2012

09 – قضايا معاصرة - المسيحيّون في الشرق الأوسط بناء الجسور بين الشرق والغرب بين القديم والجديد - د. بنديليس كاليتزيديس - العدد 3 سنة 2012

 

 

المسيحيّون في الشرق الأوسط

بناء الجسور بين الشرق والغرب بين القديم والجديد

د. بنديليس كاليتزيديس

 

بدءًا، أودّ أن أوضح أنّي لست خبيرًا في مشاكل الشرق الأوسط وأزماته. لذلك لم أكن لأتجرّأ على الحديث في مؤتمرٍ عن حاضر المسيحيّين ومستقبلهم في تلك المنطقة، لو لم تكن آخر جلسات المؤتمر تحمل عنوان: »شهود خبرة حياة«. ليس الأمر هو أنّ حياتي أو وجودي محفوفان بأحداثٍ صعبة - لا بل مأساويّة - تقع في الشرق الأوسط، بل على الأكثر لأنّي أؤمن بأنّ الشهادة أو الشاهد لهما وظيفتان: من منّا خارج فلسطين والشرق الأوسط، لدينا الكثير لنتعلّم أكثر، عن الحياة ومشاكل المسيحيّين اليوميّة هناك، لكن ربّما وبالعكس، يمكن أن يكون لدينا بعض ما يمكننا نقله إلى المسيحيّين في الشرق الأوسط، ليس لأنّنا نعرف أوضاعهم أفضل منهم، بل بسبب أنّ دراستنا مشكلات المسيحيّين في الشرق الأوسط وتقاليد حياتهم، علّمتنا الكثير. لهذا السبب، في عرضي هذا، وانطلاقًا من تجربتي المحدودة مع أشخاص من هذه المنطقة وكنائسهم وبلادهم، أودّ أن أتشارك وإيّاكم، بعض الأفكار حول ما تعلّمته من زياراتي البلدان في الشرق الأوسط. هذا العرض هو عن كيفيّة فهم لاهوتيّ أرثوذكسيّ يونانيّ وجود المسيحيّين وشهادتهم في الشرق الأوسط اليوم، وعمّا يراه فيها، وما لديه من مخاوف بالنسبة إليهم. لذلك سيختلف هذا العرض عن العروض النظريّة والمنظّمة منهجيًّا التي أقدّمها عادة. هذا العرض هو شاهد وشهادة شخصيّة، لا تدّعي العفويّة والصحّة والتميّز عن الشهادات الشخصيّة الأخرى التي كانت لدينا الفرصة لنسمعها، هو شهادة ربّما لا تتجنّب التبسيط الشديد أو حتّى النمطيّة الاستشراقيّة .orientalistic

كلّ شيء بدأ في تمّوز 1982، في مدينة تسالونيكي. يومها دخلت مكتبة دينيّة وسط المدينة، حيث أسرتني أصوات موسيقى وتراتيل باللغتين العربيّة واليونانيّة سمعتها هناك. صوت امرأة، ناعم كالحرير وليّن كالمعانقة، نقلني إلى عالم آخر. كان مألوفًا جدًّا، وفي الوقت عينه مختلفًا تمامًا عمّا كنت أعرف في ذلك الوقت. لم يستطع أحد أن يقول لي ما الذي كنت أسمعه بالضبط، باستثناء حقيقة أنّها من لبنان. وبعد فترة، وخلال دراساتي العليا في فرنسا، اكتشفت أنّ الموسيقى والتراتيل، التي كانت قد أثّرت فيّ كلّ هذا التأثير، كانت من ألبوم »الجمعة العظيمة« لفيروز، مطربة مسيحيّة من لبنان. قبل تلك اللحظة، كنت غافلاً عن أهمّيّة هذا الاسم، وغير مدرك للعواطف ولمشاعر الحنين التي يثيرها في الشرق، وليس فقط عند المسيحيّين. كانت هذه مجرّد بداءة لعلاقة طويلة ومتعدّدة الأوجه جمعتني مع مختلف الناس من الشرق، من المسيحيّين وغيرهم. بعد فيروز، ساهم في إغناء »حديقتي السرّيّة« العديد من الفنّانين، والموسيقيّين بشكلٍ أساس، وأيضًا الشعراء والكتّاب من المنطقة: عرب، أتراك، إيرانيّون، أرمن، ويهود. مع مرور الأيّام وخلال إقامتي في الخارج، بدأت الأمور تتوضّح بالنسبة إليّ، وبدأت أتجاوز العديد من القوالب النمطيّة والمحظورات، بما في ذلك والأهمّ بالنسبة إليّ، علاقة اليونان بتركيا وجيرانها الآخرين. وتاليًا خلال إقامتي في باريس، بدأت أفهم حقيقة معنى »الهلّينيّة« في حركتها عبر التاريخ، وقبل أن يصبح لها معنى قوميّ(١): يوتوبيا، كلمة يونانيّة تعني حرفيًّا: »لا مكان«، وليس مكانًا ما أو دولة ما، هي أسلوب حياة، هي ثقافة. الهلّينيّة أو اليونانيّة كانت دائمًا مزيجًا غامضًا وغير محدّد من التعليم والثقافة والدين واللغة والخيارات الفكريّة، مزيج لا يمكننا حدّه بحدود جغرافيّة أو عرقيّة(٢). انطلاقي، من الحدود الضيّقة للوسط اليونانيّ سمح لي بفهم أكثر، ليس فقط لهويّتي وتقاليدي، بل لفهم هويّة »الآخرين« أيضًا، وبخاصّة أولئك »الآخرين« القريبين منّا في الشرقين الأدنى والأوسط، سواء كانوا مسيحيّين أو مسلمين أو يهودًا.

قبل سفري جسديًّا إلى المنطقة، موضوع بحثنا، كنت قد زرتها مرّات عدّة ذهنيًّا وروحيًّا وقلبيًّا. قرأت كتبًا من جميع الأنواع، قضيت ساعات لا تحصى في محالّ التسجيلات القديمة في باريس بحثًا عن ألبومات الموسيقى الشرقيّة. منها لم آخذ فقط الأصوات، بل أيضًا معلومات مهمّة عن الشعوب والبلدان كانت متوفّرة بشكل مكتوب على هذه الألبومات. التقيت وتعرّفت إلى أناس من بلدان مختلفة في المنطقة، لكلّ منهم دينه وثقافته. ولكن، في المقام الأوّل، قصّته الشخصيّة، والتي غالبًا ما لا تتوافق مع الروايات الرسميّة للبلد أو للطائفة.

من كلّ الأمور التي تعلّمتها من علاقتي مع الشرق، لا أعلم نظرًا إلى ضيق الوقت كم منها سأشارككم فيها اليوم. لذلك أملت عليّ الضرورة أن اختصر وأشارككم، بصورة أساسيّة، في الأشياء المتعلّقة بالمواضيع اللاهوتيّة/ السياسيّة، التي هي الموضوع الأساس لمؤتمرنا، والدعوة إلى »الشهادة«، وكذلك سأتكلّم حول بعض المخاوف والشكوك التي لديّ حول ما يجري من تطوّرات.

في ما يلي ملخّص عن العلامات الإيجابيّة والمبشّرة

١- من المعروف، بخاصّة في أوساط الخبراء في هذا المجال داخل هذه القاعة، أنّ المسيحيّين أدّوا دورًا في الصحوة القوميّة العربيّة، في إحياء الآداب والفنون، وكذلك في تخطيط الدول العربيّة الحديثة وتشكيلها. هذه الصحوة، مع بعض الاستثناءات، كانت كلّها لصالح الطابع العلمانيّ للدولة، والتعدّديّة الثقافيّة، والتعايش السلميّ، والتسامح بين الطوائف الدينيّة. وتاليًا فقد جسّدت المسيحيّة العربيّة الحديثة نوعًا آخر من العلاقة بالحداثة والعلمانيّة، علاقة ذات توجّه إيجابيّ. وعندما يقابل المرء هذه العلاقة الإيجابيّة مع التوجّهات القويّة المضادّة للحداثة في الكنيسة الأرثوذكسيّة في روسيا واليونان والأماكن الأخرى من البلقان، ومع عدد لا بأس به من الكنائس البروتستانتيّة والكاثوليكيّة في أوروبّا وأميركا، عندها يبدأ المرء بتكهّن مغزاها. في السياق الشرق أوسطيّ، غالبًا ما تمثّل المسيحيّة الحديث والجديد، التجديد والتقدّم، التحرّر الاجتماعيّ والحداثة. وهذا، على ما يبدو، ما يكشفه الطلب المتزايد على الكتاب المقدّس، حتّى بين المسلمين في تركيا والشرق الأوسط، وكذلك الاهتمام بالمسيحيّة في بعض الدوائر المثقّفة في تركيا، بخاصّة بين النساء(٣).

٢- رغم الحملات الصليبيّة، والتوسّّع السياسيّ والاقتصاديّ والدينيّ في الشرق الأوسط، ورغم  الاستعمار، وثنائيّة اللغة، وسياسة الكيل بمكيالين، فإنّ المسيحيّين، والأرثوذكس بشكل خاصّ، لم يطوّروا مشاعر معادية للغرب، أو للإسلام، حتّى رغم تعرّضهم للضغوط من قبل الطرفين. وبصرف النظر عن حالات قليلة جدًّا من التعصّب الدينيّ أو الطائفيّ، فإنّ مسيحيّي الشرق الأوسط ظهروا بدور الجسر بين الشرق والغرب، المسيحيّة والإسلام، التقاليد والحداثة. يعيشون على الحدود بين عالمين وثقافتين. فنونهم وطريقة حياتهم تتحدّث عن »جديّة وجودهم« وعن »تعدّد هويّتهم«، وعن فنّ »العيش معًا« مع آخرين، من دون أن يخونوا ذواتهم، ومن دون أن يجعلوا من التعصّب والأصوليّة طريقة حياتهم أو العين التي بها يرون العالم. يبدو أنّهم فهموا، بشكل جيّد، توجيهات الإنجيل: عدم الاستياء، المحبّة، والغفران. إنّ ما يتطلّبه دينهم منهم أن يكون هو محرّكهم الأساس، وليس ردود فعل سلبيّة تجاه الآخرين. إذا ما قابلنا هذا، مرّة أخرى، مع ما نعرفه من مناهضة للغرب في اليونان وفي دول أرثوذكسيّة أخرى، فكلّ ما ذكرناه - وربّما حتّى الأشياء التي تبدو كقوالب نمطيّة شرقيّة - فقد نتعلّم منها الكثير. يكفي هنا أن نشير إلى المعارضة القويّة والاحتجاجات التي أبداها اليونانيّون الأرثوذكسيّون المتعصّبون خلال زيارة البابا يوحنّا بولس الثاني إلى أثينا في أيّار 2001، عندها طالبوا البابا، بإلحاح كبير، أن يعتذر عن الحملة الصليبيّة الرابعة، والاستيلاء على القسطنطينيّة على يد الفرنجة العام 1204.

٣- بشكل عامّ، المسيحيّة في الشرق الأوسط حافظت على شيء من البساطة الأصليّة للعهد الجديد. ويبدو أنّها تجنّبت، بشكل كبير، الأفعال التقويّة والنظرة الحقوقيّة التي طبعت المسيحييّن في الغرب، والتي دخلت، بشكل لاحق، الكنائس الأرثوذكسيّة في اليونان وسواها. المسيحيّون، في العالم العربيّ، بقوا بعيدين عن الطريقة المانويّة. كما حافظوا إلى حدّ كبير، على العلاقة بين الإيمان و»حبّ الحياة«. لذلك هم يقدّمون المسيحيّة كديانة الفرح، متجاهلين التمييز (التفريق) بين النظيف وغير النظيف، المقدّس والمدنّس. ليس هناك، في العالم الأرثوذكسيّ على الأقلّ، مثال أحسن أو أكثر تمييزًا من »حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة« في بطريركيّة أنطاكية (لبنان وسورية) التي بدأت في العام 1942. كانت الحركة الأولى في تلك المنطقة التي تعمل من أجل تعميق الإيمان والتوبة وتجديد الكنيسة والمصالحة والغفران(٤). التجديد، الذي تقوم به الحركة، هندس عودة خلاّقة إلى المصادر الكتابيّة للإيمان المسيـحيّ وللخبرة الإفخارستيّة من أجل إعادة تفسير التقليد، بصورة مثمرة وجديدة، كانت فعّالة في تنمية وعي متجـدّد في الكنـيسة. كـما لاحـظ الأمين العامّ السابق، ريمون رزق: »حركة نبويّة ليست على هامش الكنيسة، لكن في قلبها، تعـطي حسـاسيّة للقضـايـا العقائـديّة عبـر عودتها إلى المصادر الكتابيّة ومنظورها الليتورجيّ، المتأصّل في العالم الحقيقيّ وسرّ الأخ، زرعت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة بذور التجديد في كلّ الجماعات المسيحيّة الأخرى«(٥).

إلى جانب كلّ هذه العناصر الإيجابيّة والمتفائلة، لا بدّ لي من الاعتراف بأنّ هناك بعض المؤشّرات المقلقة، والتي أودّ التطرّق إليها بإيجاز:

١- طابع التعصّب والانغلاق الطائفيّ، وليس الطائفيّ البسيط للجماعات والكنائس المسيحيّة في الشرق الأوسط. فرغم انفتاح المسيحيّين على الحداثة والتحديث، فإنّهم في المنطقة، ربّما لأنّهم يشكّلون أقلّيّة في كلِّ مكان وتاليًا فإنّهم يشعرون بالحاجة إلى الدفاع عن أنفسهم، ويجدون في هذه التركيبة المجتمعيّة (أي الطائفيّة) ملجأً وملاذًا آمنًا، إنّهم، عادةً، غير قادرين على فهم العالم خارج هذا النموذج المجتمعيّ؛ وغالبًا ما لا يمكنهم تصوّر أنفسهم بعيدًا عن سياق مجتمعهم أو مصيرهم. وبسبب عدم تطويرهم نظرة فرديّة وذاتيّة للعالم، فهم لا يفهمون المجتمع والعالم كتجمّع لأشخاص، بل كمجموع ونتاج لطوائف دينيّة وثقافيّة-عرقيّة. وبسبب كونهم هم أنفسهم مواطنين من الدرجة الثانية، فإنّهم غالبًا ما يفتقدون تجربة الوعي الذاتيّ والمسؤوليّة الشخصيّة (في ما يتعلّق بقراراتهم الخاصّة)، وتاليًا فإنّ نظرتهم إلى العالم، بشكل رئيس، هي عبر منظور طائفيّ. الأمر الذي يجعل الأولويّة للمجتمع ولثقافته وللعلاقات والمؤسّّسات الموروثة بدلاً من الفرد/ الشخص وحقوقه وحرّيّته. وتاليًا فإنّ المشاكل التي تطرحها هذه البنية الطائفيّة للمجتمعات، والكنائس في الشرق الأوسط كثيرة ومتنوّعة، والتي سبق ذكرها مرّات عدّة في هذا المؤتمر. المشكلة هي أنّ بعض اللاهوتيّين، وباسم اللاهوت الشخصيّ، قد يقدّم أعذارًا وتبريرات لاهوتيّة للطائفيّة الأرثوذكسيّة ولهذا النموذج »ما قبل الحديث«، ويبقى تاليًا جاهلاً بالأساس العناصر المبتكرة والتحرّريّة التي قدّمتها المسيحيّة، والأرثوذكسيّة ذاتها، بشكل مبكر عبر التاريخ(٦).

٢- يربط بما سبق، وفي معظم الحالات، حقيقة أنّ الطوائف والكنائس المسيحيّة، والجمعيّات في منطقة الشرق الأوسط بصفة عامّة، تحمل جنبًا إلى جنب، أو بشكل متوازٍ، الصفات والعناصر »المبتكرة« التي ذكرنا، وأيضًا تحمل، بشكل قويّ، عناصر قديمة وأبويّة. ويمكن رؤية هذا المزيج من الاتّجاهات التقليديّة والتحديثيّة، والبنى الأبويّة والمبتكرة، بشكل أكثر وضوحًا في الموقف من المرأة، ليس فقط في مجتمعات الشرق الأوسط التي يهيمن عليها الإسلام، لكن أيضًا في الكنائس، وخصوصًا الأرثوذكسيّة منها، والتي من المفترض أن تحمل أخلاقًا وواقعًا مختلفًا، أي »لا ذكر ولا أنثى« (غلاطية ٣: ٢٨).

٣- للطابع والبنية الطائفيّة في كنائس الشرق الأوسط، كنتيجة لتفتّت المسيحيّين المذهبيّ ولاقتناعهم بأنّهم ليسوا سوى »أقلّيّة«، نتيجة خطرة أخرى، وهي الثقافة الكنسيّة. أي فهم الايمان والكنيسة كـ»هوّيّة« و»ثقافة«، والارتباك الذي ينتج من فهم كهذا بين أولئك الذين هم اجتماعيًّا وثقافيًّا مسيحيّون والذين هم مسيحيّون من دون أيّ من هذه المواصفات. بالطبع، هذه الظاهرة موجودة بكثرة في الأماكن حيث المسيحيّة هي دين الأغلبيّة، مثل اليونان وروسيا ودول البلقان الأرثوذكسيّ. في الواقع، وكما قلت في مقالتي الأخيرة في الدوريّة الفرنسيّة Istina،، لعلّ أكبر مشكلة تواجه الأرثوذكسيّة، خارج مناطق التبشير، هي تحديدًا بسبب العلاقة الوثيقة للغاية، والتي تصل إلى حدّ التماهي في الكثير من الأحيان، بين الكنيسة والدولة، وبين الكنيسة والتقاليد والثقافات المحلّيّة. يبدو لنا أنّنا بحاجة ماسّّة إلى إيجاد نوع من قطيعة معيّنة بين الكنيسة والثقافات والتقاليد المحلّيّة déculturation وإعادة الأولويّة إلى ما هو لاهوتيّ على ما هو ثقافيّ. نحن بحاجة ماسّّة إلى توازن جديد بين المحلّيّ والعالميّ، الجزئيّ والجامع. ويمكننا اعتبار الربط بين الأرثوذكسيّة وبعض الأماكن والثقافات واحدة - للأسف ليست الوحيدة - من أهمّ المشاكل التي تواجه تكيّف الأرثوذكسيّة اليوم مع الظروف الجديدة للعولمة. وفقًا للأستاذ الفرنسيّ أوليفير روي(٨) (خبير في شؤون الإسلام السياسيّ والظاهرة الدينيّة)، فإنّ الأديان التي ترتبط بشكل مفرط مع الأماكن و/أو الثقافات، مثل الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة، ستواجه صعوبة في التكيّف مع الأطر الجديدة للعولمة، والفضائيّات، والإنترنت، والشبكات الافتراضيّة. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ التقاليد الدينيّة التي تتميّز بالقدرة على التحرّك غير المرتبطة مع أيّ ثقافة محدّدة، وغير المحصورة بحدود جغرافيّة ضيّقة، مثل البروتستانتيّة والإسلام السلفيّ، سوف تتحرّك بسهولة كبرى، وستلاقي المزيد من »النجاح« في »السوق الحرّة« للدين.

٤- ومع ذلك، فإنّ فهم الإيمان والكنيسة كـ»هويّة« و»ثقافة« أدّى، في كثير من الأحيان، إلى استغلال الإيمان لاستخدامه في أغراض مواضيع ليست ذات صلة (وطنيّة، اجتماعيّة)، رغم شرعيّتها (دنيويًّا). بهذا لا يبقى الإيمان الهدف النهائيّ والأسمى، بل يتحوّل إلى أداة لتحقيق غايات وأهداف أخرى. هذه الظاهرة معروفة تمامًا في العالم الأرثوذكسيّ، ذلك بسبب من الكنائس الوطنيّة والتي تلتزم فكرة الدولة القوميّة. ورغم إدانة مجمع القسطنطينيّة العام 1872، للنزعة »القوميّة«(٩) في الكنائس، فإنّ هذه النزعة لا تزال، مع ذلك، الإطار الأساس لتنظيم الكنائس الأرثوذكسيّة وعملها في العالم الحديث. طبعًا، في الشرق الأوسط، نحن لا نتعامل مع الظاهرة ذاتها تمامًا، لكون المسيحيّين هناك لا يشكلّون سوى أقلّيّة عدديّة، بالنسبة إلى عدد السكّان، فليس لديهم أيّ طموح على هذا المستوى. لنأخذ مثالاً واحدًا، في حالة فلسطين، هناك خطر حقيقيّ يكمن في الرغبة المشروعة تمامًا للشعب الفلسطينيّ من أجل الحصول على اعتراف دوليّ وإنشاء دولة معترف بها دوليًّا، حيث يمكن أن يؤدّي ذلك إلى استغلال الإيمان من أجل إخضاع الهويّة الكنسيّة للهويّة الوطنيّة، التي ستصبح نقطة التركيز الرئيس، الأمر الذي سيغيّر جوهر الهويّة المسيحيّة. بالإضافة إلى ذلك، وعلى صعيد كنسيّ آخر، بل على مستوى العالم الأرثوذكسيّ، لدينا الاستبعاد والتغريب المنهجيّين للأرثوذكس العرب من الإدارة والقيادة في البطريركيّة الأرثوذكسيّة اليونانيّة في القدس، رغم أنّ هؤلاء يشكّلون الأغلبيّة الساحقة من الرعيّة التي لا تزال تُرعى بواسطة هيرارخيّة (قيادة هرميّة) من اليونانيّين حصرًا (أو ما يسمّى تقليديًّا بـ»الروم«، كما يذكّرنا الأب رومانيذس، الأمر الذي لا يهدّد فقط بحرمان الطائفة الأرثوذكسيّة في فلسطين والأردن من الموظّفين ورجال الدين المتعلّمين والذين يتمّ تدريبهم لاهوتيًّا، بل أيضًا من المرجّح جدًّا أن يؤدّي إلى أنواع مماثلة من المشاكل الكنسيّة. وفي الوقت عينه، النزعة القوميّة (ethnophyletism) لدى الرهبان اليونانيّين قد تؤدّي، في المستقبل غير البعيد جدًّا، إلى نزعة قوميّة عربيّة وصراعات لا مفرّ منها بين أبناء البطريركيّة (بين الفلسطينيّين والأردنيّين، بل أيضًا بين الفلسطينيّين والأرثوذكسيّين ذوي الثقافة الروسيّة، وذوي الأصول اليهوديّة)، فضلاً عن ولائهم الكامل للقيادة السياسيّة(١٠).

٥- الكثير منّا، الذين ليسوا من الشرق الأوسط، لديهم شعور بأنّه بين المسيحيّين هناك يتنامى عدم الأمان والميل إلى البحث عن ملجأ، لأنّهم غالبًا ما يكونون ضحايا نزاعات عرقيّة وطائفيّة متنوّعة، وللأصوليّة الناشئة (الإسلاميّة واليهوديّة)؛ كذلك هم ضحيّة تطلّبهم الخاصّ لمستوى عالٍ في المعيشة والتعليم والثقافة، الأمر الذي يعطيهم المزيد من إمكانيّة التنقّل، والمزيد من الخيارات، وأوّلها الهجرة. لا أستطيع هنا أن أتحدّث أكثر عن الأسباب الظاهرة والكامنة وراء هذا الوضع، كما أنّي لست متأكّدًا تمامًا من المدى الفعليّ للهجرة اليوم. ليس من الممكن، مع ذلك، ألاّ نولي اهتمامًا كافيًا لبعض الإشارات التي تبدو مقلقة حقًّا. لقد رأينا، على سبيل المثال، النتائج الكارثيّة للغزو الأميركيّ للعراق ولهجرة المسيحيّين المتزايدة من هذا البلد. في سورية اليوم عدد كبير من المسيحيّين، بمن في ذلك القيادات الكنسيّة، يدعمون نظام الأسد. في سورية، بسبب الانتفاضة التي يبدو، غالبًا، أنّها تحمل طابعًا إسلاميًّا، يخشى المسيحيّون، إذا نجح الإسلاميّون، على مستقبلهم وحياتهم واستمرار وجودهم المادّيّ. على كلّ حال، فإنّ حالات كلّ من العراق وسورية ليست مصدر القلق الوحيد: البقاء الهامشيّ والصعب لبطريركيّة القسطنطينيّة المسكونيّة في اسطنبول. والاختفاء شبه الكامل للمسيحيّين في جنوب شرق تركيا. الحضور غير المؤكّد للأقباط في مصر، رغم ديناميّتهم وحجمهم. والتغيّرات الديموغرافيّة في لبنان على حساب المسيحيين وشبح الحرب الأهليّة. والتقلّص الكبير في عدد السكّان المسيحيّين في فلسطين والأراضي المقدّسة، مهد المسيحيّة القديم. كلّ هذا، وهناك المزيد من عدم اليقين وعـدم الاستقـرار للشعـوب المسيـحيّة في الشـرق الأوسـط(١١).

أنا لا أعرف إن كنت قد فهمت وحلّلت بشكل جيّد، هذه المشاكل والتحدّيات الكبيرة التي يطرحها هذا الوضع الجديد للمسيحيّين في الشرق الأوسط. والآن عند انهيار الأنظمة الاستبداديّة والديكتاتوريّة سيحملهم هذا الوضع على اتّخاذ موقف: إمّا دعم الموجود القديم، أو المخاطرة بالوضع الجديد. كما أنّني لست متأكّدًا بأنّني فهمت وفسّرت بشكل صحيح مشاعر المسيحيّين في المنطقة اليوم. لكنّي أودّ أن أؤكّد لهم ولكم أنّ كلّ ما قلته هو ثمرة حبّي وحزني على الوجود والشهادة المسيحيّين في منطقة الشرق الأوسط، تمامًا كما على حاضر المسيحيّين ومستقبلهم هناك.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search