القدّاس الإلهيّ تؤكّدها الطلبات الخاصّة بالمتزوّجين والمتبتّلين التي كانت وما زالت تتلى في خدم القدّاس القديمة. ففي الطلبة السلاميّة الكبرى لقدّاس يعقوب أخي الربّ، وبعد دستور الإيمان، تطلب الكنيسة: »من أجل الذين يقضون حياتهم في البتوليّة والعفّة والنسك والزواج الموقّر ومن أجل آبائنا وإخوتنا الأبرار الذين يجاهدون في الجبال والمغاور وكهوف الأرض، إلى الربّ نطلب« (خدمة القدّيس يعقوب... ترجمة أسعد قطّان، 1999، ص. 89). وفي قدّاس باسيليوس وقدّاس يوحنّا الذهبيّ الفم تُنقل الطلبة إلى الذكرانيّات. فبعد استحالة القرابين إلى جسد الربّ ودمه الكريمين، في قدّاس باسيليوس، تصلّي الكنيسة: »أذكر يا ربّ، الشعب الحاضر... إحفظ زيجاتهم في سلام ووئام«. وفي قدّاس الذهبيّ الفم، وفي الموقع ذاته، بعد أن تصلّي من أجل الكهنة والشمامسة وكلّ طغمة كهنوتيّة ورهبانيّة، تسأل: »من أجل العائشين بالطهارة والسيرة الحميدة«، أي من أجل المتزوّجين.l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search