2012

04 – وقفة كتابيّة - خَيَار لوط - الأب سمعان أبي حيدر - العدد 5 سنة 2012

خَيَار لوط

الأب سمعان أبي حيدر

 

لم يكنْ لوط (ابن أخي إبراهيم) جيّدًا في اختيار الجيران بشكل عامّ؛ لذلك عندما قرَّر مع عمّه أن يعتزل أحدهما عن الآخر، أعطاه إبراهيم أفضليّة الاختيار أوّلاً: »(من مُجمل أرض الميعاد) اختار لوط لنفسه كلّ دائرة الأردنّ، وارتحل لوط شرقًا. فتمّما قرارهما. أبرامُ سكنَ في أرض كنعان (أرض الميعاد) ولوط سكن في مدن الدائرة ونقل خيامه إلى سدوم« (تكوين 13: ١١- ١٢). في اللغة الكتابيّة، الشرق من أرض الميعاد ترمز إلى القصاص، كالسبي إلى بابل لاحقًا (قابل أيضًا مع: »فطَرَدَ الإنسان وأقام شَرقيَّ جنّة عدن الكروبيم ولهيب سيفٍ متقلّب« 3: 24)(١). لذلك، للبدء، كان خَيَار لوط هذا رهيبًا! إذ لم يَكَد لوط ينتقل مع عائلته إلى سدوم، حتّى اجتاح ملوك البدو المنطقة وأخذوه أسيرًا مع عائلته (14: ١- ١٢)، (في صورة نمطيّة إضافيّة مُسبقة عن السبي). ولولا التدخّل السريع للعمّ إبراهيم، لربّما كانت هذه آخر أخبار لوط (14: ١٣- ١٧).

بالإضافة إلى ذلك، لم تكن سدوم بيئة سليمة أو صحّيَّة للعيش فيها: »وكان أهل سدوم أشرارًا وخطأة لدى الربّ جدًّا« (13: 13). كما نعلم، بحسب ما كتب بطرس الرسول، أنَّ لوطًا لم يُسَرّ بالعيش هناك. يتكلّم الكتاب على أنَّه (لوطًا): »إذ كان البارّ بالنظر والسمع وهو ساكنٌ بينهم (أهل سدوم) يُعذّب يومًا فيومًا نَفسَهُ البارّة بالأفعال الأثيمة« (2بطرس 2: ٧- ٨).

لماذا، إذًا، استمرَّ لوط بالعيش في مكانٍ حقيرٍ كهذا؟ هل أبتْ عليه كرامتُه التراجع عن اختياره الخاطئ؟ يبدو أنَّ لوطًا من نوع البشر الذين، إذا ما استقرّوا في مكان ما، يصيـرون متردّدين للغاية لفكرة الانتقال إلى مكان آخر حتّى بعد أن تصير الظروف صعبة وخطرة. مثل هؤلاء الناس تراهُم متعلّقين بما ألِفوا، ويتخيَّلون كلّ أنواع الشرور التي يُمكن أن تَحلَّ بهم إن هُم غادروا مُحيطهم المُعتـاد. »أنا لا أقـدر أن أهـرب إلى الجبل«، يُصِرّ لوط، »لعلَّ الشرَّ يُدركني فأموت« (19: 19). إن كان لأحدٍ من شخصيّات الكتاب المقدّس أن يُطيع التحذير: »اخرجوا منها يا شعبي، لئلاّ تشتركوا في خطاياها، ولئلاّ تأخذوا من ضربَاتها« (رؤيا 18: 4)، فهذا الرجل، بكلّ تأكيد، كان لوطًا.

رغم كلّ ما أوردنا حتّى الآن، نرى أنّ لوطًا استمرّ بالمُماطلـة ولـم يتزحزح من سدوم، حتَّى فاتَ الأوان تقريبًا. أوقاتُ المحنة هذه، التي دعاها يسوع »أيَّام لوط« (لوقا 17: 28)، كانت قد حلَّت. ساعة الإطاحة بسدوم دقَّــت بصـوتٍ عال. أصبح الكبريت جاهزًا، وبدأت جَامَاتُ القُطران بالغليان حتّى الحافّة؛ فصار الملائكة المنقِذُون يحثُّـون لــوطًا قائليـن: »قـمْ خـذِ امـرأتك وابنتيـك الموجودتين لئلاّ تهلِكَ بإثمِ المدينة. ... اهربْ لحياتك! ... اهرُبْ إلى الجبل لئلاّ تَهلِك« (تكوين 19: ١٥- ١٧).

من ثمَّ كانت قصّة صُوغَر: حتَّى خلال وقت هروبه من سدوم، كان لوط قد بدأ يحنُّ إلى »الحيّ القديم«! لذلك بدا مُتردِّدًا بالابتعاد كثيرًا عن »جيرانه«. وعندما ألحَّ الملاكان عليه بالهرب نحو الجبل، صار يتوسَّّل منهما حلاًّ آخر: أليست صُوغر، الصغيرة، غير بعيدة عن سدوم؟ »هوذا المدينة«، صار تَوسُّّلُ لوط الآن مثيرًا للشفقة، »هذه قريبةٌ للهَرَب إليها وهي صغيرةٌ. أهرُبُ إلى هناك. أليست هيَ صغيرةً، فتحيا نفسي؟« (19: 20).

وهكذا انتقل لوط إلى صُوغر، وعاشت نفسُه، ولكنَّ امرأته للأسف ماتت. وأمَّا مدينة صُوغرَ(2)، بكلّ بساطة، فكانت قريبةً جدًّا من سدوم، ولم تكن آمنة لاستقرار عائلة لوط فيها، بسبب لصُوقها بمشهد انقلاب الأرض. كانت امرأتُه قد سقطتْ في إغراءِ النظر إلى الوراء، رغم تحذير الملاكين (19: 17- 26). نظْرتُها الخلفيَّة نحو سدوم صارت، للتاريخ، رمزًا للناس غير الراغبين في وضع »مسافة آمنة« كافية، تفصلهم عن الخطيئة. تنتصب قصَّة عقابها أمثولة أمام شـعب اللَّه: »اذكـروا امرأة لوطٍ« (لوقا 17: 32).

رغم صورة لوط غير الجذّابة في هذه القصص الكتابيّة، فهو يُذكَر في الكتاب المُقدّس كرجلٍ »بارّ«. كذلك، سبق وذكرنا أنَّ بُطرس استعمل كلمة »بارّ« مرّات عدّة في آيتين مُخصَّصتين للوط، مُقتديًا بسفر حكمة سُليمان الذي تكلّم هكذا على لوط:

 

»الحِكمةُ أنقذَتِ الصدِّيقَ من المنافقِين الهالكيِن،

فهرَبَ من النَّارِ الهابطةِ على المُدُنِ الخمسْ.

وإلى الأُمَم يَشهدُ بشَرِّهِم: قفْرٌ يسطَعُ منهُ الدُخان،

ونباتٌ يُثمرُ ثمرًا لا ينضُجُ.

وعمودًا من ملح قائم تذكارًا لنفسٍ لم تُؤمنْ« (10: ٦- ٧).

يُمكن الملاحظة أنَّ الكتاب، عندما يدعو لوطًا بارًّا، إنّما يستعمل هذا التعبير بصيغة نسبيَّة. أي أنَّه يُدعى بارًّا بالمُقابلة مع المُحيطين به: من زوجته إلى الساكنين في سدوم. عبر هذا التبايُن، بصورة خاصَّة، يُستعمل لوط كـ»نموذج«. تمامًا، كما في كلمات القدّيس يوحنَّا السينائيّ: »من الأفضل لنا أن نتمثَّل بلوط على التشبُّه بامرأته« (السُلَّم 3).

من جهة ثانية، نُلاحظ أنّ لوطًا، في آخر المطاف، قد استهلك كلّ رصيده لدى اللَّه، لأنّ عمليَّة خلاصِه الأخيرة عند خراب مُدن الدائرة وخروجه من صُوغر إلى الجبل، صارت بسبب من شفاعة إبراهيم: »وحدثَ لمَّا أخربَ اللَّه مُدن الدائرة أنّ اللَّه ذَكَرَ إبراهيم وأرسل لوطًا من وسطِ الانقلابِ« (19: 29). أمَّا الدلالة الأخيرة، فتبقى أنَّ لوطًا، بسبب طمعه عند قيامه بخَيَارِه، بقيَ في آخر المطاف في الجبل بلا نسل (بلا رجاء) ولم يتبقَّ أمام ابنتيه سوى الاحتيال عليه لإقامة نسلٍ لأبيهما (19: 31- 37)، وهذا يعني أن تُخطّط لخلاصك بمعزل عن اللَّه. فكان أن ولدتا موآب وابن عمِّي، أبوي الموآبيّين والعمُّونيّين.

وما نتيجة أن تتحاذق على اللَّه: أين استقرَّ هذان الشعبان؟ استقرّا إلى الجهة الشرقيّة لأرض الميعاد (موآب على الضفة الشرقيّة للبحر الميت، والعمونيّون في الأردنّ شَرق جَرَش). صارا لاحقًا، من مُضايقي (معاقبي) شعب اللَّه(3) صورة نمطيّة، مُصَغَّرة، عن القصاص المُزمع أن يتمَّ على يد البابليِّين أيَّام السبي...

خيار لوط، انفصالاً عن إبراهيم، وتعنّتًا على عدم الرجوع عندمـا كان الوقـت مؤاتيًا، قاده خارج شعب اللَّه.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search