2013

5. أيقونات حيّة: أهازيج من العيد البعيد إلى إيمان حمصي - أسعد قطّان – العدد الثالث سنة 2013

أهازيج من العيد البعيد

إلى إيمان حمصي

 

ستّـــــي مــن فـــــوق لــــو فيّـــــــي زورا     

راحـــت عــالعيــــد والعيــــد بعيـــــد

                                      الأخوان رحبانيّ

                                                         

 

لقد أبى الموت إلاّ أن يكون الكبد المحطّة الأخيرة من محطّات قطار دائك الطويل، كأنّما أراد أن يجتثّ منك لا طاقة الحياة فحسب، بل كلّ ما تراكم في الذات عبر خمس وأربعين سنةً من مرهفات الأحاسيس تترسّّب في الكبد، ثمّ تتنـزّل في القلب.

بلى، أيّتها الطالعة من مجاذبة الأوتار!

لا بدّ من أن نعترف اليوم، وأنت تتوسّّدين الضيائين، ضياء ما حُكته لنا من جمال طيلة مقامك بيننا، وضياء وجه يسوع الذي لا يخالطه شحوب، أن نعترف بأنّنا راهنّا على أُعجوبة لم تأتِ. حسِبنا أنّه لا يليق باللَّه أن يغدق علينا كلّ هذه الطراوة التي تفيض من أصابعك، ثمّ ينتزعها منّا كورقة شجر تبتلعها ريح خريفيّة شعواء. ردّدنا في دواخلنا آلاف المرّات، كمن يريد أن يقنع ذاته، أنّ اللَّه لا يحفر قبور الهدايا التي منّ بها علينا. فهو، لا محالة، صانعٌ، قبل غروب الشمس، أمرًا عجيبًا ومستغربًا. أليس هو القائل، على لسان نبيّه، إنّه هو اللَّه الصانع العجائب وحده؟ كدنا ننسى، أو ربّما نسينا لوهلة، أنّ انتظار الأعاجيب، والتلذّذ بها، إن هو إلاّ أعظم التجارب وأسوأها، كما أسرّ لنا هو نفسه يوم امتحنه الشيطان على الجبل ألاّ تجرّب الربّ إلهك (لوقا4/12) حتّى وإن كنت تستشرف الهاوية. وكدنا ننسى أنْ لا أعجوبة، لا في هذا الزمان الحاضر ولا في قوادم الأيّام، أبلغ من أعجوبة صليبه، حين أسند رأسه إلى خشبة الموت، وسكب دمه عليها سخيًّا، لئلاّ تفصله مسافة عن مسحوقي هذه الأرض ومضرَّجيها.

ذات يوم، وأنت في مركز دائرة الألم، هتفت ما هذه الحياة وكيف أحياها؟ وكيف يصير هذا الجسد، الذي أُغذّيه وأُربّيه وأحتضن به الآلة الخشبيّة المقدّسة، جحيمي؟ لم تسعفك، يومها، لدونة الأنغام التي استخرجتها من ذاتك، في تمرّغ المرض، على تلمّس معنى ما للحياة قابع في الفرح العميم الذي سيتنـزّل على كلّ من يسمع هذه الموسيقى من الآن وحتّى انقضاء الدهر. ولم تسعفني الكلمات التي أُحسن، في العادة، تدبيجها، على تلمّس معنى ما للموت لعلّي لا أكتنه سرّه، ولكنّي أُحسّ بحضوره، إذا ما فكّرتُ في السيّد الذي نصب خيمته في بقعة الموت قبلما يسطّر صفحةً للقيامة في كتاب حياتنا. بلى! لا بدّ، في خضمّ الألم وسطوته، من وقت للمتروكيّة. وإلاّ فما معنى كلماته على الصليب »إلهي، إلهي، لماذا تركتني« (مرقس ١٥: ٣٤)؟ ربّما يتبدّى للبشر، يا صاحبة، أنّ حكايتنا مع الموت لم تتغيّر منذ الصليب قيد أُنملة. ولعلّهم في ذلك على حقّ. فنحن نموت بعده كما كنّا نموت قبله. وزعمي أنّ تقدّم الطبّ أيضًا لم يزِدْ هذه الحكاية إلاّ مأساويّةً ولوعةً، وذلك على قدر ما يفضح عنادُ الموت عجزَ وسائل الطبّ عن دفعه. ولكن بعدما عُلِّق ابن اللَّه على خشبة، صار هو نفسه هذه الحكاية. صارها كلّها. وفي صليب يسوع حاك اللَّه حكايتنا مع الموت قطعةً من نسيج أُلوهته.

تراه ماذا همس في أذنك وهو يتسلّمك من قبضة المرض العاصي على حنكة الأطبّاء وعقاقيرهم؟ هل قال تأتين معي، يا حدقة العين، فينسلّ الألم من عمودك الفقريّ كأنّه لم يكن، وأمسح بالزيت وجهك فيستعيد نسغ الحياة الذي امتصّته أفعى السرطان؟ هل عاتبته على الوجع الكثير، فهتف أنّه ما كان بعيدًا يوم نسجت على أوتار القلب آخر مقطوعة كتبتها للقانون وسمّيتها »صلاةً غير مستجابة«، ثمّ أردف أنّه كان هو إيّاه في الجسم يقوّي ما لم يتخلّع بعد من خلايا، وفي النفس يلمّ ما تشرذم من تعزيات؟ الذين احتضنوا، بصمتهم، ساعاتك الأخيرة قالوا إنّ بؤبؤ العين كان يسافر في البعيد البعيد، ينظر ولا يرى، يتحرّك ولا يفصح عن وجهة. هل كان هذا هو جحوظ الموت، أم إنّ ضياء وجهه سرق ناظريك، كما كانت تسرقنا أصابعك من تفاهة لحظاتنا اليوميّة، فعدت لا تطيقين النظر إلى وجه آخر؟ سيبقى هذا سرّك المكنون، يا إيمان الحلوة، حتّى نشرب الخمر معًا، جديدةً في ملكوته، حين ينادينا بأسمائنا، هو الذي يعرف أسماء خرافه فردًا فردًا، ويحفر في خوافقنا موسيقى من ارتعاشات أصابعه، حتّى لا تتكسّر حكاياتنا في حضرته.

وداعًا يا صديقتي، يا عازفة القانون المسمَّرة على ترانيم الصباح حين تنبلج القيامة من لوز نيسان. لقد آن أوان العيد البعيد، أما تسمعين أهازيجه تشقّ عباب السماء؟ ودُقّت ساعة المقطوعة الأخيرة التي لم يسبقك أحد إليها. لعلّ السنين الطوال التي صرفتها تطوّعين الآلة الخشبيّة ما كانت إلاّ تدرّبًا على هذه المقطوعة تعزفينها اليوم ... في ملكوته!l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search