2012

02- أيقونات حيّة: فقراء البطريرك - أسعد قطّان – العدد السادس سنة 2012

فقراء البطريرك

أسعد قطّان

 

حين نصب البطريرك يوحنّا خيمته في ديارنا، كانت الظلمة تلفّ الإسكندريّة. أتى المدينة وقال إنّ الفقراء هم النور، لأنّ وجوههم المُسمَرَّة بشمس الطرقات، المجعّدة بوطء أقدام الزمن على الجلد الجافّ، ينساب منها نور غامر سطع ذات يوم، على شاطئ بحيرة بعيدة، من وجه رجل يهوديّ.

ثمّ انبرى يوحنّا يبني دورًا لليتامى والأرامل، ويُعلي مضافاتٍ للغرباء، ويشيّد بيوتًا للرحمة يقصدها المعوزون، فيأكلون ويشبعون ويشربون ويرتوون. وإذا بهم يخرجون جحافل من أقبية المدينة التي لا تجرؤ الشمس على اختراق رطوبتها، ينسربون من جحور الأرض الطينيّة الملذوعة بالعفن والصدأ والغبار، يزحفون من الزوايا المصفرّة بالبؤس حيث لا يعبأ بهم سوى العناكب والجرذان والقطط الشاردة في الهول الدامس. كلّهم يطلبون القوت. كلّهم يتشهّون الخبز الرخص والخمر الصرف. كلّهم يجدّون الخطى طامعين في رؤية الأُسقف الشيخ الذي حوّل اقفرار المدينة إلى بستان يكتنـز بالخيرات.

حتّى العبيد كانوا هناك! انسلّوا من السفن المحمّلة بالعاج والخمور هربًا من ربابنتها يثقلون كواهلهم بالحديد. غادروا ملوحة المياه تشقّق جلدهم على رصيف الميناء. فرّوا من جور الأسياد يطبعون على جلودهم الندبة تلو الندبة، ولا يتركون لهم، بعد انسكاب الظلام، إلاّ فتات خبز بائد. ثمّ قدِموا إليه في غربة الليل الحالك. فإذا به في انتظارهم منذ زمان طويل. لا النوم يثقل جفنيه، ولا الإعياء يشقّق جبهته، ولا الوهن يطبع على خدّيه أمارات من يأس. مدّ لهم يديه المطويّتين. ثمّ طيّب خاطرهم بعذب الكلمات، ومسح قروحهم بالزيت، وعمّر لهم الموائد. بعدئذٍ، جلس يؤاكلهم. فأصبحوا سادةً، وأضحى هو الضيف.

حتّى البغايا كنّ هناك! غادرن ضيق المواخير وجئن إليه طامعات في تكحيل عيونهنّ بنور محيّاه. أويكون بطريرك الإسكندريّة، الآتي من قبرص، أبهى من الرجال الذين يدفعون لهم القليل لينالوا الكثير، ثمّ يغادرونهنّ في الصباح كتلةً تتلوّى من فرط الفراغ؟ وحدهم الفقراء يعرفون الفقراء. وحدهم العبيد يعرفون العبيد. وأنا أعرف بغايا هذه المدينة. لقد حضرن كلّهنّ. لم تتخلّف منهنّ واحدة. ساقهنّ غرور النساء تمازجه الفضوليّة الأُنثويّة التي لا تعرف هوادة. ساقهنّ الجوع الذي يقضم أمعاء العواهر حين يتأخّر الشِيبُ الباحثون عن سلوى الجسد بسبب ريح رمليّة أو عاصفة تشلّع القوارب الجاثمة على طول الشاطئ، فتغيب عباءات مقصّبة يتناثر منها الذهب. وهو فتح لهنّ يديه كمن يفتحها لاستقبال عليّة القوم. لم يبخل عليهنّ بالطعام والشراب. ولا منع عنهنّ انسياب الضوء، ولا كثافة الحبّ العالق في زوايا لحيته الكثّة وفوق رؤوس أصابعه. حين أهرق البطريرك يوحنّا أموال الكنيسة عند أقدام الفقراء، وفتح دوره للعبيد، وأغدق طيب محبّته على الغانيات، تحوّلت المدينة إلى بقعة من نور، لأنّه هو ماكث فيها.

يونانيّ اللسان هو، لا يعرف من المصريّة، لغة أجدادنا، إلاّ بُعيض كلمات. لكنّ الرحمة كانت لغته، تفتح له العقول والقلوب حتّى عندما يهيمن الصمت على الألسنة الجاهلة. ماذا أتى به إلى هذه الديار؟ وماذا حمله من الجزيرة النائية التي شبّ فيها إلى وادي النيل؟ قيل إنّه ينتسب إلى عائلة عريقة، وإنّ والده، ويدعى إبيفانيوس، كان من عليّة القوم وساستهم. كما قيل إنّ البطريرك الشيخ عرف، في صباه، امرأةً أنجبت له أطفالاً. ثمّ ماتوا جميعًا. فانخرط في السيرة الرهبنيّة. أيّ حزن هو هذا الذي يحتجب في ذاته من جرّاء فقد الزوجة والأولاد؟ لقد بلسم جراح كثيرين. أويكون له من يبلسم جراحه؟ وهذا اليهوديّ، صائد الأسماك، الذي طالما تحدّث عن حنان عينيه، هل يكون هو من ينفث فيه هذه القدرة العجيبة على مغالبة الحزن؟ أويكون حقًّا إلهًا، كما يزعم يوحنّا؟ وكيف للآلهة أن يدركوا مصائر البشر؟ ألا يكمن ضعف الآلهة في عدم قدرتهم على أن يصيروا من هذا اللحم؟

عندما مات البطريرك ثيوذوروس، هبّ بنو الإسكندريّة يطالبون بالراهب القبرصيّ الكهل أسقفًا على مدينتهم. غريب أمرهم أهل هذه البلد! لا يقارعهم أحد في نزقهم متى آن أوان المهاترة والتجاذب والخصام، لكنّهم ذوو خبرة رفيعة في رصد دفق المحبّة حين ينسال من العيون. ولعلّهم التقطوا، بحسّهم الثاقب، أنّ الشيخ الذي قصدهم من بلاد بعيدة لا يكنّ لهم إلاّ عميق المودّة. فانصرفوا يتملّقون القيصر فوكاس (602-610) حتّى كان لهم ما أرادوا، رغم ما عُرف عن هذا الملك من خشونة الطبع ورعونة المسالك. تُوِّج يوحنّا بطريركًا على الإسكندريّة. لكنّه ما لبث أن باع تاجه، واشترى بثمنه مأكلاً للمعوزين والغرباء. هكذا بدأت قصّته مع الفقراء، هذه القصّة التي شرع يكتبها، مذّاك، كلّ يوم على سماء الإسكندريّة، حتّى ضجّت بها قوافل البشر القادمين إليها من أصقاع بعيدة.

وحين هبّت غوائل الأيّام على المملكة المتجبّرة، عقابًا لها على سرقة القمح المصريّ، وأعمل الفرس سيوفهم البيضاء في فلسطين، أخذ البطريرك يرسل المواكب محمّلةً حنطةً ولحمًا ونبيذًا إلى الشرق. لكنّ أحدًا هنا لم يرفع صوته احتجاجًا على أنّ خيرات الإسكندريّة تذهب إلى غير أهلها. فالكلّ يعرف الودّ الذي يعتمل في قلب الشيخ. والكلّ بات يدرك أنّ من هو، اليوم، في وطنه ربّما تحمله الرياح العاتية، غدًا، إلى مكان آخر، فيصير غريبًا يستعطي المودّة والعطف. لكنّ الصيّاد اليهوديّ الذي كان يوحنّا يؤمن به لم يقوَ على حفظه لنا. فالفرس سرعان ما انقضّوا على وادي النيل. أمّا الروم، فقد عجزت مركباتهم عن ردّ الغزاة على أعقابهم. ولم يكن الفرس بأفضل من ساسة القسطنطينيّة. فشرعوا ينهبون ثروات البلاد، ويثقلون سفنهم بما تبقّى في أهراء مصر من حنطة. أمّا بطريرك الفقراء، فاضطرّ إلى مغادرة المدينة تحت جنح الظلام. ولعلّه قفل عائدًا إلى الجزيرة الصغيرة التي انطلق منها يومًا ليؤمّ الديار المصريّة.

في الأيّام الأخيرة التي سبقت رحيله، لم ينقطع عن التردّد على الدار التي عهد إليها بتوزيع الطعام والشراب على فقيرات الغواني. كنت أراه يتجلبب بالصمت، والحزن يطلّ كالأفعى من محجريه. لا بدّ من أنّ الشيخوخة والحروب التي باتت تفرّع لها أغصانًا في كلّ مكان قد أنهكت جسده. هل تذكّر، في دوّامة الموت التي تكتنفنا، وجه أطفاله؟ وكيف مات هؤلاء؟ هل حصدهم وباء من الأوبئة؟ هل غيّبتهم حرب من الحروب؟ هل اقتلعهم مرض من تلك الأمراض التي تعوّدت اقتلاع الأطفال عن وجه الأرض، وهم لم يضربوا لهم فيها بعد جذورًا؟ وأين هو الشيخ اليوم؟ هل يبحث له، في جزيرته البعيدة، عن فقراء جدد يعيدون له طعم الحياة؟

ملاحظة: مات أبونا البارّ في رؤساء الكهنة يوحّنا بطريرك الإسكندريّة المعروف بالرحيم أو المتصدِّق في الحادي عشر، أو الثاني عشر، من أحد شهور تشرين الثاني الواقعة بين العامين 616 و620. وتعيّد له، منذ غابر العصور، كنيسة الشرق الخلقيدونيّة، وكنيسة الغرب الخلقيدونيّة، والكنيستان القبطيّة والإثيوبيّة اللاخلقيدونيّتان.l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search