2013

10. الإيمان على دروب العصر: شاول المتطرّف - جورج معلولي – العدد الثالث سنة 2013

 

شاول المتطرّف

جورج معلولي

 

التطرّف دائمًا أخو الشك

(يونغ )             

لمّا سمع أعضاء المجمع شهادة بطرس والرسل في أعمال 5، »اشتعل غضبهم، وأرادوا أن يقتلوهم. لكنّ واحدًا من أعضاء المجمع يحترمه كلّ الناس وقف وأمر بإخراج الرسل بعض الوقت. وكان اسمه غمالائيل، وهو فرّيسيّ ومعلّم شريعة. وقال لهم: »يا رجال إسرائيل، انتبهوا إلى ما توشكون أن تفعلوه... فإنّي أنصحكم بأن تبتعدوا عن هؤلاء الرجال. دعوهم وشأنهم. فإن كانت خطّتهم أو عملهم هذا صادرًا عن بشرٍ، فسينتهي إلى الفشل. أمّا إذا كان من اللَّه، فلن تقدروا على أن توقفوهم. لئلاّ تجدوا أنفسكم تحاربون اللَّه!«. يصعب علينا أن نلمس آثارًا واضحة لمنهجيّة هذا المعلّم الذي اشتهر بانفتاحه عند تلميذ له تلقّن الناموس »عند قدميه« (أعمال 22: 3). فشاول الطرسوسيّ، على عكس معلّمه، يظهر مشتعلاً بالغضب حتّى إنّ راجمي إستفانوس »خلعوا ثيابهم عند رجليه« (أعمال 7: 58). هل كان التلميذ أكثر غيرة من معلّمه على تقاليد آبائه؟ هكذا يصف نفسه أمام اليهود: »كنت غيورًا للَّه كما أنتم جميعكم اليوم« (أعمال 22: 3) ليدلّ على الشحنة الانفعاليّة الكثيفة التي لغيرته بتشبيهه إيّاها بحالة الشعب الذي أمامه: »أهاجوا كلّ الجمع... صارخين... هاجت المدينة كلّها وتراكض الشعب... أورشليم كلّها اضطربت... كانوا يصيحون ويطرحون ثيابهم، ويرمون غبارًا في الجوّ« (أعمال 22 و23). وكأنّ غيرته، كحالة هذا الشعب، غيرة مضطربة هيجانيّة تغزو فيها الانفعالات مجال الحسّ والإدراك وتحرّك العضلات. يشبه هذا السلوك إلى حدّ كبير ردّ الفعل البدائيّ الأوتوماتيكيّ »أهرب أو أهجم«  fight-or-flight لدى الحيوان أو الإنسان الخائف التي تطلقها مناطق الدماغ العميقة عند أيّ إنذار بخطر يهدّد الحياة. الغضب هنا مرتبط بالخوف.

ما هو هذا الإنذار الذي أطلق غضب أعضاء المجمع ومن بعدهم شاول؟ ما سبق اشتعال الغضب قول بطرس: »إله آبائنا أقام يسوع... ورفّعه رئيسًا ومخلّصًا، ليعطي إسرائيل التوبة وغفران الخطايا« (أعمال 5: ٣٠- ٣١) وفي هذا تهديد واضح للبناء الناموسيّ وجدواه، أي تهديد للهويّة الدينيّة. ولا بدّ من أنّ أعضاء المجمع التقطوا هذا المؤشّر تهديدًا للوجود. ولكنّ ما هو أبعد من الخوف هو ارتباكهم الكلّيّ وعجزهم عن فهم الظواهر الحادثة أمامهم: »ارتابوا« (أعمال 5: 24) وفي المعنى اللغويّ الحرفيّ ما يوحي بأنّهم بحثوا في لائحة طويلة من الإمكانيّات المنطقيّة، فلم يجدوا حلاًّ فارتبكوا وتحيّروا، ومنهم من يترجم »لم يعرفوا كيف يفكّرون« أمام ما يجري أو »كانوا في الشك«. والطريقة العفويّة لإنهاء الحيرة وطمس الشكّ هي إزالة مسبّبيه بالقتل أو بالإسكات: »أمروهم ألاّ يتكلّموا على اسم يسوع، ثمّ أخلوا سبيلهم« (أعمال 5: 40). يحاولون أن يخنقوا الشكّ خنقًا بسلوك عنيف. فالعصبيّات العقائديّة  والتطرّف غالبًا ما تكون تعويضًا من شكوك خفيّة كما يقول يونغ.

يحكي بولس عن ماضيه في فيليبّي 3 عن فخره الجسدانيّ: »ختنت في اليوم الثامن من عمري. وأنا من بني إسرائيل، من قبيلة بنيامين. عبرانيّ من والدين عبرانيّين. أمّا نهجي في الشريعة، فقد كنت فرّيسيًّا. وكنت بلا ملامةٍ، حسب مقاييس الشريعة«؛ ثمّ يقول توًّا »لكن ما كان لي ربحًا قد حسبته من أجل المسيح خسارة« (فيليبّي 3: 7). إذًا، كان الإيمان بالمسيح ملغيًا كلّ البرّ الناموسيّ الذي كانت تتوكّأ عليه كبرياء شاول القائلة في موضع آخر: »كنت أتقدّم في الديانة اليهوديّة على كثيرين من أترابي في جنسي« (غلاطية 1: 14). ربّما يفسّر هذا جزئيًّا جنون شاول في اضطهاده المسيحيّين. ربّما شعرت نفسه مسبقًا أنّ اتّباع »الطريق« يترادف في العمق مع موت عن البرّ الذي بلا لوم والاكتفاء الذاتيّ، أي موت كلّيّ لشاول القديم الذي كان، »خوفًا من الموت«، كلّ حياته »تحت العبوديّة« (عبرانيّين 2: 15). على مثال موسى الذي يصفه في 2كورنثوس 3، يضع شاول برقعًا على وجهه حتّى لا يرى إلى نهاية الزائل. يقاوم حتّى الدم تمزيق البرقع. هل أغرت طريق المسيحيّين نفس شاول إغراء سرّيًّا أو كانت تسائل برّه الناموسيّ مساءلة قويّة هي بقوّة المقاومة العنيفة التي أظهرها؟ في هذا الافتراض، يكون عنف شاول ضدّ المسيحيّين موجّهًا بشكل أساس ضدّ نفسه المنجذبة سرّيًّا إلى »الطريق«. من غير حافز داخليّ أنّى لنا أن نفهم أنّه »كان لم يزل ينفث تهدّدًا وقتلاً على تلاميذ الربّ« (أعمال 9: 1)؟ صعب عليه أن يرفس مناخس. صعب عليه أن يظلّ رافضًا هذا المنخس الداخليّ الذي يدفعه في العمق إلى »الطريق«. لقد قال له يسوع »لماذا تضطهدني؟«. يوضح كلّ هذا أنّ بولس كان يضطهد يسوع ليس فقط في تلاميذه، بل كان أوّلاً يضطهد ولادته في نفسه. ولكن، كما قال غمالائيل، إذا كانت هذه الولادة من اللَّه، فمن الصعب إيقافها. يظهر أخيرًا صوت غمالائيل وفكره المنفتح على إرادة اللَّه تحت ريشة بولس بعد أن تحرّر من انقباضه القديم  في غلاطية 1: 15، إذ يقول: »لمّا سرّ اللَّه، الذي أفرزني من بطن أمّي ودعاني بنعمته، أن يعلن ابنه فيّ لأبشّر به بين الأمم، للوقت لم أستشر لحمًا و دمًا«. كانت هذه الولادة ولادة مؤلمة لأنّ خلع الإنسان العتيق صليب فصحيّ. وقال الربّ لحنانيا في الرؤيا: »إذهب. لأنّ هذا لي إناء مختار ليحمل اسمي أمام أمم وملوك وبني إسرائيل. لأنّي سأريه كم ينبغي أن يتألّم من أجل اسمي« (أعمال 9: 15).

يعتقد يونغ أنّ شاول كان مسيحيًّا من غير أن يدري طويلاً قبل الرؤيا على طريق دمشق، لذلك كان يكره المسيحيّين حتّى الموت، فالعصبيّة والتطرّف لا نجدهما إلاّ عند الذين يضمرون شكوكًا سرّيّة يحاولون خنقها. لقد شعّت لحظة التحوّل عند شاول بعد طول اضطراب. فـ»عندما يرجع إلى الربّ يرفع البرقع« (2كورنثوس 3: 16). وبتمزّق البرقع، شاهد شاول مجد الربّ بوجه مكشوف، فتغيّر إلى تلك الصورة من مجد إلى مجد، كما من الربّ الروح.l

مراجع :

 

L’avorton de Dieu. Alain Decaux. Perrin / Desclee de Brouwer

L’âme et la vie. C.G. Jung. Le livre de Poche.

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search