صانع الألوان
أسعد قطّان
حين استدعاه ثيوذوروس ميتوخيتيس ليمثل أمامه، أحسّ بحلقه ينقبض. هو لم يتعوّد مخالطة عليّة القوم رغم أنّ صِلاته القليلة بهم لم تنقطع يومًا بفعل أنّ حفنةً من أصدقائه تعمل في القصر. وإلى جانب الانقباض، يصاحبه، حتّى في ذروة كهولته، هذا الخجل الغريب الذي لم يفارقه منذ الطفولة. أتاه مساءً صديقه الحميم مركوريوس، حاجب المهجع الأمبراطوريّ، وبادره بأنّ رئيس وزراء القيصر أندرونيكوس الثاني (1282-1328) يطلب مقابلته.
»ميتوخيتيس؟«، هتف متسائلاً وأمارات الاستغراب تغزو محيّاه الذي كان التجعّد قد شرع يلتهمه. »وما له ولرجل مثلي؟ أنا لا شأن لي بالمطارحات الفلسفيّة التي يقال إنّه يعكف عليها كلّ مساء، ولا أُعاشر أرسطوطاليس وسواه من فلاسفة الوثنيّين، ولا أُتقن كتابة الشعر. فماذا يريد منّي«؟
»إنّك تتكلّم كمن يجهل طبائع الأشياء. هل من عادة معلّمي الرسم أمثالك أن يلتهوا عن هذه الدنيا إلى هذا الحدّ؟ أنت صانع الألوان، يا صديقي! والكلمات التي يناغيها وزير القيصر وكاتم أسراره ليست البتّة نائيةً عن الألوان التي تتقن أنت استمدادها من خيرات الطبيعة ومزجها بمعايير دقيقة وسكبها على الخشب والجدران«.
ساد الصمت هنيهة. ثمّ أطرق الرجل من دون أن ينبس، كأنّما خاف أن تفضح كلماته ما كان يخامره من تردّد حاول أن يخنقه بالصمت. لا مناص، إذًا، من مقابلة الوزير. ثمّ خُيِّل له أنّ عبارات مركيريوس المقتضبة تنبعث من فمه لتتلاشى في غور سحيق: »إنّه يتوقّع قدومك إلى القصر غدًا صباحًا«.
»أنت تدرك، يا صانع الألوان، ما آلت إليه مملكتنا من زُري الأحوال«، كانت هذه أُولى الكلمات التي سدّدها كبير وزراء القيصر إلى مسامعه. ثمّ أردف: »لقد عاث برابرة الأتراك فسادًا في آسيا. فاحتلّوا سهولها، وضيّقوا على حصوننا في مغنيسية وساردس ونيقوميذية، وكادوا يغلقون موانئنا في فوكائيّة وإزمير. ولم يكن أمر الكاتالان، الذين استنجد بهم قيصرنا المعظّم لدرء خطر الترك، بأفضل. فلقد تمرّدوا علينا، وانصرفوا إلى نهب ما لم يقع فريسة المسلمين في آسيا، ثمّ أسّّسوا لهم مستعمرةً في ثيساليا، حتّى إنّهم أخضعوا أثينا لغيّهم«.
»وهل جدّ مولاي الرفيع الشأن، كاتب القيصر الأوّل ومستودع علمه، في طلبي ليسرد عليّ أخبار البرابرة الذين يزرعون الخراب في رحاب مملكتنا، أم ثمّة أمر آخر أستطيع أن أجاريه فيه أكثر من شؤون الحرب التي لا دراية لي بها«؟
»إسمع، يا صانع الألوان! أنت تعرف الدير الذي يقع إلى جهة الشمال الغربيّ من المدينة المتملّكة. إنّه الدير الذي دُفن فيه القدّيسان ثيوفانّس غرابتوس وميخائيل سينكلّوس بعدما أبليا بلاءً حسنًا في الدفاع عن الأيقونات الموقّرة. ويقال إنّ الأرخونديسا ماريّا ذوكاينا، حماة القيصر ألكسيوس الأوّل (1081-1118)، جدّدته. ثمّ حذا حذوها حفيدها إسحق كومنينوس، فأعاد بناء الكنيسة وزيّنها بالفسيفساء«.
»إنّ مولاي، كاتب القيصر الأكبر، يقصد بالتأكيد دير المخلّص الذي يسمّيه أهل مدينتنا دير الخورا. لقد زرته مرّتين. ونخر قلبي الوجعُ لما أصاب الكنيسة من خراب بعدما احتلّ اللاتين القسطنطينيّة، ونهبوا ثرواتها وعظام قدّيسيها، ثمّ راحوا يتبخترون فيها كأنّهم آلهة. ولكن ما علاقة هذا الدير بحملات القبائل التركيّة في الشرق ومهاترات الكاتالان في الغرب«؟
أشاح عظيم الوزراء ببصره بعيدًا كأنّه يبحث عن كلماته في الفضاء، ثمّ قال من دون أن يلتفت إلى الرجل الماثل في حضرته: »لقد علّمتني خبرات السنين الماضية، وما شهدناه فيها من نوائب الدهر وتقلّب شؤون الدنيا، أن لا بقاء على هذه الأرض إلاّ لوجه اللَّه الأكرم، ومن بعده للصيت الحسن بين القوم كما هو حال قدّيسينا المكرَّمين عند اللَّه. ومن بعد اللَّه والصيت الحسن، تأتي الكلمات التي نخلّفها للآتين، ومثلها الألوان التي أنت أخبر منّي بشؤونها وقدرتها على مقاومة الزمن، إذا ما جنّبها الربّ غوائل الأيّام. أبغي إعادة تجديد هيكل المخلّص الذي في دير الخورا من مالي الخاصّ. فأُعلي القبّة من جديد، وأُحيط الكنيسة بأروقة وسيعة تليق بهذا المعبد العريق. وأُريدك أن تتولّى أنت تزيين جدرانه والأروقة المحيطة به بالفسيفساء. فإذا نضب المال، استعضتَ عن الحجارة الكريمة بالألوان المقدودة من النبات ودهن الحيوانات«.
كان صانع الألوان يتوقّع مثل هذا الطلب. لكن لم يخطر في باله قطّ أن يكون دير الخورا، الذي يكاد يضاهي في قدمـه كنيسة الآجيّا صوفيّا، مقصد عظيم الوزراء ومحطّ أمانيه. فأحسّ للتوّ بثقل هذه المهمّة، ثمّ هتف: »ولماذا أنا، يا سيّدي؟ إنّ المدينة تعجّ براصفي الفسيفساء والرسّّامين، حتّى إنّ كاتب كتّاب القيصر يستطيع أن يستقدم معلّمين من مقدونية، التي طبّقت شهرة مدرستها في الرسم الآفاق. أمّا أنا، فصرتُ على عتبة الشيخوخة، ولا قِبَل لي بتحمّل مثل هذا العبء. وربّما توافيني المنيّة قبلما أُتمّ العمل«.
»وما لي وللمعلّمين المقدونيّين، وأنت أعلم أهل الأرض قاطبةً بشؤون هذا الفنّ؟ إنّي أحترم انكفاءك أمام هذه المهمّة الجليلة. ولكنّي أستحثّك على طرح تردّدك. والحقّ أنّي لا أجد لهذا العمل من هو أكفأُ منك وأوسع معرفةً. فأرجو منك ألاّ تخيّب ظنّي. واعلمْ أنّي سأُزجل لك العطاء«.
»وهل يسمح سيّدي بأن أستعين بولديّ وبعض تلامذتي يعاونونني في تأسيس المساحات التي ينبغي رصفها وتزيينها«؟
»لا بأس، شرط ألاّ يأتي هذا على حساب نوعيّة العمل. فأنت مسؤول أمامي. وإنّي لأنوي أن تصبح هذه الكنيسة آيةً في جمال فسيفسائها ورسومها لا تمجيدًا لذاتي، فإن أنا إلاّ عبد بطّال، بل لأنّ من الجمال ينسرب وجه اللَّه«.
بعد سنوات قليلة من هذا اللقاء وإثر موت القيصر أندرونيكوس الثاني، أُصيب المتقدّم في الوزراء ثيوذوروس ميتوخيتس بنائبة من نوائب الدهر، إذ أوعز القيصر الجديد إلى رجاله بزجّه في السجن وإعمال النار في قصره واحتجاز ممتلكاته كلّها. ثمّ نُفي الوزير إلى ذيذيموتيخون، ولم يتمكّن من العودة إلى القسطنطينيّة إلاّ بعد سنتين ليصبح راهبًا يحمل اسم ثيولبتوس، وذلك في الدير ذاته الذي عني بترميمه وتجديد رسومه مهديًا إيّاه مكتبةً درج فلاسقة بيزنطية على العبّ من كنوزها حتّى سقوط المدينة العام 1453. ومن ثمّ تحوّل دير الخورا إلى مسجد، وبعدها إلى متحف (1958). أمّا صانع الألوان، فيتوارى اسمه في ثنيّات التاريخ. غير أنّ السطوع الذي ما زال ينبعث من الأيقونات التي سطّرتها ريشته لا يدلّ على عبقريّته فحسب، بل على ما كان عليه بعض أهل القسطنطينيّة من سكر بالجمال وباللَّه، مصدر كلّ جمال، فيما جيوش الأرض تحوط بمدينتهم وتتأهّب للانقضاض عليها.l