2013

2. رعائيّات: في الأهواء - المطران سابا (إسبر) – العدد الثالث سنة 2013

 

في الأهواء

المطران سابا إسبر

 

 

سؤال: ذكرت، أكثر من مرّة، في الحديث الماضي، كلمة الأهواء. هلاّ حدّثتنا قليلاً عنها، يا أبت؟

الشيخ: إنّها الدرك الأدنى الذي يمكن أن تصل إليه الطبيعة البشريّة في سقوطها.

تعني كلمة الأهواء، في أصلها اليونانيّ Pathi واللاتينيّ passiones، حالة الاستسلام أوالعبوديّة أو الخضوع، التي يمكن أن يصل الإنسان إليها بدافع الأهواء. لأنّ الأهواء، في الواقع، تهزم الإرادة، فتتحكّم في الإنسان أو تستعبده، أو تسيّره كلّيًّا. كما أنّ الفعل اليونانيّ للكلمة Pascho يعني »يتألّم«، وهذا يشير إلى أنّ الأهواء التي فينا إنّما هي مرض داخليّ.

سؤال: ولكن، ما هو تعريفها، يا أبتِ؟

الشيخ: هوى الشيء، في اللغة العربيّة، يعني أحبّه. من هنا يمكننا تعريف الهوى بميل داخليّ يشدّ الإنسان نحو تحقيق رغبة شديدة التأثير فيه. والهوى، في المفهوم الأرثوذكسيّ، رغبة انحرفت عن طبيعتها الأصليّة، واتّخذت سبيلا مغايرًا إلى تحقيقها.

الهوى ميل في الإنسان انحرف نحو إشباع ذاته عبر سلوك طريق منحرف يوهمه بتحقيق رغبته الدفينة في الحياة الفضلى. بسبب السقوط، اتّجه الإنسان إلى الأشياء المخلوقة، ليشبع ذاته منها بدلاً من اللَّه. بهذا المعنى، نقول إنّ الهوى يجذب الإنسان إلى »العالم« الذي يصغّره ويضخّم الأنانيّة فيه وينمّيها، بدلاً من أن يجذبه نحو اللَّه الذي يكبّره ويجعله صالحًا. لماذا؟ لأنّ اللَّه عندما خلق الإنسان على صورته وضع فيه قوًى تؤهّله لأن ينمّيها ويكبر بها حتّى يصل إلى مثال اللَّه، طبعًا بمعونة اللَّه ونعمته. 

ولكن، عندما تشوّهت طبيعة الإنسان وانقسمت على ذاتها وعلى اللَّه وعلى الخليقة بالخطيئة الأولى وسقوط الإنسان الأوّل، اتّجهت هذه القوى اتّجاهًا معاكسًا لاتّجاهها الأصليّ، أي اللَّه. فصرنا ندعوها أهواء.

سؤال: أيمكن أن تتوسّع قليلاً في شرح »قوى النفس«، يا أبتِ؟

الشيخ: يفصّل آباء الكنيسة النفس بطرائق عدّة، ولكنّهم يجمعون على أنّها ثلاثيّة القوى. ففيها القوى العاقلة والشهوانيّة والانفعاليّة. يقول القدّيس ذوروثيوس، على سبيل المثال: »تعمل النفس العاقلة بصورة طبيعيّة عندما يشتاق الجزء الشهوانيّ إلى الفضيلة، ويجاهد الجزء الانفعاليّ ليحصل عليها (الفضيلة)، ويكرّس العقل ذاته لتأمّل الكائنات«. 

أمّا عندما يعمل الإنسان بصورة غير طبيعيّة كما هي الحالة بعد السقوط، فتصاب القوّة العاقلة بالجهل الروحيّ ويسود الافتخار عليها. أمّا القوّة الشهوانيّة، فتتّجه نحو محبّة اللذّات وتسود الانحرافات الجسديّة بمختلف أنواعها، وتتحوّل القوّة الانفعاليّة إلى طغيان، فتسود أهواء الكراهية والغضب والضغينة والحقد والانتقام. وهكذا يصبح الإنسان مستعبدًا تمامًا للشيطان الذي يفسد جمال نفسه.

سؤال: هل لك أن تعطينا بضعة أمثلة؟

الشيخ: يقول القدّيس يوحنّا السلّميّ: »الشرّ أو الهوى ليس شيئًا مزروعًا بالطبيعة فينا، وليس اللَّه هو خالق الأهواء(1). وعلى الجانب الآخر، فإنّ العديد من الفضائل الطبيعيّة أتت إلينا منه« (26/ 67).

لنأخذ بعض الأمثلة. المحبّة موجودة فينا بالطبيعة، لكي نحبّ اللَّه وكلّ ما خلقه. لكنّها تحوّلت بالسقوط إلى هوى حبّ الذات والأنا. الانفعال موجود فينا بالطبيعة، كي نتحسّس الأمور الإلهيّة وجمال الخليقة وفرح العيش مع اللَّه. تخيّل إنسانًا ليس عنده انفعال. إنّه إنسان جامد لا يعرف أن يحيا، ولا يتحسّس لشيء. لكنّ هذا الانفعال انحرف، ليصير غضبًا وسخطًا وحقدًا على الذات والآخر واللَّه.

ويتابع القدّيس يوحنّا السلّميّ شرحه قائلاً: »لم يبدع اللَّه الشرّ(2) ولم يسبّبه، وقد ضلّ الذين زعموا أنّ في النفس أهواء شرّيرة، وخفي عليهم أنّنا نحن الذين حوّلنا خواصّ طبيعتنا إلى أهواء« (26/ 156). ويعطي أمثلة عدّة، ليوضح قوله هذا: »إنّ قدرة إنجاب الأولاد مثلاً هي فينا بالطبع، ولكنّنا حوّلناها إلى الزنى. فينا االغضب بالطبع، وذلك لكي نغضب على الشيطان، فوجّهناه نحن ضدّ القريب. فينا الغيرة، لنتنافس في الفضيلة، فتنافسنا في الشرّ. من طبع النفس أن تتوق إلى المجد، ولكن إلى ذلك العلويّ. فينا التكبّر بالطبيعة، ولكن على الشياطين فقط. كذلك فينا الفرح، ولكن لنفرح بالربّ وبحسن عمل القريب. قد أعطينا الاستياء، لكن لنغتاظ من أعداء النفس، ونلنا شهوة الطعام، ولكن ليس للإفراط في تناوله« (26/ 156).

سؤال: هل يمكن أن تعتبر أنّ الأهواء سوء استعمال للقوى الطبيعيّة التي فينا؟

الشيخ: بالطبع، لأنّنا إذا نظرنا إليها واقعيًّا نرى أنّها تدفعنا باتّجاه يعاكس ما يجب أن تدفعنا إليه في الأساس، أي ضدّ الحياة الحقّ، ضدّ الحياة في المسيح. وإن تأمّلنا قليلاً في قول القدّيس نيقولا كاباسيلاس الجميل التالي: »لقد أعطينا الفطنة بحيث نعرف اللَّه، والرغبة بحيث نسرع نحوه، والذاكرة بحيث نحمله في داخلنا«. نكتشف، بسهولة، كيف أنّ الرغبة والفطنة والذاكرة لا تتّجه، في واقعنا الحاليّ، كما يقول، بل بعكس ما يقول.

سؤال: هل من بعض أمثلة على سوء استعمال الأهواء يا أبتِ؟

الشيخ: سأورد لك قولاً للقدّيس مكسيموس المعترف، يقول فيه: »تولّد فينا روح الزنى من طاقة الإنجاب، وطلب اللذائذ من المذاقة، دُعينا إلى الكمال فطلبنا المجد الفارغ، أُعطينا الجوع لنحيا، فطلبنا الشراهة...«.

سؤال: هل نستطيع القول إنّ الأهواء كانت موجودة فينا بالطبيعة، ولكنّها كانت أهواء صالحة، انحرفت بسقوط الإنسان الأوّل في الخطيئة الأولى، فصارت أهواء فاسدة أو شرّيرة.

الشيخ: النظرة الآبائيّة إلى الأهواء تفيد بأنّها في الأساس قوى صالحة، تبدّلت وجهتها بسبب السقوط، فصارت تؤدّي عكس وظيفتها الأساسيّة. ولكن، أودّ لفت انتباهك إلى أمر مهمّ عند مطالعتك الأدب الروحيّ الأرثوذكسيّ. قد يطالعك مرّةً من يتكلّم على الأهواء كأنّها دخيلة على طبيعة الإنسان، وكأنّها دخلتها بعد السقوط، وقد تقرأ مرّةً أخرى من يتكلّم عليها كشيء أصيل موجود فينا. التنبّه هنا ضروريّ إلى سياق الحديث. ففي الأدب الروحيّ، يدور الكلام حول القضايا العمليّة والواقعيّة التي تواجه المؤمن أو يواجهها هو في سياق جهاده وسعيه إلى حياة التطهّر والنقاوة والخلاص.

ولكن عقائديًّا، نقول إنّ الأهواء أصيلة ومكتسبة في الوقت ذاته. هي أصيلة لأنّها موجودة فينا بالخلق، بالفطرة، إنّها قوى النفس كما أسلفنا، لكنّها، في واقعها الساقط، مكتسبة، لأنّ عملها تبدّل وانحرف بعد السقوط. وبتعبير جميل لأحد الآباء اليونان المعاصرين: »تبدّلت فيزيولوجيا الأهواء بعد السقوط«.

سؤال: ولكن، ما الذي حدث بسقوط الإنسان الأوّل حتّى تحوّلت هذه القوى عن هدفها؟

الشيخ: يقول الأب صفروني (زخاروف) في أحد كتبه (حياته حياتي): »لا نعرف ما الذي حصل. لا نعرف تمامًا ما الذي أودى بنا إلى ما نحن عليه. كارثة لا توصف حلّت بنا...«. ندرك ما نحن عليه الآن، ونعرف، بالمسيح، كم هو بعيد ومخالف لما كنّا عليه في الفردوس، فندرك أنّ بعد الإنسان عن اللَّه، مصدر حياته ونبعها، سبب هذا التحوّل الذي حدث عندما رفض الإنسان الأوّل العيش في كنف اللَّه، وفضّل أن يعيش وينمو ويكبر بذاته، فسقط ذلك السقوط الرهيب الذي قاد البشر إلى أعماق مظلمة يتعذّر وصفها.

سؤال: هل من تقسيم أو توزيع ما للأهواء، يا أبتِ؟

الشيخ: يمكن تقسيم الأهواء بطرائق عدّة، وذلك بحسب الكلام عليها وسياقه. فهناك توزيع لأهواء تخصّ الجسد وندعوها جسديّة، وأهواء تخصّ النفس وندعوها نفسيّة. ويمكن تقسيمها بحسب قوّتها إلى أهواء رئيسة وأهواء فرعيّة، وأهواء خارجيّة وأخرى داخليّة، وأهواء رهبانيّة وأخرى عالميّة... أمّا التقسيم المتّبع علميًّا، فهو تصنيفها بحسب قوى النفس الثلاثيّة التي ذكرنا آنفًا. فالقدّيس يوحنّا الدمشقيّ، على سبيل المثال، يصنّفها هكذا:

أهواء القوّة العقليّة: كلّ ما يمكن أن يخطأ به الإنسان بالعقل والفكر، أي باستعمال قوّة الإدراك، كالكفر والهرطقة والحماقة والتجديف والإلحاد وعدم الشكر والكذب وتبرير الذات والتذمّر والرفض والكبرياء والترفّع...

أهواء القوّة الانفعاليّة: كل ما يمكن أن يخطأ به الإنسان عبر استعمال قوّة الانفعال، كالقساوة والكراهية وانعدام الحنوّ والضغينة والحسد والغضب والقتل والغلّ والكبت....

أهواء القوّة الشهوانيّة: كل ما يشدّ الإنسان نحو اللذّات بخاصّة تلك المحسوسة منها، كالمجد الباطل والعُجُب ولذّات الجسد من زنًى وشراهة وكسل وتنعّم...

سؤال: نلاحظ أنّنا نخطئ بالجسد أكثر ممّا نخطئ بالنفس، فهل نستدلّ من خبرتنا أنّ قوى الجسد أكثر فعلاً فينا من قوى النفس؟

الشيخ: قد تشعر بخطيئة الجسد بشكل أقوى من خطيئة النفس يا بنيّ، لأنّ خطيئة الجسد محسوسة، تدركها الحواسّّ الخمس أو بعضها على الأقلّ، وهذا يفيدنا في التنبّه إليها وتاليًا محاربتها. أمّا خطيئة النفس، فتكون داخليّة ولا تدركها الحواسّّ الخمس، بل تتطلّب حسًّا روحيًّا مرهفًا، وفحصًا للنفس طاهرًا على ضوء كلمة الإنجيل لمعرفتها.

ما ذكرته ضلال يقع فيه كثيرون بخاصّة في عالمنا المعاصر، لأنّ مغريات العالم المحسوس وافرة وكثيرة ومتنوّعة جدًّا.

ولئلاّ تقع في خطأ كهذا سأذكر لك بعضًا من أهواء الجسد وكذلك النفس.

نعدّد في أهواء الجسد:  النهم، الطمع، التهاون، السكر، الشراهة كمًّا ونوعًا، حبّ التنعّم، الرخاوة، النجاسة، الزنا، الإباحيّة، الدنس، زنا المحارم، الشذوذ الجنسيّ، السرقة، تدنيس المقدّسات، القتل، حياة البطر والإسراف. استشارة العرّافين، السحر، مراقبة التباشير والدلائل، التزيّن المفرط، التفاخر، تشويه الجسد، إضاعة الوقت، أحلام اليقظة، التحايل، سوء استخدام ملذّات هذا العالم بطريقة شهوانيّة، الحياة السهلة جسديًّا التي تجعل العقل غليظًا ومادّيًّا، وتترك الحسّ بليدًا وشبه معدوم...

أمّا من أهواء النفس، فنعدّد: النسيان، الكسل، الجهل، عدم التقوى، التجديف، الغيظ، الغضب، القساوة، الكبرياء، الترفّع، الغرور، التوتّر، اللاإنسانيّة، الضغينة، الاغتياب، النقد، الاكتئاب، الخوف، الجبن، المشاكسة، الغيرة، الحسد، تعظيم الذات، الافتخار، الرياء، الكذب، الشكّ، الطمع، محبّة الأشياء المادّيّة، الرغبة الشرّيرة، التعلّق باهتمامات العالم، الفتور، عدم الشجاعة، عدم الشكر، التذمّر، الزهو، الخيال، التباهي، التبجّح، محبّة القوّة، محبّة الشهرة، الخداع، الوقاحة، عدم الإحساس، التملّق، الخيانة، التظاهر، التردّد والموافقة على الخطايا النابعة من الجزء الحسّيّ للنفس والبقاء فيها باستمرار.

سؤال: ولكنّنا نلاحظ أنّ السعي في سبيل تحقيق الأهواء أو الشهوات لا ينتهي، والإنسان لا يكتفي بما يحصّله من لذّات، بل يسعى دومًا إلى المزيد؟

الشيخ: من سمات الأهواء أنّها تُظهر في الإنسان عطشًا يطلب إرواء ولا يجده. إنّها تكشف عطش الإنسان إلى اللانهائيّ، لكنّها منعطفة نحو اتّجاه لا يحقّق للبشر شبعهم أو اكتفاءهم.

ما يقوله القدّيس نيلُس السينائيّ عن الشراهة يصحّ في أيّ هوًى. يقول: »تصير المعدة بالشراهة بحرًا يستحيل ملؤه«.

خذ هوى التملّك مثالاً. يرغب الإنسان في المقتنيات والمال والغنى والثراء، بدءًا من الأمور الصغيرة وليس انتهاء بالأمور الكبيرة. لماذا هذا الركض المحموم الذي لا يشبع نحو التملّك بأشكاله كافّة؟ لأنّ في داخل الإنسان توقًا إلى المطلق، إلى اللامحدود. هذا نعبّر عنه بلغتنا الإيمانيّة  توق الإنسان المخلوق إلى خالقه، توق الصورة إلى مثالها، توق إلى المصدر الذي هو اللَّه.

يشدّ الهوى الإنسان إلى قصده. فهوى الشراهة يشدّ إلى الإكثار من الطعام والتفنّن في أنواعه، وهوى البقاء يشدّ الإنسان إلى التعلّق بالأرضيّات والاستغراق الكلّيّ فيها، وهكذا يعمل الهوى على طلب الإشباع من طريق تحقيق قصده. لكنّ قصد الهوى محدود بوسيلته المحدودة أيضًا. ما لا يتطابق مع عطش الإنسان اللامحدود، لا يمكنه إشباع الإنسان.

سؤال: علامَ يدلّ هذا السعي المحموم عند البشر إلى الاستزادة من كلّ شيء وعدم الاكتفاء بما يصلون إليه مهما كان عظيمًا؟

الشيخ: في الواقع، تبحث الأهواء عن غايات، وتطلبها لأنّها فقط تقع كلّيًّا تحت رقابة الأنا ورحمتها. هذه الغايات محدودة، بخاصّة في الزمن، لها مدّة وتنقضي، ولا تصلح كمصادر للإشباع لأنّها تنقضي سريعًا في اللاوجود بسبب استهلاكها.

يقول القدّيس مكسيموس المعترف: »يجد الإنسان الأهوائيّ ذاته في خضمّ انشغالات متواصلة بلا شيء. إنّه يحاول استرضاء عطشه اللانهائيّ بلا شيئيّة أهوائه، إنّه يتغرغر بأمور تسفر عن لا شيء بحكم طبيعتها«. كذلك عندما يشدّ الهوى الإنسان إلى إشباع ذاته من غاية هذا الهوى، فهو يقزّم الإنسان ويخفضه إلى حدود هذه الغاية.  

سؤال: هل من علاقة بين الأهواء والبيئة أو الثقافة التي يعيش فيها الإنسان. بكلام آخر، هل تتبدّل الأهواء من حيث خطرها بتبدّل الثقافة والحضارة عبر الزمن؟

الشيخ: الأهواء موجودة فينا، ولكنّ البيئة أو الثقافة المحيطة بنا قد تشجّع بعض الأهواء على الظهور أكثر من غيرها. فعلى سبيل المثال، عبادة الجسد والاهتمام المفرط بشكله وجماليّته هوًى يسوقه نمط العيش المعاصر بشكل بارز ومفرط. الثقافة الحاليّة تشدّد على ضرورة إشباع الشهوات الجسديّة وتعتبرها مجرّد حاجات بيولوجيّة، ما يرمي الإنسان المعاصر في خضمّ اهتمامات محض جسدانيّة، توقظ وتضخم فيه كلّ أنواع الأهواء التي تخصّ الجسد. كما أنّ الثقافة الفرديّة السائدة تنمّي فيه حبّ التملّك والبخل والانكفاء على الذات وعدم الانفتاح على الآخرين. أمّا عالم الاستهلاك المفرط، فينمّي فيه بلادة الحسّ الروحيّ والركض وراء إشباع الحاجات المحسوسة فقط، والأنانيّة التي تنجم عن التربية على الدلال والرخاوة وتحقيق الرغبات منذ الطفولة. هكذا تجد، يا بنيّ، أنّها أهواء موجودة وأصيلة فينا، ولكنّ الجوّ المحيط يغذّيها ويقوّيها، فتغدو بارزة في زمن أكثر ممّا كانت عليه في زمن آخر.

سؤال: قرأت مرّةً عن الأهواء المعابة وغير المعابة، ولم أفهم المقصود بهذه العبارة.

الشيخ: يستخدم البشر تعابير متنوّعة حتّى يوضحوا فكرة ما. يسمّي البعض الأهواء الموجودة فينا بالطبيعة وليس بالإرادة أهواء غير معابة أو أهواء طبيعيّة. ما هي هذه الأهواء؟ شهوة الطعام، الخوف، الحزن، التعب... إنّها قوى ضروريّة لحياتنا، لطبيعتنا البشريّة، وتساعدنا على الحفاظ عليها.

سؤال: هل يمكن أن نعتبرها غرائز؟

الشيخ: قبل السقوط كانت الأهواء غير المعابة أو الطبيعيّة التي في الإنسان تشابه حالة الغرائز البيولوجيّة التي في الحيوان، فهي تعطيه اكتفاء واستمرارًا في الحياة البيولوجيّة وبراءة أيضًا. لكن، وبسبب وجود الروح عند الإنسان، فإنّه يمتلك طموحًا لا محدودًا. فلا يمكن اختزال قواه إلى مجرّد قوًى بيولوجيّة. بعد السقوط صار طموح الإنسان اللامحدود يترافق مع الأهواء البيولوجيّة الطبيعيّة ويحوّلها إلى أهواء غير طبيعيّة أو معابة. ازداد تأكيد الأهواء الطبيعيّة فينا بعد السقوط، وصارت معرّضة لأن تصير أهواء مفرطة بسبب توق الإنسان إلى اللامحدود وعدم شبعه من المحدود.

سؤال: ألا يساعد البعد الروحيّ الإنسان على استعادة براءة أهوائه الطبيعيّة؟

الشيخ: بلى، إذا عرف كيف يحفظها ضمن الحدود المفيدة للطبيعة. تصبح أهواء الإنسان صالحة أو شرّيرة تبعًا لتوجّهه بها إمّا باتّجاه اللَّه أو باتّجاه الدنيا. يقول القدّيس مكسيموس المعترف: »تصبح الأهواء الطبيعيّة صالحة في الذين يجاهدون عندما يرحّبون بالأشياء السماويّة. فعلى سبيل المثال، يستطيعون أن يحوّلوا الشهوة إلى حركة توق روحيّة إلى الأشياء الإلهيّة، المتعة إلى فرح صاف لمشاركة الذهن بالعطايا الإلهيّة، والخوف إلى عناية لتفادي مستقبل خطيئة سيّئ، والحزن إلى توبة مصحِّحة للشرّ الحاضر«.

سؤال: هل يفهم من كلام القدّيس مكسيموس على تحويل الشهوة استبدالها بشهوة أخرى؟

الشيخ: سعي المسيحيّ، يا بنيّ، يتركّز في استبداله بما هو خير شهوة ما هو شرّ، بالفضيلة الرذيلة، باللَّه الخالق العالم المخلوق. يقول القدّيس يوحنّا السلّميّ في تعريفه فضيلة العفّة، إنّه استبدال عشق بعشق، ولذّة بلذّة. استبدال بعشق الروح عشق الجسد.

سؤال: أيعني كلامك، يا أبتِ، أنّنا لسنا مدعوّين إلى استئصال الأهواء أو إماتتها؟

الشيخ: المطلوب، بحسب روحانيّة الكنيسة الأرثوذكسيّة، هو تهذيب الأهواء والارتقاء بها، وليس قتلها. ما من إنسان يحيا بدون قوًى روحيّة، فهل يقتل قواه إن ضلّت الطريق، أم يعيدها إلى الطريق القويم؟ وإذا أساء استعمال قوى فيه، يميتها أم يصحّح استعمالها؟ يجمع آباؤنا الروحيّون على عدم إماتة الهوى، بل إعادته إلى أصله.

يقول الأب بيمن (من آباء القرن الرابع): »نحن لسنا قتلة الجسد، بل قتلة الشهوات«. علينا أن نقتل الخطيئة التي فينا وليس الهوى. وجود الخطيئة فينا دليل على وجود الهوى، ولكنّ الهوى سابق للخطيئة. ففيما هو أصيل فينا بالأساس، هي (الخطيئة) تجسيد لانحرافه في الواقع. يجب أن نميّز جيّدًا بين الهوى والخطيئة. يجب أن نعي أنّ الأدب المسيحيّ الروحيّ الشرقيّ يتكلّم على تصعيد الأهواء وليس إماتتها. والمقصود بالتصعيد التسامي وروحنة القوى التي تشدّنا إلى الأرضيّات بغية استعادتها إلى وضعها الذي كانت عليه قبل السقوط.

سؤال: ولكن، نصادف في الأدب المسيحيّ الروحيّ، كلامًا في إماتة الأهواء ومحاربتها وإضعافها.      

الشيخ: من الضروريّ أن نميّز في الأدب الروحيّ الغزير بين معلّمين كبار اعتبرتهم الكنيسة روّادًا وقدّيسين، وآراء مجاهدين روحيّين مغمورين. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى من الضروريّ جدًّا أن نقرأ الأدب الروحيّ في سياقه الإرشاديّ الشخصيّ. فهناك مصنّفات كلاسيكيّة مثل »السلّم إلى اللَّه« للقدّيس يوحنّا السلّميّ ونسكيّات القدّيس إسحق السوريّ ومئويّات القدّيس مكسيموس المعترف، تشرح الحياة الروحيّة وتتأمّلها بأسلوب تعليميّ منهجيّ أو تأمّليّ. بينما توجد كتابات كثيرة أخرى تشرح وتعلّم بأسلوب إرشاديّ شخصيّ. وما يصحّ لشخص، فقد يكون مضرًّا لشخص آخر. أشدّد على قراءة الأدب الروحيّ ضمن سياقه، يا بنيّ. ولذلك، وخوفًا من الضلال، تنصح الكنيسة بقراءة هذه الكتب بإرشاد أب روحيّ.

سؤال: إذًا، يقصد النسك الذي حدّثتني عنه سابقًا لا استئصال الهوى ولا تجاوزه، بل ضبطه بغية تقويمه. هل ما أقوله سليم، يا أبتِ؟

الشيخ: الأهواء الطبيعيّة تحفظ الحياة، يا بنيّ. لكنّها لا يمكن أن تنقلنا إلى الحياة الأبديّة الخالدة. لذلك فالعنصر البيولوجيّ في طبيعتنا غير مدان أكان تأثيره جسديًّا أم عاطفيًّا. ويجب ألاّ نصارعه. فنسكنا ليس موجّها ضدّ الحياة البيولوجيّة، بل نحو تهذيب البعد البيولوجيّ وضبطه بغية إعطائه حقّه الطبيعيّ واستعادته دوره الأصيل، ليتقدّس ويتجلّى بنعمة اللَّه. ليس المقصود عندنا إفناء الجسد وحاجاته أو إلغاءه، بل تقديسه. لا تخلّص المسيحيّة قسمًا من طبيعة الإنسان، بل تخلّصه بكامله.l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search