هل تعرف الكنيسة بمواهب أبنائها؟
د. نجيب جهشان
تحظى رعاية المؤمنين بدور أساس في حياة الكنيسة وتعاليمها، فتطلق على الأسقف والكاهن صفة الراعي، وتطلب إليه أن يكون صالحًا في رعايته متمثّلاً بالربّ يسوع، قريبًا من خرافه، مستمعًا إليهم، حاضنًا همومهم، مقيمًا في وسطهم ومشجّعًا التزامهم الكنسيّ. وأحدث دليل على هذا الهمّ الرعائيّ في كنيستنا الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة ما صدر عن صاحب الغبطة البطريرك يوحنّا العاشر في رسالته الأولى المنشورة في العاشر من شباط 2013، حيث يقول: »يجب أن يكون الرعاة مشجّعين المشاركة بين الكهنة والعلمانيّين في مجالس الخدمة المنصوص عنها في قوانيننا وأنظمتنا التي لا بدّ من تطبيقها من أجل شركة وخدمة فضلى«.
كتاب »المواهب في الكنيسة«
كتاب »المواهب في الكنيسة« باكورة سلسلة تصدرها تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع، دعتها »سلسلة الشؤون الرعائيّة«، وتهدف منها إلى إيصال رسالة أساسيّة إلى الرعاة والمؤمنين تقول إنّ الكنسية من دون رعاية صحيحة تتعرّض لمخاطر كثيرة أهمّها ضياع الرعيّة وتفتّتها، انزواء المؤمنين وخمولهم، تسلّط الرعاة وافتقاد الرؤية الإنجيليّة. وليس كون كتاب »المواهب في الكنيسة« باكورة هذه السلسلة الرعائيّة إلا للدلالة على أنّ مواهب الروح الكثيرة والفيّاضة والمتفاعلة هي في أساس النفحة الرعائيّة الواجبة ومصدر اندفاعها.
كتاب »المواهب في الكنيسة« مجموعة مقالات نشرت بمعظمها في مجلّة النور السنة 2010، كتبت بإتقان وبلاغة مميّزين، وجمعت لأنّها تعالج أوجهًا متكاملةً لفكرة واحدة مركزيّة: رعاية المواهب. هذه الرعاية هي في أساس الحياة الروحيّة النابضة في كنيسة المسيح، حياة لا تقف عند أطر مؤسّّساتيّة جامدة، ولا تحدّ بأنظمة بشريّة لا تعرف الكمال. في هذا الكتاب عشر مقالات يحار قارئها أيًّا منها يفضّل، لأنّها كلّها عميقة الفكر، بليغة اللغة، مزيّنة بمراجع كتابيّة ثابتة، عقلانيّة التركيب، منطقيّة الأداء، متكاملة البنية.
يعرض ريمون رزق في مقالتيه معضلة السلطة والطاعة، هذه المعضلة الدائمة الحضور بين الكهنة والعلمانيّين، ويسرد بالتفصيل المنهجيّ الرائع تاريخ هذه المعضلة منذ العصور المسيحيّة الأولى إلى يومنا هذا. يشكّل هذان المقالان ركيزة الكتاب الموضوعيّة التي تبنى عليها المقالات الأخرى، والتي فيها تعريف بالمواهب كعطيّة إلهيّة دائمة، وبحث في سرّ الكهنوت الذي يغلّف دعوة الأساقفة والقسس والشمامسة. ومن هذا المنطلق الوصفيّ والتحليليّ للمواهب، تنطلق مقالات رائعة للأبوين إيليّا (متري) وجورج (مسّوح) تحذّر من الشطط في ممارسة السلطة، ومن التقصير في اكتشاف المواهب، ومن إهمال الرعاية الشركويّة التي كانت في أساس الحياة المسيحيّة منذ عصورها الرسوليّة الأولى.
والواجب ذكره أنّ اللقاء الرعائيّ الأرثوذكسيّ، الذي ولد من رحم غيرة مؤمنين على كنيسة الربّ يسوع المسيح التأموا منذ 2010 لمعالجة إشكاليّات المؤسّسة الكنسيّة الأنطاكيّة، تلقّف هذا الكتاب القيّم واستوحاه في المنشور الأوّل الصادر عنه. فاللقاء يقول في منشوره إنّ من واجبنا الملحّ أن نتقارب ونحيي أخوّتنا المسيحيّة باحترام كامل لمواهب كلّ واحد منّا. فاحترام المواهب وسيلة لبلوغ الأهداف، وهي تلتقي كلّها في هدف واحد أسمى هو شهادة الكنيسة للحقّ.
ما هي المواهب إذًا، وهل نمتلكها جميعًا؟
يعرّف جورج تامر، في أحد مقاليه، الموهبة بأنّها »سرّ النجاح في كثير من مهمّات الحياة. طاقة كامنة فيك، تدفعك إلى أن تهبها جهدك وعقلك ووقتك. تصير صنو حياتك. ربّما احترقت بها، إن ألهبتك بقدر ينهكك«. الموهبة جزء من الكيان البشريّ تتجلّى في الكثيرين طاقات متعدّدة، وقدرات مختلفة وإنجازات مميّزة، فلا يكون أحدنا نسخة مستنسخة عن الآخر، ولا نشكّل معًا جمهرة من الخراف تذوب فيها خصوصيّتنا، وتنحلّ في وسطها ذاتيّتنا، فننقاد من دون وعي إلى حيث لا نشتهي.
في معتقدنا المسيحيّ، الروح القدس مصدر المواهب كلّها. ألاّ نصلّي قائلين إنّ كلّ عطيّة صالحة وكلّ موهبة كاملة هي منحدرة من العلوّ، من لدنك يا أبا الأنوار؟ فاللَّه مصدر الأنوار، والنور رمز للاستكشاف والمعرفة، رمز لملكة الاستقصاء ورمز الحكمة في الإمساك بأمور هذه الدنيا التي أورثنا إيّاها اللَّه. فالعين، مهما نعمت من صحّة وكمال، ومهما كانت بصيرة متقنة، لا ترى إن لم يكن نور، ولم يغلّفها بهاؤه. النور في أساس الرؤية، والنور من اللَّه. كذلك عطايا اللَّه ومواهبه لا تكتمل إن لم يغلّفها نور الحكمة الإلهيّة، وتنسكب فيها النعمة الروحيّة السامية.
يقول غسّان الحاجّ عبيد في نظرة الكنيسة إلى المواهب: »إنّها كلّ طاقة إبداعيّة أودعك إيّاها ربّك، كلّ نعمة لدنيّة انسكبت عليك من فوق، وليس لك فيها فضل. إنّها انعطاف السماء عليك كرمًا وجودًا، ليكون ما تبدعه موهبتك أو مواهبك، إذا تعدّدت، بعض تسبيح للَّه، فلا تعتدّ ولا تستكبر، لكنّك تحني رأسك وتشكر«.
يقول ريمون رزق في كتاب »المواهب في الكنيسة«: »ضمن شعب اللَّه الواحد، توجد مواهب متنوّعة أعطيت لكلّ عضو في سبيل تكامل خدمة الجسد الواحد«. ويضيف قائلاً أيضًا: »الخدمة نوعان: النوع الأوّل يميل أكثر نحو الروحيّات، والثاني نحو الإدارة. كلّها اللَّه مصدرها ومرجعها«.
ولكي نفهم تعدّد المواهب وتنوّعها، واعتراف الكنيسة بها اعترافًا لا لبس فيه، أنقل بضع آيات من رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس، والتي نسمع تلاوتها مرارًا وتكرارًا: »يا أخوة أنتم جسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا. وقد وضع اللَّه في الكنيسة أناسًًا أوّلاً رسلاً، ثانيًا أنبياء، ثالثًا معلّمين، ثمّ قوّات ثمّ مواهب شفاء، فإغاثات فتدابير فأنواع ألسنة«. عظيم هو هذا الكلام الذي يقرّ بأنّ كلّ واحد مقدّس بالمعموديّة ومسحة الميرون، وقادر على أن يكون إناءً للنعمة الإلهيّة ومهبطًا للروح. لذلك، إذ رتّب الرسول المواهب والقدرات، ذكر أنّ اللَّه وضع في الكنيسة أناسًًا، قبل كلّ موهبة محدّدة أخرى.
نحن المؤمنين أناس في الكنيسة، أي أنّ صفتنا الإنسانيّة تتقدّم كلّ عطيّة أو موهبة محدّدة. هي تجعلنا في الإيمان بيسوع على صورة اللَّه ومثاله. صورة اللَّه ليست صورة جسديّة ومثاله ليس مثالاً مادّيًّا، كما ظنّ الأوّلون في بدائيّة خيالهم. صورة اللَّه هي صورة القادر على الخلق والإبداع، ومثاله مثال الحكيم في كلّ أمر مثال الذي يدبّر شؤونه وشؤون الإنسانيّة ومقدّرات هذا الكون المعطى له، بدافع الخير والعدالة والحرّيّة. إنسانيّتنا هي الموهبة الأولى المعطاة لنا والتي في كلّ واحد منّا، ومنها تنبثق المواهب كلّها التي يعدّدها الرسول بولس في رسالته أو يلمّح إليها.
فالرسوليّة موهبة، وهي في نشر رسالة الكنيسة إلى حيث يقيم الجهلة أو يرفض الجاحدون الإيمان باللَّه.
والنبوءة موهبة، وهي في كشف الحقيقة الملتبسة أو المغيّبة وفي شرح العقيدة الصحيحة والمستقيمة.
والتعليم موهبة، وهو في فتح الأبصار على المعارف كلّها، ليمجّد العارف عظمة الخالق في خلقه.
وكلّ قدرة قوّة وطاقة، روحيّة، فكريّة أو جسديّة، هي موهبة تبني الكنيسة وتقوّم المجتمع وتصحّح الزلاّت، لتخرج الكنيسة إلى العالم عبر هذه القدرات معلّمة للمسكونة ورائدة في الشأن العامّ.
والشفاء موهبة. والشفاء كما نعرفه ونحدّده اليوم شفاء النفس والجسد في آن واحد: الطبّ موهبة، وعلم النفس موهبة، وعلم الاجتماع موهبة، كلّها وضعت فينا لنمجدّ الربّ في كمال خلقه، أذكرنا هذا أم لم نذكره في كلّ يوم وفي كلّ عمل.
والإغاثات موهبة، وهي كلّ جهد أو نشاط يبذل في الشأن العامّ لإسعاد الإنسان وتصحيح مساره الشخصيّ، أو الجماعيّ، فيكون صحيحًا مؤهّلاً لتمجيد خالقه.
والتدبير موهبة، وهو فنّ الإدارة والتنظيم والإعمار وكلّ إمساك بمقدّرات هذا الكون المادّيّة المكانيّة والزمنيّة. بالتدبير تقاد الجماعة البشريّة، ويمسك بالبيئة ويحافظ على التوازنات، وتطلق طاقات الإبداع والاكتشاف، ويرتقي الإنسان من دور أدنى إلى دور أعلى، رانيًا إلى الكمال الذي هو في صورة اللَّه ومثاله.
أنواع الألسنة موهبة، وهي في نقل الكلمة ونشر المعرفة وتعميم الحقيقة. فالفصيح والأديب والفنّان وكلّ ذي حرفة خلاّقة هو صاحب موهبة تعبيريّة تنقل الكلمة بأنواع ألسنة متعدّدة ومختلفة. الكلمة خاصّة الإنسان وسبيله، ليكوّن جماعة عاقلة، متكاملة، متجانسة، متطوّرة. ليست الكلمة من خصائص أيّ كائن حيّ سوى الإنسان. والإنسانيّة، كما قال رسول الأمم، هي الموهبة الأولى المعطاة من اللَّه.
بخلاصة الأمر، »المواهب للبنيان، وإلاّ فلا مبرّر لها« يقول جورج تامر في الكتاب. أمّا غسّان الحاجّ عبيد، فيشدّد على »أنّ تنوّع المواهب أمر جعله اللَّه في سرّ حكمته، ليقول لنا أنتم لستم جماهير بالمعنى الغوغائيّ للكلمة. أنتم جماعة مقدّسة تؤلّفونها أشخاصًا، فلا تذوب خصوصيّة في أخرى، ولا تلغي خصوصيّة خصوصيّة أخرى«.
المحبّة وحدها تحتضن المواهب كلّها
لكنّ المواهب المعطاة لنا قد تثير فينا العجب أو توقعنا في ضلالة، أو تؤدّي إلى حسد، فيزول خيرها ويضمحلّ مبتغاها وتسقط في شباك الشرّ. لذلك وضع الرسول بولس أمرًا أعظم من المواهب كلّها، وأسمى من كلّ عطاياها بقوله في رسالته عينها: »إن كنت أنطق بألسنة الناس والملائكة ولم تكن فيّ المحبّة، فإنّما أنا نحاس يطنّ أو صنج يرنّ. وإن كانت لي النبوءة وكنت أعلم جميع الأسرار والعلم كلّه، وإن كان لي الأيمان كلّه حتّى أنقل الجبال ولم تكن فيّ المحبّة، فلست بشيء. وإن أطعمت جميع أموالي وأسلمت جسدي لأحرق ولم تكن فيّ المحبّة، فلا أنتفع شيئًا«.
بهاء هذه الآيات الرائعة هو في كونها رسمت السبيل القويم لكلّ المواهب. فمهما عظمت المواهب ومهما تنوّعت ومهما تعاضدت، كلّها تسقط إلى العدم ولا تخدم الإنسان إن لم تكلّلها المحبّة. المحبّة هي إكليل المسيحيّة. ديننا المسيحيّ قوامه المحبّة، لا الشريعة ولا العدل ولا المعرفة ولا الاتّزان ولا التعاضد ولا الحكمة. هذه كلّها روافد في بحر المحبّة. هذه كلّها وزنات بشريّة لا تفعّل ولا تضاعف ولا تأتي ثمارها إلاّ بالمحبّة. لخّص يسوع رسالته بهاتين الوصيّتين: »أحبب الربّ إلهك من كلّ قلبك واحبب قريبك كنفسك«. بالمحبّة تختصر المواهب المعطاة بالروح.
هل تحذو المؤسّسة المؤتمنة على المحبّة حذو الرسل وتضمّ المواهب إلى صدرها؟
فإن كانت الكنيسة تؤمن بالمحبّة مكلّلة كلّ هذه المواهب جامعةً إيّاها إلى هدف واحد، فهل تعترف المؤسّّسة الكنسيّة بهذه المواهب وتفعّلها؟ هل تحذو المؤسّّسة المؤتمنة على المحبّة حذو الرسل وتضمّ المواهب إلى صدرها؟ سؤال طرحه اللقاء الرعائيّ الأرثوذكسيّ، ويطرحه كلّ واحد منّا على ذاته.
يقول جورج تامر عن الكهنوت: »الكهنوت موهبة. فمن مارس هذه الموهبة، كان عليه، شأنه في ذلك شأن كلّ من يمارس موهبته احترافًا، أن ينكبّ على إتقانها في سعي دائب إلى الكمال، على قدر ما يسع البشر أن يكملوا«.
يستفيض ريمون رزق في مقاليه بسرد تاريخ السلطة في الكنيسة، مؤكّدًا أنّ »تعليم الرسل لا يعتبر الكهنوت خدمة محصورة مرتبطة بطغمة خاصّة، كما في العهد القديم، بل بالرعيّة كلّها«.
ويفصّل أسعد قطان الروافد التي تغذّي التعليم اللاهوتيّ، ذاكرًا الرسالة إلى العبرانيّين، وسفر الرؤيا ونصوصًا أخرى تشير إلى الذين كانوا يمارسون أدوارًا قياديّة في الكنيسة الأولى. ويقول »فصاحب الرسالة إلى العبرانيّين هو الكاتب الوحيد الذي وضع أطروحة لاهوتيّة بيّن فيها معنى أن يكون يسوع رئيس كهنة، موضحًا التواصل والانقطاع بين كهنوته وكهنوت العهد القديم«.
أمّا قوله »أمّا أنتم فنسل مختار وكهنوت ملوكيّ وأمّة مقدّسة وشعب اقتناه اللَّه لإعلان فضائله، فينتج منه أنّ لا كهنوت آخر بعد ذبيحة يسوع: يسوع الجالس عن يمين اللَّه هو رئيس الكهنة الأوحد إلى الأبد«. و»أمّا الصفة الكهنوتيّة التي تطلق على جميع المؤمنين، فتنبع بالضرورة من اشتراك المؤمنين في كهنوت يسوع«. الموهبة الكهنوتيّة، إذًا، منبثقة من كهنوت يسوع الملوكيّ، وهي ممنوحة للمعمّدين قاطبة، وهي خدمة تتناغم والمواهب الأخرى التي يغدقها اللَّه على عبيده المؤمنين.
يشرح ريمون رزق في مقاله كيف تطوّر سرّ الكهنوت في العصور المسيحيّة الأولى، وكيف كانت الحاجة إلى القيادة والتنظيم وراء ظهور الرتب الكهنوتيّة الثلاث، الأسقفيّة والقسوسيّة والشموسيّة. ويقول: »لا تقوم المسؤوليّات في الكنيسة على معايير حقوقيّة، بل على الخدمة بنيانًا للجسد. وهذا ما دفع الرسل إلى أن يحذّروا كلّ خادم في الجماعة من الوقوع في تجربة التسلّط، الذي يحاكي العالم«. ويقول الأب جورج (مسّوح): »من هنا يحوز الأسقف سلطته على رعيّته بمقدار ما يبذل نفسه لأجلها وبمقدار محبّته لها. ليست سلطته قائمة بحقّ إلهيّ لمجرّد تبوّئه منصبه، بل هي خاضعة يوميًّا للامتحان على ضوء أمانته وانسجامه مع ما يتطلّبه موقعه في الكنيسة«. أمّا الأب إيليّا (متري)، فيكتب: »إنّ كلّ وظيفة في الجماعة هي موهبة تتلاقى مع المواهب الأخرى وتتكامل معها لما يخدم بنيان الكنيسة«. ويذهب أيضًا إلى حدّ أقصى في تأمّله في رسالة يوحنّا الثالثة قائلاً: »إنّ الرئاسة، إن فقدت كونها موقعًا لتضوّع الخير، يقيم الخير موقعًا رئاسيًّا آخر له«.
في خلاصة الأمر، مواهب الكنيسة ليست محصورة بالإكليروس، بل هي موزّعة على كلّ شعب اللَّه: »كلّ عضو نال موهبة الروح التي تجعله، هو هو، قيمة في كنيسته. ليس من عضو، في الجماعة، من دون موهبة، بل ثمّة من يفعّلها، وثمة من يحدّها من دون أن تخبو فيه«.
شرك التسلّط والطبقيّة
لكنّ مؤسّّسة الكنيسة غالبًا ما تسقط في شرك التسلّط والطبقيّة، فتقسم شعب اللَّه بنهج سلبيّ إلى فئتين: فئة الإكليروس وفئة غير الإكليريكيّين الذين درجت تسميتهم بالعربيّة العلمانيّين، كقول المادّة الثانية من نظام المجالس في الكرسيّ الأنطاكيّ الصادر عن المجمع المقدّس السنة 1993: »يعاون راعي الأبرشيّة في أعمال أبرشيّته ونشاطاتها هيئات دائمة مؤلّفة من إكليركيّين وعلمانيّين«، وتناط بالعلمانيّين أدوار ثانويّة غير تقريريّة.
حبّذا لو نطرح عنّا تسمية العلمانيّين هذه لأنّ في استعمالها تعزيزًا لهذه الطبقيّة ودفعًا لتسلّط الإكليروس للأسباب التالية:
أوّلاً: كلمة علمانيّ ليست ترجمة دقيقة لكلمة Laic ذات الأصل اليونانيّ والمنبثقة من كلمة شعب Laos أمّا كلمة علمانيّ فمنحدرة من كلمة العالم والتي لا دلالة فيها على انتساب الشعب ألى اللَّه.
ثانيًا: لا نجد في العهد الجديد أو في الليتورجيا الأرثوذكسيّة أيّ ذكر لكلمة علمانيّ، بل عكس ذلك فإنّ الكنيسة تذكر الإكليروس والشعب كجماعة المؤمنين.
ثالثًا: توحي كلمة علمانيّ بأنّ غير الإكليريكيّين هم من أبناء العالم لا من ملكوت يسوع. هي تذكّرنا بمحاكمة يسوع حين سئل عن مملكته فقال »مملكتي ليست من هذا العالم«. فأبناء العالم »العلمانيّون«، إذًا، ليسوا بأعضاء كاملين في جسد يسوع. كما قد يوحي هذا المعنى أيضًا باتّجاه بعض الإكليروس إلى نزع المواهب المعطاة من الروح عن الشعب كلّيًّا أو جزئيًّا.
رابعًا: أضف إلى ذلك المنحى المعادي للكنيسة في الغرب والذي طبع عقيدة العلمنة، والذي استوحاه العديد من المشرقيّين في عصرنا الحاضر. هذه العلمنة، التي يدعو إليها العقائديّون العلمانيّون، تبشّر بتقزيم الكنيسة، وتدعو إلى تحويلها أندية وجمعيّات تقصى عن حياة المجتمع المدنيّة والثقافيّة والاجتماعيّة.
فهل هذا ما نقصده بتسمية شعب اللَّه غير الإكليريكيّ بالعلمانيّين؟
أعود إلى كنيستنا الأنطاكيّة التي صنّفتنا بالعلمانيّين وخصّصت لنا في قوانينها وأنظمتها جزءًا يسيرًا جدًّا أسمته »نظام المجالس في الكرسيّ الأنطاكي« ونزعت عنّا أيّ دور فاعل في اختيار الرعاة. يعدّد هذا النظام ثلاث هيئات دائمة تسمح لمواهب الشعب بأن تعمل في الكنيسة، وهي مجلس الرعيّة ومؤتمر الأبرشيّة ومجلس الأبرشيّة الملّيّ، وتهمل بشكل فاضح أيّ دور للشعب على صعيد الكرسيّ الأنطاكيّ ذاكرةً فقط في مادّتها الحادية والأربعين أنّ البطريرك يدعو لدى الاقتضاء إلى مؤتمر أرثوذكسيّ عامّ للكرسيّ الأنطاكيّ.
عرفت القوانين والأنظمة الأنطاكيّة تغييرات عديدة وتعديلات، كان آخرها نظام المجالس في الكرسيّ الأنطاكيّ الموضوع السنة 1973 والمعدّل السنة 1993. ولنا في كتاب الأستاذ جورج غندور »أنطاكية والقانون« الصادر أيضًا عن تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة مرجع وافٍ ومصدر كافٍ لفهم تطوّر هذه القوانين والأنظمة. لكن كما يرى اللقاء الرعائيّ الأرثوذكسيّ، هذه الأنظمة الصادرة العام 1973، إلى ما تشكو من ثغرات ونواقص وتهميش للشعب المؤمن وإهمال لمواهبه، من المؤسّف حقًّا أنّها بقيت من دون تطبيق ومن دون تنفيذ في معظم الأبرشيّات منذ صدورها. تقول المادّة الرابعة والأربعون من هذا النظام: »يوضع هذا النظام موضع التنفيذ في سائر أبرشيّات الكرسيّ الأنطاكيّ خلال ثلاثة أشهر من تاريخ صدوره«. ألم يكفنا أربعون عامًا بدل الأشهر الثلاثة لنجد سبيلاً لتنفيذه؟ لماذا يخاف الإكليروس مشاركة الشعب في مجالس يمسك بها إمساكًا شديدًا؟ أمّا نحن، فهل أصابنا الانزواء والخمول وعدم الاكتراث، كما يقول ريمون رزق، أم وصل الكثر منّا إلى حدّ اليأس والابتعاد عن كنيسة اللَّه.
يجب أن تنجز كلّ قضايا الكنيسة بالشورى. يقول ريمون رزق أيضًا: »يسهم شعب اللَّه، بحرّيّة أبناء اللَّه، عبر كلّ هذه الهيئات التنظيميّة، في تثمير مواهبهم لمنفعة كلّ الكنيسة. فيتعلّمون كيف يفكّرون معًا، ويخطّطون ويرسمون معالم العمل في الكنيسة، إزاء تحدّيات العالم والحداثة، وتاليًا المشاركة معًا في كلّ أبرشيّة مع الأسقف وبرئاسته في إدارة شؤون الكنيسة«.
إقصاء المواهب انتقاص للرعاية
هذا بالتحديد ما نعنيه بالرعاية الصالحة لأبناء اللَّه. إنّ همّنا ألاّ تهمل المواهب وهي كثيرة كثيرة، وألاّ تقصى عن حياة جسد المسيح، لأنّ في ذلك انتقاصًا من هذا الجسد وإهانة له، لأنّ في ذلك خيانة للذبيحة التي ارتضاها يسوع لذاته الإلهيّة، لأجل خلاصنا وإقامة الملكوت. كلّ إقصاء لموهبة هو إقصاء للنعمة الإلهيّة. وكلّ ازدراء بموهبة مقبلة بمحبّة إلى كنف الكنيسة هو ازدراء بالروح القدس.
أنهي هذه المطالعة في كتاب »المواهب في الكنيسة« بنقل ما جاء في آخر صفحاته: »إنّ فضل الكنيسة الحيّة أن تخلق لمواهب بنيها مناخًا سليمًا تتآزر فيه حتّى يأتي بنيان جسد المسيح على حسب ما شاءه، فلا تقتل روحًا، ولا تكبّل عزمًا، ولا تزدري طاقةً، ولا تتفّه عملاً، لئلاّ تحزن قلب اللَّه«.
فيا أيّها الرعاة، لنعمّق المشاركة في حياة الكنيسة في غير أبرشيّة ورعيّة. فالمشاركة، أي جمع المواهب وتفعيلها إلى أقصى حدّ، هي دعوة المسيح كما نقلها الرسل، وهي رسالة الكنيسة إلى هذا العالم الأرضيّ، ليتحوّل إلى أورشليم السماويّة حيث يهبّ الروح حينما يشاء وحيثما يشاء وفي من يشاء.l