2012

01 – الإفتتاحيّة – سبعون - المطران جورج خضر- العدد 2 سنة 2012

سبعون

المطران جورج خضر

 

كلمة اللَّه هي كلّ شيء. هذه الرؤية هي تأسيس الحركة. وكلّما نأت الكنيسة عن هذه الرؤية، وقعت في انحطاط. وهذا لا يزول إلاّ إذا رأت الجماعة أنّها تتكوّن بالكلمة الذي كان في البدء، وأنّها أخذت تعود إلى هذا الكلمة.

وبعد صعود يسوع إلى السماء، ترك لنا إنجيله بإلهام الروح. وإنجيله هو إيّاه. وإذا ابتلعته بالروح القدس، يتصوّر المسيح فيك، ويؤهّلك للكلام عليه، ويكون بشارة بالانتقال، ويصير المسيح ذاته في الآخرين.

قراءة الكتب المقدّسة هي درسها، تمحيصها الدائم حتّى لا يبقى عنها فيك شيء غامض. هذا شغف القراءة، ويتطلّب عمرك الكامل. وتستوعب ما شاء لك الروح أن تستوعب، والغاية أن تصير أنت إنجيلاً يحسّ الكتاب المدوّن إحساسًًا عظيمًا.

تنفق، اذًا، وقتًا كثيرًا لاستدخال الكتاب في ذاتك، فتحبّه على كلّ قراءة بما في ذلك كتب الأعظمين، عندنا لأنّ أحدًا لا يتكلّم على اللَّه كما تكلّم هو على نفسه. تفحص كلّ شيء على ضوئه كما تستخرج معناه من الآباء القدّيسين.

تقرأ كلّ شيء في العهد الجديد بخاصّة من دون إهمال العهد القديم. وتتابع وتعود إلى كلّ الأسفار، ولو كان حقّك أن تؤثر هذا السفر على ذاك، ولكن لا تنحصر في سفر أو في بعض من سفر. صِر من هذا الإنجيل فكرًا وعملاً. وإذا كنت واعظًا، لا ترتكز إلاّ على الكتاب الإلهيّ والتراث لا على مصدر فكريّ من أهل الدنيا.

ليس للحركة مضمون إلاّ كتاب اللَّه كما تقبّلت معناه كنيستنا. لذلك كان أيّ تفتيش عن مضمون آخر أو إضافيّ ليس سعيًا إلهيًّا وكان تهلكة. البحث عن الجديد بحث في الأسلوب أو تقنيّات العمل. مضمون الحركة ثابت إلى أن يجددنا اللَّه برحمته ويساعدنا بزخم جديد على إعطاء الحركة نفسها إلى الأجيال الصاعدة.

التعبير قد يختلف من جيل إلى جيل، ويبقى ما دُفع إلينا مرّةً لأنّه من الوديعة. والوديعة تأمرنا بقول الحقيقة لمن نسيها، قول الحقيقة للكنيسة كلّها بروح النبوءة إن هي نسيت أنّ الإنجيل حياتنا، أي إذا صارت محض طقوس تتكرّر، ونتلوها بفهم أو بغير فهم. والفهم يظهر الليتورجيا خدمة نفوس حيّة، تتحرّك بكلمة اللَّه المحيية. لذلك أكّدت الحركة دومًا عيش الليتورجيا في عمق النفس وعيش مديدها في كلّ كتبها ومواسمها وتذوّقها واعتبارها ناقلة لإنجيل يسوع المسيح.

الليتورجيا هي كلمة اللَّه منقولة إلينا بشكل عرفته المسيـحيّة الأولـى وفـي الشـرق خـــلال الألفــيّة الأولى. هي لغة تعبير من حيث المبدأ يستوعبه الشعب. الوحي يتحقّق فيـها، وينقله أشخـاص تقبّـلوا الرسـامة الكهنـوتـيّة في التـآزر الإيمانيّ مع الإخوة العلمانيّين. الليتورجيا تمسرح الكلمـة وتتمـاسّّ أنت وإيّاها بصورة مسهّلة من حيث التعبير، ولكن عمق الكلمة الإلهيّة يبقى واحدًا فيها وفي الكتاب.

لذلك فهمت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة هذا التنازل الإلهيّ والتصاقه ببشريّتنا على رجاء ارتفاعها إلى الألوهة. ونتج من هذا أنّ الأرثوذكسيّين جميعًا باتوا يتناولون كلّ أحد جسد الربّ ودمه، ويرحّب بهم بعد أن كانوا مبعدين عن الكأس خارج الأسبوع العظيم.

وما كشفته الحركة دون بنيان نظريّ في بدئها أنّ العلمانيّين أعضاء في جسد المسيح وكهنوت ملوكيّ وأمّة مقدّسة، ولم يعترض المطّلعون لاهوتيًّا على استقبالهم لهم مبلّغين لكلمة اللَّه غير المحصورة في فئة من شعب اللَّه. والتجديد في ما قمنا به أنّ العلمانيّين لم يبقوا فقط مسؤولين عن المال والأوقاف وإنشاء المجالس الملّيّة، ولكنّهم وعوا أنّهم شعب اللَّه، وأنّهم واحد في جسد المسيح مع الكهنة والأساقفة.

الجانب التنظيميّ كان لا بدّ منه لضرورة دعوة الناس إلى الكلمة وإقامة الأسرار. كان يجب أن يلتحم المستنيرون بالدعوة الجديدة وأن يحبّوا بعضهم بعضًا، ليقتبس الناس فكر المسيح من أعمالهم الصالحة وفكرهم المستقيم، فكانوا يجتمعون على أساس التجانس العقليّ وعلى أساس العمر فئات مختلفة في ما عرف بالأمانة العامّة والمراكز والفروع والمؤتمرات. كلّ هذه كانت أدوات لإيصال الفكر المتجدّد والترسّّخ في روح الربّ والتعاون الخيريّ في تحابّ كبير كان يبني الجماعات في تراصّ قويّ، واللحمة كانت الكلمة.

أجل، في كلّ مسيرة عثرات. هناك من تخلّف عن الموكب، ولكن هناك من ثابر منذ سمع الصوت، وتأتي الأجيال ولا تنقطع بسبب حلاوة النداء والأخوّة العظيمة التي جمعت وما تزال من عرفوا الكلمة وأعطوا لها نفوسهم. من هؤلاء الناس من ذهبوا في التجنّد إلى الرهبانيّة والكهنوت، والكلّ ذاق حبّ يسوع وفتح له قلبه، لئلاّ تمسّه خيانة. في أماكن كثيرة كان صيد كبير وارتفع صوت الشكر واشتياق الربّ. ومات الكثيرون خلال سبعة عقود على رجاء القيامة والحياة الأبديّة، وعاشت قلّة استضعفها الأقوياء باكية مستغفرة حرّة من كلّ كراهيّة ومرارة.

من ذكرى الحبّ هذه إلى أين؟ إلى الينابيع الغزيرة الفائضة صافية، إلى كلمة الحياة التي لا تغضب، إلى معايشة الجماعة الطالبة الألوهة في صرخة واحدة ضدّ كلّ ظهورات الشرّير، في الالتماس الواحد لمجيء المسيح في حياتنا على مستوى أعماقها.

أن تأكل الكلمة وأن تأكل الجسد واحد. لا يعطيك المسيح شيئًا من الوجود. يعطيك ذاته بحيث يراك الروحانيّون مرآة له. وإذا قال الربّ يسوع: »ملكوت اللَّه في داخـلكم« يعني أنّه هو الذي ينبسـط في الملكـوت، فـإنّه مداه.

في إرادة الأوائل، في تدقيق نيّاتهم ومسعاهم إلى أن يعرفوا المسيح وحده سيّدًا لحياتهم، ليبطل فيهم كلّ ما سواه، وهو مبدئ بهاءه في أرواحهم العطشى إلى التجلّي. أن نكون في ثابور، كان لبعض كلّ شيء. أن تصبح الدنيا ثابور، هو أسمى ما يمكنك أن تصبو اليه.

حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة تمتمة فردوسيّة. الذوّاقون للفردوس عرفوا ذلك. التوّاقون للأنا ماتوا في الأنا. نأخذهم جميعًا في صلاة استغفار، لتسطع رحمة اللَّه إذا تجلّى. المهمّ أن تنعتق الكنيسة من جمود الكثيرين. فالكنيسة ليست مؤسّّسة أو تنظيمًا. هي حركة وراء المسيح أو في ذات المسيح.

المستقبل متروك لحنان اللَّه. واللَّه يتحرّك بالمحبّة الثالوثيّة التي هي وحدانيّته، ويريدنا في حركته إلى ذاته أن ننضمّ إليه. يريد أن يسعى إلينا.

من فهم هذا، يكون من حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، أو يكون ساعيًا إليها، أي إلى وجه يسوع قبل القيامة الأخيرة. مُجِّد اللَّه ومُجِّد القدّيسون فيما نحن أحببنا من هنا أن نمشي في السماء.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search