2012

10 - تعال ننظر: قايين وهابيل - رلى كنهوش – العدد الخامس سنة 2012

قايين وهابيل

رولى كنهوش

 

 

ما يعيشه وطني الجريح في هذه الأيّام مؤلم... مع كلّ قطرة دماء يئنّ القلب، وتدمع العين، ويتساءل العقل: لماذا؟ لماذا يقتل قايين هابيل مجدّدًا؟

تروي كتب التاريخ الحكاية ذاتها بأسماء مختلفة ومبرّرات مختلفة في المظهر، ولكنّ الجوهر هو ذاته... والنتيجة هي واحدة:

هي أنّ قايين يقتل هابيل بوحشيّة تأبى كلّ الديانات أن تبرّرها... ويقنِعُ قايين نفسه في كلّ مرّة أنّه يحمي مصالح، أو يستدعي حرّيّةً، أو يطالب بحقوق »الإنسان«. ويساعده مشرّعون وفلاسفة زمانهم يتلاعبون بمفاهيم المفردات ومدلولاتها، فيضيفون مساحات غريبة من الدلالات إلى الدالّ، يحشرون كلّ غريب عنها إليها، فيصبح مفهوم »التفجير« ومفهوم »القتل مع التشويه« و»الخطف« وغيرها الكثير من حقل دلالات »الديمقراطيّة« أو »الحرّيّة« مثلاً، ويعلّمونها للقطيع مع وعود بجنان الخلد... فتعمى البصائر ويَعبر الإنسان فوق ممرّات من دم أخيه الصارخ ويسجد للوحش...

هل نقول، مثلاً، إنّ هؤلاء الناس عاجزون عن تمييز الخير والشرّ مثلاً، فتاهوا عن طريق الإنسانيّة؟ يجيبنا الكتاب المقدّس:

»وهكذا اكتملت السماوات والأرض بكلّ ما فيها... ثمّ جبل الربّ آدم من تراب الأرض ونفخ فيه نسمة حياة، فصار آدم نفسًا حيّة« (تكوين ٢)، ثمّ قال الربّ الإله: »ها الإنسان قد صار كواحد منّا، يميّز بين الخير والشرّ« (تكوين ٢)...

إذًا، هل يجب أن نطرح السؤال بشكل آخر؟ هل الإنسان بجبلته ميّال إلى الشرّ؟...

إيماني المتواضع هو بأنّ اللَّه صالح ولا يمكن أن تكون جبلة يديه شرًّا...وعندما أصل إلى هذه النتيجة، أعود إلى نقطـة البدء، ويعــود عقـلي إلـى التسـاؤل: لمـاذا يحصل هذا الشرّ؟... لماذا يبتعد الإنسان عن نسمة الحياة التي أحيته والتي هي من لدن اللَّه الكلّيّ الصلاح؟  هل هو اللَّه يسمح بــأن تبكي الأمّهــات... وبأن يدفن الآبــاء أولادهــم في عمر الزهور؟ لماذا يسمح اللَّه للشرّ بأن يرعب الآمنين؟... هـل هـي عقـوبــة تنــزل في مكان ما، لأنّ شعب هذا المكان أخطأ؟ أم أنّ اللَّه في كلّ جيل يسمح للشيطان بأن يجرّب محبّيه كما سمح له بتجربة أيّوب في ما مضى؟... نهاية أيّوب كانت مفرحة... تشيد برحمة الخالق وتنبئ بقدوم نشيد الظفر تنشده قوى الخير المتأصّلة في جبلة الإنسان. ولكن للأسف أخبار التاريخ كلّها ليست بمثل هذا التفاؤل.

إنّ قوى الظلام ما تزال تنشط منذ أن سقطت وابتعدت عن عالم النور!... وعندما خلق اللَّه آدم، أرادت له هذه القوى السقوط لاستخدامه أداةً لشرورها... ومنذ أن أكلت حواء من الفاكهة المحرّمة وأعطت آدم قضمة منها، زالت النعمة عن الجنس البشريّ... وتاه هذا الجنس بين عالمين نقيضين... عالم الخير وعالم الشرّ... وقتل أوّل الأبناء أخاه... واستمرّت المأساة متجدّدة دائمًا... ليس لأنّ اللَّه يقبل تقدمة زيد من الناس ويُعرض عن تقدمة آخر... فما يغضب اللَّه هو الرذيلة وهي متعدّدة الأوجه والألوان... والصراع بين الإخوة من البشر يندرج تحت مسمّيات ومطامع عديدة إنّما الثابت هو أنّ مصدرها واحدًا هو إبليس وقوّاته ومهارته في إيجاده الطرق للولوج إلى قلب الإنسان. جدير بالذكر أيضًا أنّ اللَّه لم يطرد آدم وذرّيّته من الفردوس إلاّ بعد أن تسلّح هذا الأخير بالمعرفة: معرفة الخير والشرّ... وكان عليه أن يختار... فقد ذاق نعيم الخير في الفردوس... وحذّره اللَّه من أنّ أجرة الخطيئة هي الموت...

وسرعان ما اختار بكر الإنسان قايين الشرّ والخطيئة... فخاطبه اللَّه رحمة به، وسأله بعد أن رفض تقدمته: »لماذا اغتظت؟ لماذا تجهّم وجهك؟ لو أحسنت في تصرّفك ألا يشرق وجهك فرحًا؟ وإن لم تحسن التصرّف، فعند الباب خطيئتـك تنتظرك، تتشـوّق إلى أن تتسلّط عليك، لكن يجب أن تتحكّم فيها« (تكوين ٤)... ولم ينتبه قايين ونسله من بعده إلى ما قاله اللَّه، فتركوا الشـرّ يتسلّط عليهم حتّى إنّ اللَّه حـزن علـى خليقتـه: »ورأى الربّ أنّ شرّ الإنسان كثـر فـي الأرض وأنّ كلّ تصوّرِ فكرِ قلبه يتّسم دائمًا بالإثم، فملأ قلبه الأسف والحزن لأنّه خلق الإنسان« (تكوين 6).

ولكنّ رحمته إلى الأبد؛  فكان يعقد مع الإنسان الاتّفاق تلو الآخر... ولم يبخل عليه حتّى  بدم ابنه وأقنومه الثاني لغسل خطاياه... وما يزال الإنسان يغلق عينيه وقلبه عن رؤية النور الحقيقيّ ويترك المجال واسعًا لألاعيب إبليس المبهرة للأبصار الخادعة المتلونّة بألف لون ولون... يعرض على هذا أو ذاك ممالك الأرض مقابل دم أخيه... الهدف هو تجدّد جريمة قايين في كلّ زمن وحين... وتاليًا استمرار شعور الإنسان بفقدان أهمّ سمة منحه اللَّه إيّاها عندما جبله على صورته ومثاله ألا وهي الشعور »بالمجد والكرامة« التي في بدء الخليقة استوجبت وجوده في الفردوس وفي حضرة الربّ...

مشكلة الإنسان في كلّ العصور والأزمنة أنّه أخطأ فهم هذا الشعور. فاستأثر كلّ لنفسه وحده من دون أخيه هذه المكرمة: فأصبح يرى في أخيه الإنسان »الآخر« المختلف بشكلـه ولغتــه وعاداته وطريقة عبادته للَّه الواحد... واعتقد أنّه الوحيد »ذو الكرامة«.

ففي العصور الغابرة، كان الاختلاف مثيرًا للخوف ومدعاة للفرقة. وعلى مدى الأزمنة استطاع إبليس تضليل الإنسان، و»حلّل« له إلغاء الآخر هذا وزيّن له وشرّع... حتّى أصبح مفهوم »الإلغاء« بأيّ وسيلة ممكنة من ضمن »مفاهيم إنسانيّة« تدّعي براءتها وأنّ هدفها ليس إلاّ إحقاق الحقّ وإزالة الظلم!

وتنطلي اللعبة على ضعيفي الإيمان، فيكونون أداة التنفيذ لخدمة كبار هذا الزمان، الذين أدركوا خدعة إبليس القديمة الجديدة، وإنّما هم من اختار هذا العالم، وسخّروا هذه الخدعة لاكتساب لقمة أكبر ومجد زائل، من دون الاكتراث بما يحصده الإنسان من خيبات أمل وشرور وفقدان الشعور بالكرامة التي حصّنه بها الخالق، قانعين هم بكرامة زائلة نابعة من سلطة يسعون إليها...

ومن الغريب أنّ من اختار أن تنبع كرامته من فخر انتمائه إلى قطيع السيّد المسيح، من الغريب أنّ بعضهم ينحاز إلى جهة أو إلى أخرى مهيّجًا الشرّ ومتجاهلاً أنّ ملك السيّد المسيح ليس من هذا العالم، وأنّه جاء لنشر المحبّة والوفاق، وأنّ الروح القدس بحلوله يوم العنصرة على الرسل جمع ووحّد كلّ الاختلافات العرقيّة واللغويّة ضمن إطار الحبّ الحقيقيّ، الذي يستطيع وحده إعادة الشعور بالكرامة لأيّ فرد وهو وحده يعطينا القدرة على محاربة كلّ قوى إبليس... ليغيّر أحفاد قايين وهابيل مسار حياتهم معتزّين بكرامتهم الإنسانيّة التي تعيدهم إلى فردوس اللَّه...l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search