2012

10 – الإيمان على دروب العصر - فصح العلاقات: خواطر حول محرقة إبراهيم - د. جورج معلولي - العدد 3 سنة 2012

فصح العلاقات:

خواطر حول محرقة إبراهيم

د. جورج معلولي

 

»وإذا كان الحبّ بين البشر في الوثنيّة استيلاء أحد منّا على الآخر أو تسلّطًا عليه، ففي التوحيد ليس من سيطرة لواحد على الآخر« (المطران جورج (خضر))

 

 

 

نقرأ في تكوين 22: 2 إنّ اللَّه قال لإبراهيم : »خُذْ إسْحقَ ابْنَكَ وَحِيدَكَ الَّذِي تُحِبُّهُ. وَاذْهَبْ إلَى أرْضِ المُرِيّا. وَهُناكَ قَدِّمْهُ لِي ذَبِيحَةً عَلَى جَبَلٍ سَأُرِيهِ لَكَ«. يتّضح، في نصوص عديدة من الكتاب المقدّس، أنّ تجربة تقدمة الأولاد (وبخاصّة الأبكار) كمحرقة كانت تلاحق الشعب بصورة قويّة. مثال على ذلك لاويّين 18: 21 »لا تَسمَحْ بِأنْ يُعطَى أحَدُ أولادِكَ لِيُذبَحَ لِلإلَهِ مُولَكَ. لا تُنَجِّس اسْمَ إلَهِكَ بِعَمَلِ هَذا. أنا اللَّهُ«. وفي أرمياء 32: 35 »بَنُوا مُرتَفَعاتٍ  لِلبَعلِ فِي وادِي ابنِ هِنُّومَ، لِيُقَدِّمُوا أبناءَهُمْ وَبَناتِهُمْ قَرابِينَ لِلإلَهِ مُولَكَ. وَأنا لَمْ آمُرْهُمْ بِهَذا، وَلا فَكَّرتُ بِهِ. وَبِعَمَلِهِمْ هَذا، جَعَلُوا يَهُوذا يُخطِئُ«. ذبائح الأولاد الذين كانوا يُحرقون في النار هي رتبة كنعانيّة تستنكرها الشريعة (لاويّين 20: ٢- ٥ وتثنية 12: 31 و18: 10) وقد تسرّبت هذه الرتبة إلى إسرائيل، لا سيّما إلى أورشليم، في محرقة وادي ابن هنّوم (2ملاخي 16: 3 و21 : 6 و23: 10 وأشعياء ٣٠: ٣٣ وأرميا 7: 31 وحزقيال 16: 21). نجد الرتبة ذاتها، أو ما يعادلها، في العديد من طقوس الشعوب الوثنيّة وأساطيرها في العالم (الأشوريّين، الإنكا...)، ما يوحي بأنّ هذا الطقس متأصّل في غرائز بشـريّة بـدائيّة تنظّمها في القـبائل القـديمة موانـع ومحـرّمات ثابتة ( مثل تحريم القتل وسفاح القربى وأكل لحوم البشر). تفـسّر هـذه المقـاربة أنّ الوثـنيّة قابـعــة في النفس (لذلك هي عابرة لحدود الجغرافيا والزمن والحضارات) وأنّ الآلهة الوثنيّة إنّما هي تشخيص ممسرح لقوى اللاوعي.

في تنازل رهيب يتّخذ اللَّه صورة هذه الآلهة الداخليّة، ويخاطب إبراهيم بصوت نفسه المعتادة، ككلّ نفس، على الوثنيّة طالبًا منه ما تطلبه آلهة الشعوب الوثنيّة. يستدعي هذا الطلب الوثنيّ الطابع غرائز عنيفة (القتل) تجاه الولد على مثال القبائل الوثنيّة. من جهة أخرى يُظهر التركيز المثلّث »ابْنَكَ/ وَحِيدَكَ / الَّذِي تُحِبُّهُ« العلاقة الذوبانيّة بين إبراهيم وابنه. ويفترض أنّ إبراهيم يمتلك ابنه (كشيء)، ويمتلك حرّيّة التصرّف به، ويكشف أن ليس لإسحق كيان شخصيّ في عقل إبراهيم الباطنيّ. فإسحق من أملاك إبراهيم الأغلى وامتداد لنرجسيّته وصورة عنه. يستدرج طلب اللَّه الغريب هذه الرغبات الدفينة في نفس إبراهيم، ويتماهى مع صورة الآلهة الوثنيّة التي ما زال إبراهيم يخلط بينها وبين اللَّه. لذلك لا يُظهر النصّ أيّة ممانعة عند إبراهيم في تنفيذ الطلب. فقوّة الإيحاء بقوّة الصدى الذي يلقاه في النفس. الآية الوحيدة، التي يمكن أن نستشفّ منها تردّد إبراهيم في قبول هذه الصورة الوثنيّة عن اللَّه، هي تكوين 22 : 8 »فقال إبراهيم: اللَّه يرى لنفسه الحمل للمحرقة، يا بنيّ«. فرجاؤه باللَّه ألاّ يكون إسحق الذبيحة. وكأنّه في مسيرته الداخليّة من الوثنيّة نحو التوحيد يطهّر إيمانه من رواسب قديمة، ويتذكّر وعد اللَّه أنّه »بِإسْحقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ« (تكوين 21: 12). يتّضح هنا الإيمان الذي تمتدحه نصوص كثيرة في العهد الجديد. يرتقي إبراهيم، في هذه الآية، إلى مستوى  المؤمن الذي يسائل صور اللَّه المغلوطة في نفسه (صورة الإله الوثنيّ)،  ويواجهها، ويحاول أن يبتعد عن صورة الآباء الوثنيّين قاتلي الأبناء. المستوى الأوّل إذًا في هذا الارتقاء هو محاولة التحرّر من رغبة القتل (الذي يبقى تحرّرًا جزئيًّا في هذه المرحلة). ما يواجهه إبراهيم أيضًا، هو تعلّقه النرجسيّ الامتلاكيّ بإسحق، إذ يعيد النصّ التركيز على طبيعة هذه العلاقة في تكوين 22: 9 »إسحق ابنه« و22: 12 »ابنك وحيدك«. تصل هذه المواجهة (مع غرائز العنف من جهة والتعلّق الامتلاكيّ من جهة أخرى) إلى أوجها عندما »مَدَّ إِبْرَاهِيمُ يَدَهُ وَتَنَاوَلَ السِّكِّينَ لِيَذْبَحَ ابْنَهُ« (تكوين 22: 10). استدرج النداء الإلهيّ حركات نفس إبراهيم إلى النور. وفي لحظة ظهورها الأقوى في مجال الوعي بعد مسيرة ثلاثة أيّام تصاعديّة (تكوين 22: 4) يتمّ الانقلاب: »ناداه ملاك من الربّ (...) لا تمدّ يدك إلى الصبيّ«. يلتقي النداء الإلهيّ بمخاض إبراهيم الداخليّ الممثّل بصعوده إلى الجبل. لم يقل الملاك »إلى »ابنك«، بل قال »الصبيّ« لأنّ حبل السرّة انقطع: »لم تمسك عنّي ابنك وحيدك«، أي فككت تعلّقك الامتلاكي بإسحق المتماهي مع هاجسك بالبقاء وخوفك من الموت، إذ كنت تسقط عليه كلّ آمالك في الامتداد نحو الخلود.  وإذ يقول له الملاك »الآن عرفت أنك متّق اللَّه«، يكشف بقوله الحالة التي وصل إليها إبراهيم بعد المسيرة العلاجيّة التي أتمّها اللَّه في نفسه، إذ في قفزة الإيمان هذه ما بقي إبراهيم متّقيًا أوثانه، بل متّقيًا اللَّه. في هذه اللحظة، »رفع إبراهيم عينيه ونظر، فإذا بكبش عالق بقرنيه في دغل«، فأخذه و»أصعده محرقة بدل ابنه« (تكوين 22: 13)، وكأنّ ظهور الكبش متزامنٌ مع ما حصل في نفس إبراهيم وتكثيف وانعكاس خارجيّ له. يذبح إبراهيم بتقدمة الكبش إبراهيم القديم العالق في دغل من الأوثان الداخليّة (آلهة العنف، آلهة الخصب، وصور الأب المتملّك التي يسقطها على اللَّه). ويسمّي إبراهيم ذلك المكان »الربّ يرى«، لأنّه برؤيته الكلى والقلوب، يستميل النفس إليه، ويحرّرها ويجعلها ترى أنّ اللَّه ليس إلهًا ذابحًا، بل إله مذبوح.

في خاتمة القصّة، »رجع إبراهيم إلى خادميه«، ولا يذكر النصّ شيئًا عن إسحق لأنّه عاد لا يدور في فلك إبراهيم وما بقي من ممتلكاته. سكوت النصّ إيحاء بانتقال إسحق من مرتبة الممتلكات إلى مستوى وجوديّ آخر مستقلّ. لا بدّ من أن السكّين، الذي كان إبراهيم موشكًا أن يذبح به إسحق، قد استعمله إبراهيم أخيرًا، ليقطع الرباط الذي كان قد ربطه به فوق المذبح.

يتسربل اللَّه صورًا يجدها في نفس إبراهيم، لكي يتسرّب إليها كحصان طروادة، ويفجّرها من الداخل في فصح سرّيّ. يتحرّر إبراهيم من صورة الإله الوثنيّ، ويقطع العلاقة الامتلاكيّة مع إسحق في صليب مؤلم يموت به عن إبراهيم القديم. يتمّ الفصح لإبراهيم في علاقته مع اللَّه ومع إسحق ومع نفسه. l

 

 

المراجع:

 

Pierre Berthoud. La mise à l’épreuve décisive d’Abraham. ThEv vol. 5.3, 2006

Iqbal Al Gharbi. Le sacrifice d’Abraham ou la fabrication culturelle des enfants. Arabpsynet ejournal n4-2004

Marie Balmary. Le Sacrifice interdit : Freud et la Bible [Poche]

المطران جورج (خضر). الـوثنيّة أو التـوحيـد. النهار.  السبت 02 حزيران  ٢٠٠٧.

 

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search